رغم جمود الحل السياسي.. لماذا تقلص دول مانحة تمويلها للاجئين السوريين؟
"مؤتمر بروكسل الثامن جعل الوضع الإنساني بسوريا في مهب الريح"
يتراجع مانحون دوليون يوما بعد آخر عن تقديم التعهدات المالية، التي تناسب احتياجات النازحين واللاجئين السوريين التي تتفاقم مع جمود الحل السياسي منذ أكثر من عقد.
وبات من الواضح أن توجيه الدول أولوياتها لأزمات دولية جديدة تلقي بظلالها على الشعب السوري الذي تزداد معاناته مع جمود الحل السياسي ورفض نظام بشار الأسد تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة.
يد شحيحة
ففي مؤشر جديد على الانحسار الملحوظ في مستوى الدعم المقدم للسوريين، تعهدت الجهات المشاركة في مؤتمر "بروكسل 8 حول دعم مستقبل سوريا والمنطقة" بتقديم مساعدات مالية بقيمة 7.5 مليارات يورو (8.1 مليارات دولار) على شكل منح وقروض لمساعدة السوريين.
وخلال المؤتمر الوزاري للمانحين الذي عقد في 27 مايو 2024 بالعاصمة البلجيكية بروكسل، بلغ إجمالي التعهدات 5 مليارات يورو على شكل منح، بينها 3.8 مليارات يورو لعام 2024، و1.2 مليار يورو لعام 2025 وما بعده، أما باقي المبلغ (2.5 مليار يورو) فسيكون على شكل قروض.
وهذه التعهدات التي جرى الإعلان عنها في "بروكسل 8" تجاوزت المبلغ المتواضع البالغ 4.07 مليارات دولار الذي ناشدت الأمم المتحدة لجمعه، ولكنها في المقابل شهدت انخفاضا كبيرا عن المبالغ التي جرى التعهد بها في عام 2023 والأعوام السابقة.
فقد تعهد المانحون في مؤتمر "بروكسل 7" عام 2023 بتقديم 10.3 مليارات دولار للسوريين، بعد أشهر قليلة من الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وأربع محافظات سورية في 6 فبراير/ شباط 2023، ما أسفر عن مقتل أكثر من 59 ألف شخص، بمن في ذلك 6000 في سوريا.
وقبل انعقاد مؤتمر "بروكسل 8" حثت المجتمعات المحلية السورية على زيادة المساعدات الإنسانية ودعم سبل العيش في شمال غرب سوريا الخارجة عن سيطرة نظام الأسد والتي يوجد فيها نحو 5 ملايين شخص يعانون من أوضاع إنسانية مأساوية.
فقد انخفضت نسبة الدعم الدولي للمنظمات العاملة شمالي غرب سوريا إلى أكثر من 90 بالمئة وفق التقديرات، مما انعكس بتأثير سلبي على القطاعات الخدمية والصحية والإغاثية كافة في الشمال السوري.
وسلط مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، خلال كلمته في "بروكسل 8" الضوء على الوضع في سوريا قائلا إنه "اليوم أكثر خطورة مما كان عليه قبل عام.. في الواقع، لم يكن الوضع يوما بهذه الخطورة كما أن الاحتياجات الإنسانية لم تكن يوما بهذا الحجم".
وأضاف: "حاليا يحتاج 16,7 مليون سوري إلى مساعدات إنسانية، وهو أعلى مستوى منذ بداية الأزمة قبل أكثر من 13 عاما".
ويتوزع هؤلاء السوريون في الداخل وفي دول اللجوء المجاورة المضيفة لهم (لبنان وتركيا والأردن والعراق).
ولفت بوريل إلى أن “التحديات الرهيبة التي تواجهها المنطقة اليوم لا يمكن أن تصرف انتباهنا عن الاستمرار في الضغط من أجل التوصل إلى حل سياسي بسوريا، بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254”.
والقرار رقم 2254 صادر عن مجلس الأمن الدولي عام 2015 و"ينص على تطبيق الحل السياسي عبر أربع سلال: الحكم الانتقالي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب".
وعلى الفور حذرت "لجنة الإنقاذ الدولية" في بيان، من أن التعهدات التي تم الإعلان عنها في مؤتمر بروكسل الثامن لدعم مستقبل سوريا والمنطقة "غير كافية بشكل مثير للقلق"، داعية الجهات المانحة إلى الوفاء بالتزاماتها في سوريا.
وقالت مديرة "لجنة الإنقاذ" في سوريا، تانيا إيفانز، إن "الأثر المدمر لنقص التمويل يثير قلقا عميقا، وإجمالي التعهدات غير كاف على الإطلاق لتغطية الاحتياجات المتزايدة في سوريا"، مضيفة أن "تخفيضات التمويل المستمرة تجبر الوكالات على اتخاذ قرارات صعبة فيما يتعلق بإغلاق برامجها".
إذ إنه باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، فإن "الأسر السورية تنزلق إلى مزيد من الفقر، في حين يكافح نحو 13 مليون شخص من أجل العثور على ما يكفي من الغذاء، ويجد 9 من كل 10 لاجئين سوريين صعوبة في تلبية احتياجاتهم الأساسية".
وفي رسالة وجهها إلى مؤتمر بروكسل الثامن، قال غوتيريش إن "أكثر من نصف السكان أجبروا على ترك منازلهم، ومازالوا يعيشون في مساكن مؤقتة، ونحو 7 ملايين نازح داخل سوريا، و5.6 ملايين آخرين لاجئون في مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا، وفي جميع أنحاء أوروبا وخارجها".
"في مهب الريح"
عانى ملايين السوريين الذين اعتمدوا على المساعدات الأممية عقب عام 2011 من عدم التزام المانحين الدوليين بتعهداتهم وترك المحتاجين يواجهون مصيرهم في ظل القرارات المفاجئة لخفض الدعم.
واعترف "برنامج الأغذية العالمي" التابع للأمم المتحدة في 13 يونيو/حزيران 2023، بأن "أزمة التمويل غير المسبوقة في سوريا أجبرت برنامج الأغذية على تخفيض مساعداته لحوالي 2.5 مليون شخص من حوالي 5.5 ملايين يعتمدون على المساعدات التي تقدمها الوكالة لاحتياجاتهم الأساسية من الغذاء".
اللافت أن انخفاض الدعم للعوائل المحتاجة في مخيمات النزوح داخل سوريا أو في بلدان اللجوء بلبنان والأردن، يخيم عليه عدم التزام الدول بتعهداتهم المالية.
ولهذا شكك فريق "منسقو استجابة سوريا" المعارض، بقدرة الدول المانحة على الوفاء بالتعهدات التي قدمتها في مؤتمر بروكسل الثامن لدعم "مستقبل سوريا والمنطقة".
ورأى الفريق في بيان بعد انتهاء فعاليات مؤتمر بروكسل في 27 مايو 2024، أن جميع المبالغ المعلن عنها "وهمية كعادة النسخ السابقة من المؤتمر، من خلال الإعلان عن دفعات تمويل هائلة، ولا يتم الالتزام بها من قبل المانحين، وهو ما ظهر واضحا في النسخ السابقة".
ورأى الفريق أن الدول المانحة "لم تستطع منذ انطلاق مؤتمر بروكسل الالتزام بما يتم التعهد به، وتلجأ الوكالات الدولية إلى إطلاق مناشدات عاجلة لتمويل عملياتها الإنسانية في سوريا".
وعلقت وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية على تراجع تعهدات المانحين لعام 2024، بأنه مؤشر على استمرار إرهاق المانحين، حيث يتركز اهتمام العالم على الصراعات في أماكن أخرى، بما في ذلك الحروب في أوكرانيا والسودان وغزة.
و"بروكسل" هو مؤتمر دوري حول دعم مستقبل سورية والمنطقة، وكان قد انطلق لأول مرة في أبريل/ نيسان 2017.
ويعيش في شمال غربي سوريا (الشمال السوري)، 5 ملايين نازح، كانت تدخل المساعدات الإنسانية الدولية إليهم عبر معبر "باب الهوى" الحدودي مع تركيا الواقع شمال إدلب، والذي يعد الشريان الوحيد المفتوح لإغاثتهم بموجب قرار مجلس الأمن، قبل أن يجرى فتح معبري باب السلامة والراعي بتفويض أممي (حتى 13 مايو 2024) عقب زلزال 6 فبراير 2023.
وضمن هذا السياق، أكد منسق تحالف المنظمات السورية، سارية عقاد، أن "المشكلة تكمن في توزيع الأموال التي أقرت في مؤتمر بروكسل الثامن بين الداخل السوري ودول الجوار".
وأضاف خلال تصريح تلفزيوني في 29 مايو أنه "في عام 2023 وصل قرابة 40 بالمئة من نسبة أموال المانحين الدوليين إلى سوريا لكي تغطي الاستجابة الإنسانية بينما صرفت النسبة الأخرى على دول الجوار لتحمل أعباء اللاجئين".
ولفت عقاد إلى أن "النقاشات الموجهة إلى المانحين دعتهم ليس فقط إلى تقديم السلال الغذائية وتحسين المياه بل يجب الانخراط الفعلي في مشاريع التعافي المبكر والتمكين الاقتصادي".
وألمح إلى أن "مؤتمر بروكسل الثامن جعل الوضع الإنساني بسوريا في مهب الريح، عبر تحميلهم سبب المعاناة رغم أنهم ضحايا لغياب أي رؤية واضحة للحل السياسي بسوريا الذي غاب عن مؤتمر بروكسل الثامن عبر القرار الأممي 2254".
وذكر أن "خطط الاستجابة الإنسانية في سوريا حتى منتصف عام 2024 بلغت نسبتها 10 بالمئة وهذه فجوة كبيرة وخاصة مع غياب دعم المانحين العرب في بروكسل 8 باستثناء دولة قطر التي تعهدت بتقديم 75 مليون دولار لدعم الجهود والتدخلات الإنسانية لصالح الشعب السوري".
جملة تحذيرات
ويؤكد مراقبون، أن انخفاض التمويل يقود إلى دفع اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم إلى "مزيد من الفقر واليأس".
أما في مخيمات النزوح في الشمال السوري، الذين تغيب عنهم فرص العمل والدخل، ويعتمدون بشكل كامل في قوتهم على المساعدات الدولية فإن أكثر من 200 ألف عائلة لم تعد تتلقى المساعدات ولا يتوفر لديها الأمن الغذائي.
وحدث ذلك، منذ أن أنهى برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة برنامج مساعداته الرئيس في سوريا خلال يناير/كانون الثاني 2024، وهو ما عمق حالة الفاقة المعيشية وانعدام الخيارات البديلة للنازحين.
لا سيما أن أكثر من 456 مخيما قرب الحدود السورية التركية من أصل 1211، كان مكفولا من برنامج الغذاء العالمي، بعدد مستفيدين يصل لـ991 ألفا و740 نازحا.
واضطرت معظم العائلات السورية إلى تخفيض عدد الوجبات اليومية للطعام بعد تقليص الدعم الإنساني الدولي بسبب نقص التمويل الموجه للبلاد، لا سيما في مخيمات النازحين.
وتحدثت "ردينة السالم" عن عائلتها التي تعيش في خيمة في شمال غرب سوريا لوكالة "أسوشيتد برس" قبيل انعقاد مؤتمر بروكسل الثامن بأيام، بقولها إنها تكافح من أجل العثور على ما يكفي من المياه للشرب والاحتياجات الأساسية الأخرى مثل الطبخ والغسيل حيث لم يشهد مخيمهم شمال مدينة إدلب أي مساعدات منذ ستة أشهر.
وقالت ردينة وهي أم لأربعة أطفال: "كنا نحصل على المساعدات الغذائية ومستلزمات النظافة، أما في الوقت الراهن فلم نحصل على الكثير منذ فترة".
وضمن هذا الصدد، أكد نائب المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، كارل سكاو، لوكالة "أسوشيتد برس" في 26 مايو 2024 بالقول: "لقد انتقلنا من مساعدة 5.5 ملايين شخص سنويا إلى حوالي 1.5 مليون شخص في سوريا".
وتعليقا على الوضع الإنساني للنازحين داخل سوربا واللاجئين في دول الجوار، قال رئيس هيئة التفاوض السورية المعارضة، بدر جاموس إن "الوضع الإنساني والصحي والتعليمي يزداد سوءا وكارثية يوما بعد يوم".
وشدد جاموس في كلمة على هامش مؤتمر بروكسل الثامن، على أن "النظر إلى قضية اللاجئين السوريين من منظور إنساني بحت هو خطأ كبير، ويجب عدم التفكير بهذا المنطق".
وأوضح أن "مشكلة اللاجئين هي مشكلة ذات جذر سياسي بامتياز، ولا يمكن حل أزمة اللاجئين المأساوية التي تطول الملايين إلا بحل سياسي واضح المعالم وفق القرارات الدولية، وعلى رأسها بيان جنيف والقرار 2254، المتفق عليهما من قبل المجتمع الدولي أجمع".
وهذه المرة الأولى التي تشارك فيه "هيئة التفاوض" في مؤتمر بروكسل بشكل رسمي، وكمتحدث أساسي، ودعوة قيادتها وأعضاء فيها لتكون حاضرة في صلب المؤتمر وفعالياته.
ويقرأ هذا كموقف سياسي واضح للاتحاد الأوروبي بدعم الهيئة في عملية التفاوض مع نظام الأسد حول الحل السياسي بسوريا وفقا للقرار الدولي 2254.