حكم قضائي يشعل توترا بين القاهرة وأثينا.. ماذا يحدث في دير سانت كاترين؟

أصدرت محكمة مصرية حكما بأحقية مصر الكاملة في أراضي دير سانت كاترين
يقف دير سانت كاترين في قلب صحراء سيناء عند سفح جبل موسى، شامخا منذ قرون، شاهدا على حكاية من أقدم الحكايات الدينية في العالم المسيحي، لكنه يتحوّل اليوم من معلم ديني إلى عبء سياسي؛ إذ تدور معركة دبلوماسية بختم محكمة مصرية، فتحت الباب على أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين القاهرة وأثينا بسبب هذا المكان.
ففي صباح 28 مايو/أيار 2025 أصدرت محكمة الاستئناف بمدينة الإسماعيلية حكما قد يبدو للوهلة الأولى شأنا محليا صرفا، بأحقية ملكية الدولة المصرية الكاملة على أراضي دير سانت كاترين، مع منح الرهبان حق الانتفاع بها فقط.
وانطلقت بعدها مجموعة من الأسئلة عن أسباب غضب اليونان من هذا الحكم؟ وما قصة الدير الذي يدور حوله الخلاف؟
وهل تتحول هذه الأزمة إلى صفحة جديدة من التصعيد بين البلدين؟ أم أن المصالح الإستراتيجية الأوسع ستنجح في تطويقها كما جرى في أزمات سابقة؟
صدى الحكم
ولم يبق صدى الحكم داخل قاعات المحكمة، بل سرعان ما عبر البحر المتوسط ليصل إلى العاصمة اليونانية؛ حيث عُدّ القرار "فضيحة دينية" واستفزازا يمس واحدة من أقدس المؤسسات الدينية للأرثوذكس اليونان.
في أثينا، لم يخف رئيس أساقفة اليونان، إيرونيموس الثاني، غضبه قائلا: "إنه تهديد خطير لمكانة الدير، وعودة إلى مراحل تاريخية مظلمة"، واصفا قرار المحكمة المصرية بأنه "إلغاء تاريخي".
وأشار إلى أن الحكومة المصرية قررت الاستيلاء على ممتلكات دير القديسة كاترين ومصادرتها، رغم الالتزامات التي قدَّمها رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي لنظيره اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس خلال زيارته الأخيرة إلى أثينا.
أما وزير الخارجية اليوناني يورغوس بيرابتريتيس فبادر بإجراء اتصال عاجل مع نظيره المصري بدر عبد العاطي، محذرا من خطورة القرار على الاتفاقيات التي ترعى وضع الدير، ويرى أنه يقوض ما جرى التفاهم عليه تاريخيا بين الدولتين.
كما قوبل الحكم القضائي المصري بإدانات صريحة من بطريركيات الروم الأرثوذكس في المنطقة، سواء في القدس أو إسطنبول.
ففي بيان أصدرته يوم 30 مايو، أعربت بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس عن "قلقها العميق" إزاء القرار، مؤكدة تمسكها بولايتها الدينية التاريخية على دير سانت كاترين، ومسؤوليتها عن حمايته وصون طابعه الديني الخاص.
وأشارت إلى أنّ الدير يتمتع بحصانات تاريخية تعود إلى عهد الأمان الذي منحه له النبي محمد في القرن السابع الميلادي، وجرى تجديده لاحقا من قبل السلطان العثماني سليم الثاني في القرن السادس عشر.
أما بطريركية القسطنطينية المسكونية، ومقرها إسطنبول، فقد أعربت عن خيبة أملها وأسفها العميق تجاه الحكم، داعية الحكومة المصرية إلى احترام التقاليد الراسخة والاتفاقيات التاريخية التي تكفل خصوصية الدير واستقلاليته الروحية والإدارية.
في المقابل، وقفت القاهرة بكل ثقة في مواجهة العاصفة القادمة من أثينا، مؤكدة أن الحكم لا ينتهك حرية الرهبان ولا مكانة الدير، بل يرسخ السيادة المصرية على أراضيها ويحمي تراثها الديني.
الرئاسة المصرية بدورها أصدرت بيانا رسميا قالت فيه: "إن مصر ملتزمة تماما بحماية دير سانت كاترين، وتعده "أحد أهم المعالم الدينية في العالم"، مكررة حرصها على صيانة العلاقات الأخوية مع اليونان رغم هذا الخلاف.
أما المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية تميم خلاف، فقد شدّد على أنه “لا مساس على الإطلاق بدير سانت كاترين والأماكن الأثرية التابعة له”، مبينا أن ما يتم تداوله “عارٍ تماما من الصحة”.

غضب يوناني
ويكمن الغضب اليوناني في طبيعة دير سانت كاترين نفسه، فالرهبان الذين يديرونه يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التابعة لبطريركية الروم الأرثوذكس في القدس ذات الجذور اليونانية العميقة.
أنشأ هذا الدير الإمبراطور الروماني جستنيان لإحياء ذكرى زوجته ثيودورا عام 560 ميلادية، وظلّ لأكثر من 15 قرنا محطة دينية مقدسة للرهبان والحجاج من مختلف أنحاء العالم الأرثوذكسي خاصة من اليونان.
وهو ما يجعله في وجدانهم ليس مجرّد دير يقع في دولة أخرى؛ بل لأنهم ينظرون إليه أيضا على أنه جزء من إرثهم الروحي والثقافي.
ويضم الدير رفات القديسة كاترين، ويحتوي على واحدة من أقدم المكتبات الدينية في العالم، وهو مسجل منذ سنوات طويلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)؛ إذ يضم الدير منشآت مختلفة، منها كنيسة التجلي التي تحوي داخلها كنيسة العليقة الملتهبة، و9 كنائس جانبية صغيرة.
كما يشمل 10 كنائس فرعية، وقلايا (حجرات خاصة) للرهبان، ومنطقة خدمات، ومعرض جماجم والجامع الفاطمى.
كما يضم الدير مكتبة تحوي 4500 مخطوطة، منها 600 باللغة العربية، علاوة على المطويات، بالإضافة إلى المخطوطات اليونانية والإثيوبية والقبطية والأرمنية والسريانية.
وهي مخطوطات دينية وتاريخية وجغرافية، أقدمها يعود إلى القرن الرابع الميلادي، كما تحوي المكتبة عددا من الفرمانات صادرة من الخلفاء المسلمين لتأمين أهل الكتاب.
لذلك لم يقتصر الغضب على الدوائر السياسية والدينية فحسب، بل امتد إلى الأوساط الشعبية والناشطين البيئيين، وسط شكوك حول وجود نوايا حكومية بتحويل محيط الدير إلى منطقة سياحية تجارية تهدّد طابعه الروحي والبيئي النادر.
ففي السنوات الماضية، أثار مشروع "تطوير سانت كاترين" الذي أطلقته الحكومة المصرية حفيظة العديد من المهتمين، وسط تحذيرات من أن التوسع في الفنادق والطرق السياحية قد يضر بالنظام البيئي الفريد للمنطقة ويفقد الدير هويته كملاذ صوفي وروحي نادر.

التجلي الأعظم
وفي خلفية هذه الأزمة الدبلوماسية والدينية، تلوح خطة تطويرية ضخمة أطلقتها الحكومة المصرية تحت اسم "التجلي الأعظم على أرض السلام"، وهو مشروع عدته الدولة بداية لـ"يوم تاريخي" لتطوير محمية ومدينة سانت كاترين.
وبحسب تحقيق ميداني أجراه موقع مدى مصر في 24 أغسطس/آب 2022، فإنّ المشروع ينفذ بإشراف وزارة الإسكان ممثلة في الجهاز المركزي للتعمير، وجهاز تعمير سيناء، ومحافظة جنوب سيناء، إضافة إلى الجهة الأساسية الممثلة في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
بينما تتولى التنفيذ الفعلي عدة شركات مقاولات من أبرزها مجموعة العرجاني جروب التي يمتلكها الشيخ القبلي البارز إبراهيم العرجاني من قبيلة الترابين في شمال سيناء.
ورغم الطابع الاحتفائي الرسمي بالمشروع، تتزايد المخاوف من الآثار البيئية والإنسانية المترتبة عليه؛ إذ يهدف إلى رفع عدد سكان المدينة من نحو 8 إلى 12 ألف نسمة، دون تقديم حلول واضحة لمشكلة المياه المتفاقمة في المنطقة، التي تعتمد حتى اليوم على الآبار الجوفية وصهاريج المياه المنقولة بالشاحنات من مدينة الطور المجاورة.
وقال أحد سكان المدينة لمعدي التحقيق: "عاملين فنادق وشاليهات وبيوت. هتجيب مية (مياه) لكل الناس دي منين؟ دول عاملين حمامات سباحة، والناس لسه بتجيلها عربيات المية كل أسبوع".
لكن الأزمة البيئية الأعمق تكمن في أن المشروع يقع داخل حدود المحمية الطبيعية ذات الوضع البيئي الحساس، وهو ما دفع بعض العاملين السابقين فيها لإبداء مخاوفهم من تأثير التوسع العمراني على المنظومة البيئية الفريدة.
وقال باحث بيئي سابق في محمية سانت كاترين للموقع: "التعامل مع المحميات حساس للغاية. التغيير خطر، وكل خطوة بحساب، هذا المكان له وضع خاص؛ لأن المدينة تقع داخل حدود المحمية".
وظهر التوتر بين أجهزة التنفيذ والمحميات بوضوح حين بدأت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تمهيد أحد الطرق الجديدة ضمن خطة التطوير، لتواجه اعتراضا من إدارة المحمية ورهبان الدير ما أدى إلى وقف العمل مؤقتا.
غير أن مصادر محلية تحدثت عن ارتباك أكبر في التخطيط؛ حيث تصادف أن يمر الطريق بموقع قسم الشرطة الجديد الذي أنشئ ضمن المشروع نفسه، ما أدى إلى تغييرات متكررة في مسار المشروع.
واختتم التحقيق بأن مشروع "التجلي الأعظم" يتحول من محاولة حكومية طموحة لتحويل سانت كاترين إلى وجهة عالمية للسياحة الدينية، إلى نقطة ارتباك جديدة تعمق الخلافات وتزيد من المخاطر البيئية والديمغرافية في منطقة لا تحتمل مغامرات تخطيطية غير محسوبة.

سيادة أم هوية؟
ولكن على جانب آخر ترى القاهرة أن ما يجرى هو "حماية لسيادتها الوطنية" على أراضيها.
وفي هذا السياق، قال عضو "لجنة التاريخ والآثار" بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر عبد الرحيم ريحان: إن "الحكم لا يثير أي أزمة على الإطلاق، بل يعد انتصارا لقيمة الآثار ولمهنة الأثريين المصريين".
وأوضح ريحان لوكالة أنباء الشرق الأوسط، في 1 يونيو/ حزيران 2025، أن الحكم أكد خضوع الدير والأراضي المحيطة به لقانون حماية الآثار، بصفتها مسجلة كآثار مصرية تخضع لإشراف المجلس الأعلى للآثار، بينما يستمر الرهبان في الانتفاع بها تحت الإدارة الدينية للكنيسة اليونانية.
وأضاف أن هذا الوضع القانوني "ينفي تماما صحة المزاعم حول نية السلطات المصرية إخلاء الدير لصالح مشروعات تطويرية؛ إذ لا يجوز قانونا إجراء أي تغيير على الممتلكات المسجلة ضمن التراث العالمي".
بينما ترى أثينا في الأمر مساسا بـ"هوية كنسية مقدسة" تعدها امتدادا طبيعيا لتراثها الأرثوذكسي.
وشهدت العلاقات المصرية اليونانية خلال السنوات الأخيرة ازدهارا واسعا وتعاونا في ملفات إستراتيجية بالغة الأهمية كترسيم الحدود البحرية والطاقة ومواجهة النفوذ التركي في شرق المتوسط.
لكن أعاد هذا التطور التذكير بأن جذور الخلافات التاريخية والدينية لا تزال قادرة على تفجير أزمات غير متوقعة في أي لحظة.
وحتى الآن، تحاول الدولتان احتواء الأزمة سياسيا، مع تبادل الرسائل المطمئنة من جهة، والتصريحات الحادة من جهة أخرى.
لكن خلف الأبواب المغلقة، يدرك الطرفان أن معركة دير سانت كاترين تتجاوز مجرد قطعة أرض في صحراء سيناء، وتمس أسئلة أعمق عن الحدود الفاصلة بين السيادة الوطنية والامتدادات الدينية العابرة للحدود.
وفي تعليقه على الأزمة، أكد الصحفي المصري عامر حسن أن "مصر تمارس حقها الكامل والطبيعي في تثبيت سيادتها القانونية والتاريخية على دير سانت كاترين، بصفته جزءا أصيلا من أراضي الدولة، التي تتحمل مسؤولية حماية هذا المعلم الديني وصيانة طابعه التراثي والروحي".
وأضاف لـ "الاستقلال" أن الحكم القضائي "لا يمس بالمقدسات الدينية ولا يقترب من الجوهر الروحي والتاريخي للدير، بل يندرج في إطار إدارة أملاك الدولة والحفاظ عليها ضمن منظومة التراث الوطني الخاضع للقوانين المصرية".
وتابع قائلا: "في مصر عشرات الكنائس والأديرة التابعة لكنائس يونانية وإيطالية وغيرها، وجميعها تمارس نشاطها الديني بحرية تحت مظلة القوانين المصرية دون أن يشكك أحد في سيادة الدولة على أراضيها".
و"بالتالي، لا معنى لأي اعتراض خارجي قد يفهم بصفته تشكيكا في حق السيادة المصرية على أراضيها".
كما لفت إلى أن مصر تواجه اليوم "قضايا أمن قومي أكثر حساسية، في ظل محاولات متكررة لتهديد حدودها الشرقية ومحاولات العبث الديمغرافي في محيط قطاع غزة وسيناء من جانب إسرائيل، تحديدا ما يخص قضية التهجير وغيرها".
“وهو ما يستدعي من الدولة تثبيت سيادتها على كامل ترابها الوطني وضمان عدم المساس بوحدتها الجغرافية تحت أي ذريعة دينية أو تاريخية”. وفق تقديره.
وختم حسن تصريحاته بالتأكيد أن “القضية أكبر من مجرد نزاع قانوني حول ملكية أراضٍ، بل تتعلق بمحاولة الحفاظ على الإرث الروحي لدير سانت كاترين وضمان الحقوق السيادية الثابتة للدولة المصرية”.