شركات جديدة لتوسيع البيزنس.. كيف هيمن نظام السيسي على استيراد الحبوب بعد الأدوية؟

إسماعيل يوسف | منذ ٦ أيام

12

طباعة

مشاركة

رغم تردد أنباء عن استجابة النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي لبعض شروط صندوق النقد الدولي، منها تقليص "بيزنس" الجيش، بدليل قراره وقف إبرام أي تعاقدات مع 4 جهات عسكرية واستخبارية مصرية، إلا بموافقته شخصيا، فإن الحقيقة الخفية غير ذلك.

وحذر خبراء اقتصاد من أن السيسي يقوم، بالتنسيق مع الجيش، بعملية تحايل على المطالبات المختلفة له من قوى سياسية معارضة أو جهات اقتصادية وسياسية دولية، بوقف تدخل الجيش في الاقتصاد، عبر تدشين شركات جديدة بواجهة مدنية لإدارة مشاريع الجيش التوسعية.

وجاء تكليف السيسي “جهاز مستقبل مصر” التابع للقوات الجوية، ليقوم وحده باحتكار عمليات "الشراء الموحد" للقمح والحبوب بدلا عن "هيئة السلع التموينية" الحكومية التي تتولى هذا الأمر منذ عام 1968، ليكشف هذا التحايل.

وتم إنشاء هذه الشركة بواجهة مدنية منذ عام 2022، وبدأ إسناد عمليات استيراد السلع الإستراتيجية لها تحت اسم "الشراء الموحد"، لتصبح واجهة جديدة تبدو مدنية، للجيش، بدلا من الشركات العسكرية التي يطالب صندوق النقد الدولي بوقف تدخلها في الاقتصاد. 

وعلى المستوي المحلي، أثيرت تساؤلات بشأن مدى امتلاك ضباط الجيش الخبرات في استيراد القمح والزيوت تفوق خبرات هيئة السلع التموينية التي اكتسبت مكانة على مدى 60 عاما أم أن الأرباح هي مفتاح اللغز.

القمح بعد الأدوية

وكشف أحد المسؤولين بوزارة التموين لموقع "المنصة" المستقل، في 28 نوفمبر 2024، أن "جهاز مستقبل مصر" تولى بقرار رئاسي عمليات استيراد الحبوب والسلع بدلا من "هيئة السلع التموينية".

وأوضح المسؤول الذي لم يكشف عن اسمه لأسباب أمنية، أنه بموجب هذا القرار، سيتم نقل بعض أهم اختصاصات هيئة السلع التموينية الحكومية إلى "هيئة الشراء الموحد" الممثلة في "جهاز مستقبل مصر"، على أن تحدد الوزارات والهيئات المعنية حاجتها من الحبوب والزيوت وتسندها للجهاز.

هذا السيناريو تم تنفيذه من قبل حين تم إنشاء "الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية"، والتي يرأسها لواء طبيب بالجيش حتى تستورد، دون غيرها، احتياجات مصر من الأدوية.

لكن الفارق هذه المرة أن "جهاز مستقبل مصر" بمثابة هيئة أو شركة مدنية تقوم بهذا الدور للتحايل على شروط صندوق النقد، بعدما كانت الصفقة السابقة الخاصة باحتكار استيراد الأدوية وإلغاء دور وزارة الصحة، تتم عبر هيئات عسكرية.

وفي نوفمبر 2016، أعلن وزير الصحة آنذاك، أحمد عماد الدين، عن اتفاق غريب مع وزارة الدفاع، يشتري بموجبه الجيش جميع احتياجات مصر من المستلزمات الطبية والأدوية، بما فيها ألبان الأطفال.

وذلك من خلال "إدارة الخدمات الطبية" بوزارة الدفاع، وهي إحدى الإدارات التابعة لهيئة الإمداد والتموين بالقوات المسلحة، المسؤولة عن المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة بالجيش.

ولاحقا، وفي يناير/ كانون الثاني 2017، نشرت الجريدة الرسمية قرارا أصدره رئيس مجلس الوزراء، شريف إسماعيل، يرخص للجيش المشاركة في تأسيس شركة جديدة خاصة به للمستحضرات الدوائية لتبدو كواجهة مدنية بدل "إدارة الخدمات الطبية" للجيش.

وجاء في قرار رئيس مجلس الوزراء، "يرخص للهيئة القومية للإنتاج الحربي بالمشاركة في تأسيس شركة مساهمة باسم (الشركة المصرية الوطنية للمستحضرات الدوائية)".

وفي 25 أغسطس/آب 2019، صدق السيسي، على القانون رقم 151 لسنة 2019، بإنشاء "الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية"، ومقرها بالعاصمة الإدارية.

وكان هذا القرار بمثابة ترخيص رسمي لهيمنة شركة واحدة مدنية من الظاهر ولكن يشرف عليها الجيش على شراء الدواء لكل مصر، الذي يقدر بقرابة 71 مليار جنيه (نحو 1.4 مليار دولار). 

والمفارقة أن قرار إنشاء هذه الهيئة للشراء الموحد للدواء، نص على أنها تحل محل وزارة الصحة ووزير الصحة، كما تؤول مخصصات كل الهيئات الطبية الحكومية لهذه الهيئة الجديدة للشراء الموحد.

كما أن رئيس الهيئة بدرجة "وزير" ويعينه السيسي هو ومجلس الإدارة، ورئيسها الحالي ضابط جيش هو اللواء طبيب بهاء الدين زيدان.

وقال الخبير الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي، إن "تحايل الجيش على شروط الصندوق ومطالبات وقف تدخله في الاقتصاد، يتم عبر شركات جديدة".

وأوضح الصاوي لـ"الاستقلال" أن “ذلك يتم عن طريق بعض الشركات العامة التابعة للجيش وتدير أعماله من الأبواب الخلفية مثل صناديق الاستثمار النقدي في البورصة أو أرصدة هذه المؤسسات في البنوك أو حصصها في الشركات”.

وأكد أن “أمور البيزنس في مصر، تم ترتيبها بشكل كبير جدا خلال الفترة من 2013 (انقلاب السيسي) وحتى الآن، لصالح هذه المؤسسات العسكرية والاستخبارية”.

ونبه الخبير الاقتصادي إلى أنه" رغم ضغوط صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بطرح شركات الجيش للبيع في البورصة منذ 5 سنوات (مثل وطنية ومياه صافي)، فلم يتم ذلك، لوجود عقبات كبيرة في تقييم أصول هذه الشركات لبيعها".

يد إماراتية

وفي السياق، قوبل قرار تكليف "جهاز مستقبل مصر" باحتكار شراء القمح والزيوت، برفض من الموردين العالميين، الذين لم يقدموا أي عروض لتوريد القمح لشركة الجيش الجديدة، في أول مناقصة طرحتها في 28 نوفمبر 2024، لعدم معرفتهم بها.

وقال "اتحاد مصدري الحبوب الروسي" عبر بيان في 28 نوفمبر إنه "لا يعرف شيئا عن مُلّاك الكيان الجديد أو وضعه المالي"، بحسب وكالة "رويترز".

وقال المصدرون الروس لـ"رويترز" إنهم "لن يبيعوا القمح لجهاز مستقبل مصر ما لم تخطرهم (نظام) مصر بأنه يعمل نيابة عن الحكومة".

وتأسس "جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة" عام 2022 بموجب مرسوم رئاسي، وخلال عامين نجح في احتكار مشاريع زراعية ضمن استصلاح الأراضي الصحراوية، وصدرت عشرات القرارات لتخصيص آلاف الأفدنة له.

كما نجح في احتكار بحيرة البردويل أكبر بحيرة أسماك في مصر، ونقل تبعيتها له في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، ثم احتكار الشراء الموحد للقمح والزيوت.

وظهر اسم "جهاز مستقبل مصر" لأول مرة في مايو 2022 عندما افتتح السيسي مشروع “مستقبل مصر للزراعة المستدامة” على امتداد طريق محور روض الفرج -الضبعة على بعد نصف ساعة من أكتوبر، كنواة لمشروع استصلاح 800 ألف فدان بالدلتا الجديدة.

وصدر في ذلك الوقت قرار رقم 591 لسنة 2022، من السيسي، لم يُنشر في الجريدة الرسمية لكن تمت الإشارة إليه في قرارات لاحقة، بإنشاء “جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة”، كجهاز تابع للقوات الجوية ويعمل تحت إشرافها.

وفي الفترة التالية برز اسم بهاء الغنام الذي تولى منصب المدير التنفيذي للجهاز، وهو عقيد بالقوات الجوية.

وبدأ نشاط الجهاز تحت إشراف القوات الجوية المصرية بغرض مُعلن هو المساهمة في مشاريع استصلاح الأراضي بالصحراء الغربية والصحراء الشرقية شمال وجنوب مصر، قبل أن يتوسع بصفته "شركة عامة" رغم أنها تابعة للجيش.

وأُعلن، حين افتتحه السيسي، أنه يستهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض الزراعي عبر استصلاح مليون و500 ألف فدان من إجمالي مساحة الدلتا الجديدة، ثم تحول اسمه إلى “جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة”.

واتسعت دائرة اختصاصاته في عدة قطاعات، منها إشرافه على بحيرة البردويل بدلا من تبعيتها لجهاز تنمية الثروة السمكية، وصولا إلى طرحه مناقصة لشراء القمح.

والمفارقة أن الإمارات بدأت تستثمر مع “جهاز مستقبل مصر”.

ففي 20 نوفمبر 2024، وقع “الجهاز” مذكرتي تفاهم مع شركة أبو ظبي لطاقة المستقبل (مصدر) الإماراتية، بشأن التعاون في تطوير وإقامة مشروع للطاقة الشمسية العائمة بقدرة 5 جيجاوات ببحيرة ناصر.

وكذا مشروع تطوير وإقامة مشروع للطاقة الشمسية بقدرة 2.8 جيجاوات بنجع حمادي.

وتضمنت مذكرتا التفاهم، تطوير وإقامة مشروع للطاقة الشمسية العائمة بقدرة إنتاجية تصل إلى 2 جيجاوات كمرحلة أولى، و3 جيجاوات كمرحلة ثانية على بحيرة ناصر، إضافة إلى مشروع للطاقة الشمسية بقدرة 2.8 جيجاوات في منطقة شمال نجع حمادي.

وقد صدرت ما بين أبريل/نيسان وسبتمبر/ أيلول 2024 فقط خمسة قرارات بتخصيص أراضٍ لصالح الجهاز.

"الأمر المباشر"

ولأنه كيان غامض ليس له موازنة معلنة ولا اختصاصات محددة، كان إعلان السيسي، بمرسوم رئاسي، تسليم صفقات القمح والزيوت لجهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة"، ليقوم بصفقات مباشرة لا مناقصات، مثيرا للجدال.

وبسبب هذا الغموض اضطر الجهاز لإلغاء أول مناقصة بـ"الشراء المباشر" أعلن عنها في 28 نوفمبر 2024، في أول نشاط له بعد احتكاره هذا المجال الحيوي، لعدم تقدم أحد من الشركات والهيئات العالمية بعروض.

وذكر "جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة" في بيان صادر عنه في 28 نوفمبر، عن سعيه لشراء قمح وزيوت نباتية "من خلال صفقات شراء مباشرة".

وأثار الإعلان الاستغراب، لأن "هيئة السلع التموينية"، التي كانت تتولى هذا الأمر قبل انتزاع هذا الاختصاص منها، كانت تتبع "نظام الممارسات" أو المناقصات، بينما الشركة الجديدة "مستقبل مصر" تحولت إلى نظام "الأمر المباشر". 

هذا التحول في إستراتيجية المشتريات، من جانب شركة الجيش الجديدة، وبعيدا عن نظام الممارسات الذي كانت تستخدمه "الهيئة العامة للسلع التموينية"، المشتري الحكومي الرئيس للسلع، أثار مخاوف من فساد محتمل.

وتكرر هذا الأمر حين تم تغيير قوانين بيع الأراضي لشركات البناء الكبرى عام 2021 من "الممارسات" إلى "الأمر المباشر" خدمة لرجل الأعمال القاتل هشام طلعت مصطفى، الذي انتقل من البيزنس مع أبناء الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلى "البيزنس" مع مقربين من نظام السيسي.

وتم تخصيص مساحات عملاقة من الأراضي إلى مطورين عقاريين كبار بهدف الاستثمار، وكانت أكبر صفقتين من نصيب مجموعة طلعت مصطفى، و"بالم هيلز".

وجاءت الصفقتان بعد قرار مجلس الوزراء رقم 25 لعام 2019 بتغيير قانون تخصيص الأراضي، من نظام المناقصات والمزايدات رقم 89 لسنة 1998 إلى نظام تخصيص الأراضي بالأمر المباشر.

وهي تعاقدات، تستند لقانون تخصيص الأراضي بالأمر المباشر، وتقوم على غياب التوزيع العادل للأراض، ووصفها الحقوقي خالد علي لموقع "أريج" في 27 يناير 2024 بأنها “أسهمت في غياب الشفافية، وشرعنة تعاقدات غير قانونية بين رجال الأعمال والسلطة في مصر”.

وحين بدأ الجهاز الجديد (مستقبل مصر) طرح أوامر مباشرة لشراء القمح، قال تاجر، لوكالة "رويترز" البريطانية إن "الجهاز همش هيئة السلع التموينية، لكنه لا يملك ما لديها من خبرة طويلة وعلاقات مع السوق".

وأكد أن الهيئة الحكومية، لها تاريخ يقترب من 56 عاما في السوق، وظهور "مستقبل مصر" محلها فجأة أثار ارتباكا خاصة بعد طرح الشراء بالأمر المباشر.

وقال مدير شركة "ميدترنين ستار" للتجارة واستيراد الحبوب، هشام سليمان، لموقع "المنصة" أن "اتحاد مصدري القمح في روسيا اعترض على هذا القرار المفاجئ، ورفض المشاركة في أي صفقات لبيع القمح من خلال جهاز مستقبل مصر".

وأرجع ذلك إلى “عدم توافر المعلومات الكافية عنه وعن وضعه المالي، وحتى تصل إليهم المعلومات التي تجعلهم يطمئنون في التعامل مع الجهاز”.

وأوضح سليمان أن "أبرز أسباب سحب هذا الملف المهم من هيئة السلع التموينية، وإسنادها إلى جهاز مستقبل مصر، هو رفض الهيئة إتمام عدة صفقات لاستيراد القمح بسبب الاختلاف على السعر، أبرزها صفقة الـ3.8 ملايين طن في أغسطس/ آب 2024".

تحايل وخداع

وفي أغسطس، اكتفت الهيئة العامة للسلع التموينية، المشتري الحكومي للحبوب، بالتعاقد على شراء 280 ألف طن قمح فقط خلال مناقصة دولية كانت تستهدف منها استيراد 3.8 ملايين طن قمح، بما يمثل 8 بالمئة فقط من مستهدفها، بسبب ارتفاع الأسعار.

وجاء طلب الشراء بالأمر المباشر من جانب "جهاز مستقبل مصر" لاستيراد 60 ألف طن قمح من شركات وهيئات دولية متعددة.

ويعني "الشراء بالأمر المباشر"، وبحجة "حالات الطوارئ"، الشراء بأسعار أعلى، بينما "مناقصات" هيئة السلع، كانت تسعى للحصول على أقل سعر للقمح في السوق، وسبق أن ألغت مناقصات لأنها لم تحصل على أقل سعر.

دفع هذا الرئيس التنفيذي لمجموعة من شركات الاستثمار، مراد علي، للتساؤل: “ما هي الأرباح المحتملة التي قد يحققها الجيش من هذه العمليات، خاصة وأن قيمتها تصل إلى مئات المليارات من الجنيهات؟ وهل ستخضع عمليات الشراء والبيع التي سيقوم بها لأي نوع من الرقابة، أم ستظل محصنة بسرية التعاملات المالية المعتادة في أنشطة الجيش؟"

وأضاف عبر منصة “إكس”: “ما الدوافع الحقيقية وراء اتخاذ هذا القرار، الذي يتعارض مع التزامات حكومة السيسي تجاه صندوق النقد بانسحاب المؤسسة العسكرية من الأنشطة الاقتصادية؟”.

وتساءل أيضا: “ألا يمثل هذا القرار انحرافا عن المهام الأساسية للجيش وتشتيتا لضباطه، في وقت تعيش فيه مصر توترات غير مسبوقة على حدودها مع غزة والسودان وليبيا، فضلا عن تعقيدات المشهد في سوريا ولبنان؟”

وقال الصحفي علي بكري إن عملية نقل استيراد القمح والحبوب والزيوت من هيئة السلع التموينية للجيش هدفها هو "السمسرة من وراء واردات المصريين" من السلع المختلفة سواء القمح أو المستلزمات الطبية.

وأضاف أن "الجيش بيسمسر من وراء احتياجات البلد وهذا لم يحصل أول مرة، بل بيحصل من زمان مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ومشاريعها اللي تولى بالأمر المباشر وتعيد إسنادها لمقاولين آخرين من الباطن وتطلع هي بنسبة من المقاولة". 

وتُصنف مصر، ضمن أكبر مستوردي الحبوب في العالم، وخلال موسم 2024/2025 من المتوقع أن ترتفع وارداتها من القمح والذرة بنسبة تتراوح بين 1 بالمئة و3 بالمئة، بحيث تصل إلى 12.5 مليون طن و8.2 ملايين طن على التوالي، وفق موقع "إس أند بي جلوبال" الأميركي في 28 نوفمبر 2024.

وترى مصادر اقتصادية مصرية أن توسع نشاط شركة الجيش الجديدة وغيرها من الشركات التي ظهرت كواجهة للعسكر “هدفه التحايل وخداع صندوق النقد الدولي الذي يطالب بتقليص بيزنس الجيش”.