خرائط بحرية وتهديدات عسكرية.. لماذا عادت اليونان لاستفزاز تركيا؟

التصعيد اليوناني تجاه تركيا لا يتعلق فقط بتصريحات عسكرية أو خرائط بحرية
تشهد الساحة السياسية في شرق البحر الأبيض المتوسط أخيرا، تطورات مثيرة للجدل بين أنقرة وأثينا فيما يتعلق بالقضية القبرصية، مما أثار قلق الرأي العام التركي.
واستعرضت صحيفة يني شفق التركية في مقال للكاتب "يحيى بوستان" آخر التصريحات والتحركات اليونانية التصعيدية خلال أبريل/نيسان 2025، بعد فترة جيدة من الهدوء مع تركيا.
وقالت: إن أوّل تطور يتمثل في التصريح المثير للجدل لرئيس هيئة الأركان العامة اليونانية ديميتريوس خوبيس، الذي قال فيه: إن "تركيا لا تزال تشكل تهديدا، ونحن مستعدون للتدخل خلال خمس دقائق".
أما التطور الثاني، فكان تقديم أثينا للاتحاد الأوروبي خريطة تخطيط الحيز البحري، والتي تشبه في جوهرها خريطة إشبيلية التي كانت السبب في تشكيل مبدأ "الوطن الأزرق" التركي.
وهذا المبدأ يقوم على تجسيد حلم تركيا في تعزيز السيادة البحرية في البحار المحيطة بها وهي: المتوسط وإيجة ومرمرة والأسود، لتصبح مساحة هذا الوطن بيابسه وبحاره نحو مليون وربع المليون كيلومتر مربع.
ورغم الضجة الإعلامية التي رافقت هذه التصريحات والتحركات، فإن جوهر القضية أعمق بكثير، وفق الكاتب التركي.
وتابع أن “المسألة لا تتعلق فقط بتصريحات عسكرية أو خرائط بحرية، بل ترتبط بتحركات إستراتيجية ينفذها محور إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية”.
وهذه التحركات “تشمل نشر بطاريات عسكرية إسرائيلية في الجزر القريبة من تركيا، وتصل إلى حد التخطيط لإنشاء تنظيمات إرهابية في قبرص”.

تخطيط الحيز البحري
وأوضح الكاتب: لفهم خريطة التخطيط البحري اليونانية لا بد من العودة إلى عام 2004، حين طلبت اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) من الدول الأعضاء إعداد مخططات لاستخدام المساحات البحرية للحد من التلوث البيئي.
وعلى إثر ذلك فقد حوّل الاتحاد الأوروبي بدوره هذا الطلب إلى التزام قانوني على أعضائه في عام 2014.
لكنّ أثينا تريثت في تنفيذ هذا الإجراء لتجنب إثارة الخلاف مع أنقرة، إلى أن رفعت المفوضية الأوروبية دعوى قضائية ضدها وربحتها، وهنا اضطرت اليونان إلى التحرك.
وبحسب مصادر دبلوماسية، أبلغت الحكومة اليونانية الجانب التركي مسبقا، وأشارت إلى أن الخطوة ليست سياسية بقدر ما هي استجابة لحكم قضائي.
ولذلك لم يكن مفاجئا أن تعلن أنقرة في اليوم نفسه عن مسودة تخطيطها البحري الخاص.
وعلى الرغم من كل هذه المخططات، فإنه من منظور القانون الدولي، لا تمتلك هذه الخرائط أيّ قيمة قانونية فعلية ما لم تُعقد اتفاقيات ثنائية تحدد بوضوح مناطق الصلاحية البحرية.
وعلق الكاتب التركي: "إن خريطة أثينا ليست سوى ورقة تفاوض أولية، هدفها رفع سقف المطالب قبل الجلوس إلى طاولة الحوار ومن هنا تأتي تسميتي لها بأنها سطحية، رغم ما تثيره من ردود فعل سياسية وإعلامية".
أما تصريح رئيس هيئة الأركان اليونانية، فهو أقرب إلى خطاب استفزازي منه إلى تهديد واقعي.
فالتصريحات العسكرية التي لا تستند على نوايا أو تحركات ميدانية فعلية غالبا ما تكون للاستهلاك المحلي أو لإرسال رسائل سياسية ضبابية، "لذلك، لا أرى فيها ما يستحق القلق أو الرد".

من الدبلوماسية إلى التصعيد
وأردف الكاتب: بينما كانت الأنظار تتجه نحو التطبيع بين أنقرة وأثينا، جاءت التطورات الأخيرة لتكشف عن واقع مغاير بل وصادم في العلاقة بين الجارتين.
فعلى الرغم من الاجتماعات المتكررة على مستوى وزراء الخارجية والتخطيط لعقد مجلس تعاون رفيع المستوى بين القيادتين، اختارت أثينا طريق المماطلة والتأجيل، والسبب في ذلك لا يعود إلى عقبات تقنية، بل إلى حسابات إستراتيجية عميقة.
واستدرك الكاتب: إن الابتعاد اليوناني عن مسار التطبيع لم يكن ارتجاليا، فهناك ثلاثة عوامل رئيسة تفسر هذا التراجع:
أولاً، التحول في سوريا: حيث قلقت اليونان من تزايد نفوذ تركيا في دمشق مما سيؤثر بدوره على التوازن في الشرق الأوسط.
ثانيا، عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المشهد، بالإضافة إلى الضغط الروسي الذي جعل أوروبا تبحث عن قنوات اتصال أوسع مع أنقرة، وهو ما رأت فيه أثينا تهديدا مباشرا لعلاقاتها الخاصة داخل الاتحاد.
ثالثا، الدور الإسرائيلي المحرّض؛ حيث تعمل تل أبيب على جرّ أثينا وإدارة قبرص اليونانية إلى مواقف أكثر عدائية تجاه أنقرة، ضمن صراع أوسع تحاول فيه إسرائيل تشتيت تركيز تركيا عن ملفات غزة وسوريا.
وأردف الكاتب التركي: لم يكتف التحالف الثلاثي بين إسرائيل واليونان وإدارة قبرص اليونانية بالتحركات السياسية، بل بدأ مرحلة جديدة من التصعيد المنظم شملت خطوات عسكرية واستفزازات مباشرة.
أولها كان فتح اليونان قنوات التفاوض مع إسرائيل لشراء نظام دفاعها الجوي المتقدم بهدف نشره في جزر بحر إيجة.
ثانيا، إبرام أثينا صفقة لشراء 38 نظام إطلاق صواريخ متعددة من شركة "إلبيت سيستمز" الإسرائيلية، في خطوة تهدف لتعزيز الجزر عسكريا.
ثالثا، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (عملية طوفان الأقصى) تحوّلت إدارة قبرص اليونانية إلى مركز دعم لوجستي واستخباراتي للجيش الإسرائيلي، في نفس الوقت الذي وقّعت فيه اتفاقية أمنية مع واشنطن.
رابعا، سعت أثينا لإفشال صفقة بيع صواريخ "ميتيور" لتركيا عبر ضغوط أوروبية، دون أن تحقق نتائج تُذكر.
والأسوأ كان الإعلان عن تأسيس تنظيم إرهابي في جنوب قبرص تحت اسم حركة المحاربين من أجل الحرية الثورية، والذي يهدد ببدء كفاح مسلح ضد الوجود التركي في الجزيرة، وفق وصف الكاتب.

التوترات مع إسرائيل
واستدرك: إن إنشاء منظمة إرهابية مسلحة داخل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تطور يستحق الوقوف عنده بجدية.
فلم يعد الأمر مقتصرا على مجرد قضايا سياسية أو أمنية محلية، بل أصبح يشير إلى توتر متصاعد يمكن أن ينعكس على الاستقرار الإقليمي برُمّته.
وأردف: "إذا نظرنا إلى هذا التطور في سياق الأحداث الأخرى في المنطقة، يبدو من الواضح أن هناك جهات معينة تقف وراء هذا النشاط الإرهابي".
وتابع: "من الأخبار اللافتة في هذا السياق هو ما حدث في الشقّ اليوناني من قبرص خلال احتفالات عيد الفصح، حين أحرق مجموعة من الشباب صورة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، في احتجاج شعبي على ضعفه في مواجهة تركيا".
ورأى أن "هذه الحادثة تشير إلى أن هناك حالة من الاستياء الشعبي المتزايد، والذي يخلق بدوره بيئة خصبة لتنمية الأفكار المتطرفة التي قد تجد في التنظيمات الإرهابية وسيلة للتعبير عن نفسها".
بينما نجد في الشقّ التركي من قبرص (جمهورية شمال قبرص التركية) أنه من المتوقع إجراء انتخابات رئاسية خلال الأشهر المقبلة، ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي في الجزيرة، يقول الكاتب.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ النقاش الدائر حول قضايا مثل العلمانية قد يكون له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذه التحولات الإقليمية المتسارعة، مما يجعل من الضروري مراقبة التطورات بعناية.
على الجبهة الأخرى، لا يمكن إغفال التوترات المستمرة بين تركيا وإسرائيل، خصوصا في سوريا؛ حيث اتفق البلدان على إنشاء آلية "لمنع الاشتباك"، وذلك لتجنب المواجهات العسكرية المباشرة بين قواتهما على الأراضي السورية.
وقد عُقد الاجتماع الأول في العاصمة الأذربيجانية باكو (في 9 أبريل 2025)، لكنه لم يسفر عن نتائج حاسمة.
ويظل عقد الاجتماع الثاني مرهونا برد الجانب الإسرائيلي؛ إذ تشير التقديرات إلى احتمال عدم الحاجة إليه أصلا في حال إظهار إسرائيل استجابة واضحة تجاه الحساسيات التركية.
ومع ذلك، إذا لم تتم تلبية المطالب التركية بشكل كافٍ، فمن المنتظر عقد جولة ثانية، وفق الكاتب.
لكن من الضروري أن تخرج هذه الجلسة بنتائج ملموسة؛ لأن استمرار الغموض أو تجاهل المطالب التركية يعني ببساطة أن اجتماعا ثالثا لن يكون مطروحا على الطاولة، بحسب تقديره.
وختم بالقول: "إذا فشلت هذه الجهود في تلبية الحساسيات التركية، فإن الأمور قد تتجه نحو طريق مسدود، ما قد يزيد من التوترات بين الطرفين".