اتحاد أكسفورد للمناظرات.. جمعية عمرها قرنان مهددة بالانهيار بسبب غزة

داود علي | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

منذ أكثر من قرنين، وتحديدا في عام 1823، تأسس اتحاد جامعة أكسفورد البريطانية كأعرق جمعية مناظرات في العالم، ليكون منبرا حرا للنقاشات الفكرية والسياسية والأخلاقية، وفضاء آمنا لصدام الآراء دون خوف من رقابة أو إقصاء. 

وعلى مدى الأجيال، مر من قاعة هذا الاتحاد رؤساء حكومة بريطانيون، وقادة عالميون، ومفكرون جدليون صنعوا التاريخ، لتظل جدرانه شاهدة على تحولات بريطانيا الفكرية والاجتماعية والسياسية.

ومن أبرز الذين استضافهم الاتحاد عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والملكة البريطانية إليزابيث الثانية. 

ومع ذلك، لا يواجه الاتحاد اليوم جدالا فكريا جديدا فحسب، بل أزمة وجودية تهز أعماقه وتكاد تعصف بتاريخه. 

فالهيئة الطلابية المنتخبة التي لطالما حملت راية حرية التعبير تجد نفسها محاصرة بين رغبتها في إعلاء صوت الحقيقة عن ما يحدث في غزة، وبين تهديدات صريحة من مجلس الأمناء المسؤول عن الأصول المالية والإدارية للاتحاد، والذي هدد بإغلاق المؤسسة إذا لم يخضع الطلبة لقراره الرقابي.

وكان اتحاد أكسفورد للمناظرات قد قرر في 16 يونيو/ حزيران 2025، التصويت على نشر الفيديو الكامل لخطاب الكاتبة الفلسطينية الأميركية سوزان أبو الهوى.

والذي كال الاتهامات لإسرائيل بارتكابها جرائم مروعة بحق الشعب الفلسطيني، لكن بعض مسؤولي نقابة الاتحاد يخشون رفض ذلك بضغط من مجلس الأمناء المتحفز.

وجمعية "اتحاد أكسفورد" للمناظرات يتكون أعضاؤها بشكل أساسي من طلاب وخريجي جامعة أكسفورد، تأسست عام 1823، وهي واحدة من أقدم الاتحادات الجامعية في بريطانيا.

كما يعد اتحاد المناظرات إحدى أكثر جمعيات الطلاب الخاصة مرموقة في العالم، ويعمل بشكل مستقل عن الجامعة ويختلف عن اتحاد أكسفورد.

سبب الأزمة 

ويكمن محور الأزمة الحالية في خطاب ألقته أبو الهوى خلال مناظرة عقدت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 تحت عنوان يصنف إسرائيل بأنها "دولة فصل عنصري مسؤولة عن الإبادة الجماعية". 

الخطاب، الذي أثار اهتماما واسعا وحقق مئات الآلاف من المشاهدات على الإنترنت قبل حذفه، تضمن سردا حادا عن ممارسات دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الاغتصاب المنهجي داخل السجون واستخدام المتفجرات ضد الأطفال.

بعدها جاء قرار من مجلس أمناء الجامعة يطالب الاتحاد بحذف 73 ثانية من الخطاب، وهو ما فجّر معركة داخلية غير مسبوقة؛ حيث يقاتل طلاب من أجل الشفافية والنزاهة الفكرية، فيما يصر المسؤولون على فرض رقابة بصفتهم أوصياء على "السمعة" و"الاستقرار المالي". 

الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تصاعد إلى درجة تقديم دعوى قضائية من أبو الهوى في 3 مارس/ آذار 2025، ضد النقابة بتهمة التمييز وخرق حقوق النشر والعقد الموقع معها.

لا سيما أنه شارك في الجلسة نفسها التي ألقت فيها سوزان أبو الهوى خطابها عدد من الشخصيات المعروفة بدعمها العلني للحقوق الفلسطينية، من بينهم الكاتب اليهودي الأميركي نورمان فينكلشتاين. 

كذلك الناشط الأميركي الإسرائيلي ميكو بيليد، والطالب في جامعة أكسفورد عثمان موافي، الذي قال: "نسمي الحقائق بأسمائها الصحيحة.. كم رصاصة نحتاج لقتل عائلة واحدة؟ 335 رصاصة"، وذلك في إشارة إلى ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة. 

كما أشار إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وصف غزة بـ"المدينة الشريرة"، متسائلا باستنكار: “كيف لها أن تكون كذلك ونصف سكانها من الأطفال؟”

وقد جاءت هذه المداخلات جميعها ضمن جلسة واحدة نددت بشكل صريح بالعدوان الإسرائيلي على القطاع، وركزت على الانتهاكات الإنسانية بحق المدنيين. 

وهو ما يؤكد أن خطاب أبو الهوى لم يكن حدثا معزولا، بل جزءا من مناظرة موسعة عبر فيها المشاركون عن رفضهم المبدئي والمستند إلى القانون الدولي للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.

التهديد بالإغلاق

وفي تطور حاسم كشف عن عمق الأزمة داخل اتحاد أكسفورد، أكدت الكاتبة أبو الهوى أن الأجزاء التي حذفت من خطابها كانت "معلومات واقعية" تستند إلى وقائع موثقة، معتبرة أن حذفها يمثل "رقابة على عمل أدبي مهم". 

وأضافت في كلمة أمام أعضاء نقابة الاتحاد أن ما قالته كان "مدروسا ودقيقا من الناحية الواقعية".

ثم وجهت اتهامات إلى مجلس الأمناء بالتمييز وانتهاك حقوق النشر وخرق بنود عقد موقع مسبقا.

بعدها قررت اللجنة الدائمة المنتخبة لاتحاد أكسفورد، المكونة من الطلبة، نشر الفيديو الكامل دون تعديل.

ليأتي الرد من مجلس إدارة اتحاد أكسفورد للأدب والمناظرة (OLDUT)، وهي الهيئة الخيرية المشرفة، بتهديد صريح بإغلاق الاتحاد إن جرى الخطاب غير المحرر.

وفي النهاية، صوّت باقي أعضاء اللجنة على نشر الفيديو، ومُنحت رئيسة النقابة، أنيتا أوكوندي، مهلة 48 ساعة لنشر الفيديو.

وكان الموعد النهائي هو الساعة 8:30 مساءً بالتوقيت المحلي من يوم 18 يونيو، لكن لم يحدث أي تطور لاحقا.

وفي تطور غريب، صرّح مسؤول نقابي كبير لموقع "ميدل إيست آي" أن بعض أعضاء اللجنة الدائمة يريدون من الرئيس إجراء تصويت آخر أو ببساطة رفض تنفيذ نتيجة التصويت.

وقال المسؤول: "يزعم بعض أعضاء اللجنة الدائمة أن التصويت كان باطلًا أو أن الرئيس يستطيع تجاهله".

لكن ما بدا حسما تحول إلى جدل متجدد؛ إذ أفادت مصادر داخلية أن بعض أعضاء اللجنة يسعون لإبطال التصويت أو دفع رئيسة النقابة أنيتا أوكوندي لعدم تنفيذه. 

وعلق أحد المسؤولين النقابيين على ذلك بالقول: "اتحاد أكسفورد بات على ركبتيه تحت ضغط الأمناء، لم نشهد مثل هذا الانهيار في تاريخ المجمع".

وقالت أبو الهوى في تصريح لصحيفة الغارديان البريطانية، إن ما يحدث "جزء من نمط أوسع لإسكات الأصوات الفلسطينية والمؤيدة لفلسطين والمناهضة للإبادة الجماعية داخل المؤسسات الغربية، سواء في الإعلام أو السياسة أو الجامعات".

استثمار في المستوطنات

وفي الوقت الذي يتعرض فيه اتحاد أكسفورد لضغوط خانقة من مجلس الأمناء لثنيه عن نشر خطاب ينتقد إسرائيل، تزداد تساؤلات الطلاب والحقوقيين حول ازدواجية المعايير الصارخة داخل المؤسسة الأكاديمية العريقة.

وخاصة بعد الكشف عن تورط إحدى كليات الجامعة في دعم مالي مباشر للمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.

فقد أحيلت كلية "أول سولز" (All Souls) التابعة لجامعة أكسفورد أخيرا إلى هيئة تنظيم الأعمال الخيرية في بريطانيا، بعد أن ثبت احتفاظها باستثمارات تزيد قيمتها على مليون جنيه إسترليني في شركات متورطة بشكل مباشر في دعم وتطوير المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. 

جاء ذلك بناء على شكوى رسمية تقدم بها المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين، عقب تحقيق استند إلى طلبات معلومات قدمت في يوليو/ تموز، وأغسطس/ آب 2024.

وتظهر الوثائق أن الكلية تستثمر ما مجموعه نحو 1.12 مليون جنيه إسترليني في أربع شركات مدرجة من قبل الأمم المتحدة ضمن لائحة الجهات المتورطة في المستوطنات غير القانونية.

وتمثلت هذه الشركات في "آير بي إن بي" بقيمة 240 ألف جنيه إسترليني، و"بوكينج هولدينغز" بقيمة 613 ألف جنيه إسترليني، ومجموعة "إكسبيديا" بنحو 7.7 آلاف جنيها إسترلينيا، ثم "موتورولا سوليوشنز" بنحو 260 ألف جنيه إسترليني. 

هذه الشركات، بحسب منظمة العفو الدولية، تسهم بشكل مباشر في "تأجيج انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين"، من خلال إدراج غرف فندقية ونشاطات سياحية في المستوطنات المقامة على أراض محتلة، بما فيها شرق القدس.

تناقضات حادة

وقالت المستشارة القانونية لدى المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين ميرا ناصر، في تصريحات لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني، في 26 نوفمبر 2024، إن "عدم قانونية المستوطنات أمر محسوم من قبل محكمة العدل الدولية". 

وأضافت: "لم يكن هناك أي عذر في السابق، لكن الآن، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبقى مؤسسة تعليمية بريطانية متواطئة ماليا مع هذا النظام الاستعماري".

وأضافت: "ما يحدث هو مثال فج على تقديم المصالح المالية على الواجبات الأخلاقية والتعليمية، ومن الواجب على لجنة المؤسسات الخيرية بجامعة أكسفورد أن تتدخل لتصحيح هذا المسار"

ويذكر أن الكلية مسجلة كجمعية خيرية، وتتمتع بإعفاءات ضريبية، وهي ملزمة بعدم الانخراط في نشاط سياسي يخالف القانون البريطاني أو التزامات السياسة الخارجية للمملكة المتحدة، التي تعارض رسميا الاستيطان.

وجاء هذا الكشف بعد أسابيع فقط من الاعتصام الطلابي في حرم جامعة أكسفورد لدعم غزة، والذي أقيم في 6 مايو/لأيار 2025 واستمر حتى 25 يونيو؛ حيث طالب الطلاب الجامعة باعتماد سياسة استثمار شفافة وخالية من التورط في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي.

ويثير هذا التناقض الحاد تساؤلات مشروعة عن كيفية تبرير إدارة الجامعة ومجلس الأمناء محاولاتهم لإسكات خطابات مؤيدة لفلسطين باسم "الحساسية السياسية"؟ 

بينما تسمح في الوقت ذاته باستثمارات في شركات تدعم الاستيطان المحظور دوليا.

ولماذا يحاسب الطلاب والنقابيون حين يدافعون عن الضحايا، بينما لا يحاسب الأمناء حين يمولون المعتدي؟

وأي رسالة ترسلها أكسفورد إلى طلابها والعالم حين تكمم الأفواه التي تندد بالإبادة، بينما تبقى الأموال تتدفق نحو الاحتلال؟