مبعوث خاص لسرقة الأطباء.. هكذا تواصل فرنسا تبني نهج فوقوي تجاه المغرب
شرعت فرنسا في مسارعة الخطى لأجل حل أزمة النقص في الكوادر الطبية بالبلاد، عبر استغلال أطباء مستعمراتها السابقة، مما يهدد المنظومة الصحية لهذه الدول، ومنها المغرب.
وأحدث هذه الخطوات ما نقلته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، مطلع فبراير/شباط 2024، والتي ذكرت أن رئيس الحكومة، غابرييل أتال، تلقى أمرا من الرئيس إيمانويل ماكرون لتعيين "مبعوث وزاري" مكلف باختراق منظومات صحية لاستقطاب أطباء لمواجهة "الفراغ المهول للمستعجلات".
هذا التوجيه الرئاسي عجل بإعلان الحكومة الجديدة نيتها تعيين مبعوث "مسؤول عن البحث عن أطباء في الخارج يرغبون في القدوم وممارسة المهنة في فرنسا".
وكشفت الصحيفة أن هناك أكثر من 25 ألف طبيب أوروبي وغير أوروبي، من أصل الـ 300 ألف المسجلين لدى مجلس نقابة الأطباء، وأن عملية تسريع التسوية تتعلق بأولئك غير المسجلين خاصة الممارسين الحاصلين على دبلوم من خارج الاتحاد الأوروبي، والقادمين أغلبهم من شمال إفريقيا بأكثر من 5 آلاف طبيب وطبيبة.
استنزاف الكفاءات
تتزامن الخطة الفرنسية مع تحذيرات من خطر استنزاف الكفاءات الطبية المغربية خريجي الجامعات والمعاهد الوطنية، من قبل مكاتب دولية متخصصة في صيد الأدمغة.
وفي هذا الصدد، قال الخبير في السياسات الصحية، الطيب حمضي، إن المغرب في حاجة ماسة إلى الكوادر الطبية والصحية، فلديه زهاء 29 ألف طبيب، ونحو 30 بالمئة من الأطباء يهاجرون سنويا من إلى خارج المغرب.
وأوضح حمضي لـ"الاستقلال"، أن تلك الأرقام تعني أن "طبيبين اثنين يهاجران يوميا"، مشيرا إلى أن المغرب "ملزم بتوفير 32 ألف طبيب إضافي لبلوغ معيار منظمة الصحة العالمية".
وسبق لدراسة ميدانية أن كشفت عن أن معدل الأطباء في المغرب يبلغ 7.3 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، بينما معيار منظمة الصحة العالمية يشير إلى توفير 15.3 طبيبا لكل 10 آلاف شخص.
وشدد الخبير في السياسات الصحية، على أن "هجرة الأطباء إلى الخارج أسهمت في تعميق نزيف الموارد البشرية في المستشفيات المغربية"، مبرزا أن "تكوين الدولة للأطباء يستنزف الموارد المالية للمغرب، بينما تحصل الدول الأوروبية عليهم بشكل شبه مجاني".
وجوابا عن سؤال انعكاسات ظاهرة نزيف هجرة الأطباء على المنظومة الصحية، أورد حمضي بأن "هذا الواقع المتفاقم يؤثر في معدل التطبيب وجودة الخدمات، ويؤدي إلى تناسل وتوسع الصحاري الطبية (مصطلح يُستخدم لوصف المناطق التي لا يحصل فيها السكان على الرعاية الصحية بشكل مناسب) في المغرب".
وأشار إلى أن العديد من الدول الأوروبية تواجه ظاهرة "الصحاري الصحية" في بعض المناطق، لذلك تعمل على استقطاب وجلب الكفاءات الطبية من دول الجنوب، بينما "المغرب يعاني عكسا من اتساع رقعة الصحاري الطبية جراء هذه الهجرة إلى تلك البلدان".
وخلص حمضي إلى أن هجرة الأطباء للخارج تؤدي أيضا إلى "نقص في جودة التكوين، وتأخر تشخيص وعلاج المرضى، الأمر الذي ينعكس على كلفة العلاج، وبالتالي تتأثر كل المنظومة الطبية والصحية للبلاد"، بالنظر إلى أنه "لا صحة جيدة من دون موارد بشرية"، وفق تعبيره.
من جانبه، قال المتخصص في الفيزياء الإحيائية بالمعهد الوطني للصحة بالرباط، رضى شروف، إن هذا المسعى الفرنسي لاستغلال وجلب الأطر الطبية من خارج البلاد، ومنها المغرب، "يعكس الخصاص (الفقر) الذي تحاول باريس معالجته بالاستعانة بكفاءات أجنبية".
وكشف شروف لـ"الاستقلال"، أن "المهن الطبية أصبحت غير جاذبة للمواطنين الفرنسيين، وأيضا لعموم المواطنين الأوربيين، مما رفع حجم النقص".
ورأى أن الأسباب التي تجعل الكوادر الطبية المغربية تفكر في الهجرة إلى فرنسا وغيرها متعددة، ومنها "ضعف البنية التحية للمستشفيات والمؤسسات الصحية، حيث أنها لا ترقى إلى منتظر ومأمول الأطر الطبية".
فضلا عن أن العديد من الآليات المستعلمة في الفحص والمراقبة الطبية "لا تخضع للصيانة، وحين يقع لها عطب تقني، تبقى معطلة لمدة طويلة، وهذا يؤثر سلبا على الطبيب وعلى المريض".
وتابع الخبير في الفيزياء الإحيائية، أن "العديد من الأطباء المتخصصين لا يجدون أدوات العمل في المؤسسات الاستشفائية العمومية، مما يجعلهم يشعرون أن كفاءاتهم تضيع مع مرور الوقت".
واستطرد: "أيضا ضعف الرواتب أو العائد المادي من العمل في القطاع العام، وضعف التكوين المستمر، وما ارتبط أيضا بالصراع والمشاكل التي تقع ما بين الأطباء والمرضى وعائلاتهم، وتداعيات ذلك النفسية على الأطر الطبية".
تفاعل برلماني
أزمة هجرة الأطباء المغاربة إلى فرنسا، واستمرار النزيف دون توقف، دفع بعدد من البرلمانيين إلى التوجه لوزير الصحة والحماية الاجتماعية، خالد آيت الطالب، بغية معالجة هذه المعضلة.
وفي هذا الصدد، وجهت نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، سؤالا كتابيا إلى وزير الصحة والحماية الاجتماعية، بشأن هجرة الأطباء المغاربة إلى الخارج.
وبحسب موقع "لكم" المحلي، في 3 فبراير 2024، قال عضو مجلس المستشارين عن نقابة الاتحاد الوطني، خالد السطي، إن إحدى الدراسات كشفت أن حوالي 14 ألف طبيب غادروا الوظيفة واختار أغلبهم الهجرة نحو الخارج.
ونبه عضو الغرفة الثانية للبرلمان، إلى أن الدولة تصرف على كل طبيب قرابة مليون و400 ألف درهم (نحو 140 ألف دولار) خلال فترة الدراسة والتدريب، ما يعني بحسبه "هدر" مبالغ ضخمة من الميزانية العامة للدولة "دون تحقيق الأهداف المرجوة".
وأشار السطي إلى أن هجرة هؤلاء الأطباء "تزيد وتعمق من حجم النقص الذي تعاني منه المنظومة الصحية، خصوصا في ظل تعميم برنامج التغطية الصحية على جميع السكان".
من جانبه، نقل موقع "إندبندت عربية" في 07 فبراير 2024، عن برلمانيين مغاربة، خشيتهم من "تقهقر الخدمات الصحية المقدمة إلى المواطنين بسبب استمرار نزيف هجرة الأطباء إلى الخارج".
وذكر الموقع أن هذه الهجرة أدت إلى تسجيل "خلل فادح في الموارد البشرية في المستشفيات الحكومية المغربية"، مبرزة دعوات نواب برلمانيين الحكومة إلى العناية بظروف اشتغال الطبيب ماديا ومعنويا ومهنيا، من أجل إقناعه بالعدول عن فكرة الهجرة صوب الغرب.
وكان وزير الصحة والحماية الاجتماعية، آيت الطالب، صرح خلال جلسة برلمانية سابقة، بأن أستراليا مثلا "تمنح الأطباء المغاربة 10 أضعاف الرواتب التي يتقاضونها داخل البلاد".
فيما اعترف رئيس الحكومة عزيز أخنوش خلال جلسة برلمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، بوجود مناطق كثيرة في المغرب عبارة عن "صحاري طبية" بسبب "غياب الخدمات الصحية الناجمة عن قلة عدد المهنيين الصحيين، وظروف العمل القاسية التي تدفع الأطباء والكوادر الصحية إلى مغادرة القطاع".
ولمواجهة نزيف هجرة الأطباء إلى الخارج، التزمت الحكومة ضمن مخطط عملها الحالي بتكوين أزيد من 3300 طبيب في السنة الواحدة، وأيضا زيادة رواتب الأطباء في المستشفيات، وتخصيص منح خاصة للأطباء من أجل تشجيعهم على العمل في المناطق النائية، والعمل على تجهيز المستشفيات بالمعدات والتجهيزات اللازمة.
وعمد المشرع المغربي إلى تغيير القانون رقم 113.13 بموجب القانون رقم 33.21، من أجل تجاوز العراقيل التي تقف أمام استقطاب الأطباء الأجانب للعمل في المملكة، وذلك بغية خلق نوع من التوازن، بالتالي خلق هجرة عكسية للأطباء من الخارج إلى البلاد.
مشكلة أخلاقية
وأكد موقع "هسبريس" المغربي، في 6 فبراير 2024، أن المسعى الفرنسي لاستقدام أطباء من الدول الأجنبية، ومنها المغرب، يطرح وفق فعاليات طبية "مشكلة أخلاقية"، تتعلق بإفراغ الدول النامية من أطبائها.
وفي هذا الصدد، قال الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للصحة، محمد وردي، إن "فرنسا مازالت تراهن على التكوين الجيد الذي يستفيد منه الأطباء المغاربة، والذي يحظى بمصداقية كبيرة على المستوى العالمي".
وأكد وردي لموقع هسبريس أن "المغاربة يوجدون ضمن هذه السياسة الجديدة لفرنسا بلا شك، وبالتالي الحل بيد الدولة المغربية، في شخص وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، لتوقف هذا النزيف".
وأشار إلى أنه "من الضروري أن نشتغل على تحفيزات وبدائل"، مشددا على أن "الاشتغال في المغرب يمنح شعورا بالانتماء، وبالتالي علينا أن نشتغل على هذه النقطة،. فالطبيب المغربي سيظل غريبا وأجنبيا وهو في دولة أخرى".
وسجل أن "الطبيب لديه مكانة اعتباريّة، ولذلك يجبُ أن يكون في قلب رؤية إستراتيجيّة واضحة تعيد بناء تصوّرنا لملف الهجرة".
من جانبه، أكد موقع "ماروك ديبلوماتيك" المغربي، في 5 فبراير 2024، أن المملكة تعد من أكثر الدول تأثرا بهجرة الأطباء إلى فرنسا.
وذكر أن أكثر من 7000 طبيب مغربي يمارسون المهنة في فرنسا، أو ما يقرب من 20 بالمئة من إجمالي الأطباء المغاربة.
وأوضح أنه "يمكن تفسير هذه الظاهرة بعدة عوامل، مثل القرب اللغوي والثقافي، أو ظروف العمل والأجور الأكثر ملاءمة، أو حتى فرص التدريب والبحث".
وشدد الموقع أن "رحيل الأطباء المغاربة له عواقب وخيمة على قطاع الصحة في المملكة، الذي يعاني أصلا من نقص الموارد البشرية والمادية".
وأردف أن رحيل الأطباء يؤدي إلى "فقدان المهارات والدراية الفنية التي يصعب تعويضها"، منبها إلى أن "المغرب يستثمر الكثير في تدريب أطبائه، الذين يستفيدون من التعليم الجيد المعترف به دوليا".
وبحسب دراسة للبنك الدولي، تقدر تكلفة تدريب الطبيب في المغرب بحوالي 250 ألف دولار، وهكذا، عندما يسافر الأطباء المغاربة إلى الخارج، لا تخسر البلاد المهنيين الصحيين فحسب، بل تخسر أيضا الرأسمال البشري والمالي.
سبل المواجهة
وقال الخبير في السياسات الصحية، الطيب حمضي، إن دراسة علمية نشرت قبل عامين بينت أن 70.1 بالمئة من الطلاب الذين أنهوا دراستهم الطبية في المغرب أعلنوا أنهم يعتزمون مغادرة البلاد بمجرد تخرجهم، الأمر الذي يبين الإشكالات المحلية الدافعة إلى الهجرة.
وذكر حمضي لـ"الاستقلال" أن الأسباب التي أوردها المشاركون في الدراسة، تتمثل في عدم الرضا عن الراتب بعد 7 سنوات من الدراسة بنسبة 97 بالمئة، وعدم الرضا عن التكوين بنسبة 95.2 بالمئة، ثم تشويه سمعة الطبيب في وسائل الإعلام بنسبة 83.6 بالمئة، وكذا نقص الميزانية المخصصة للبحوث في قطاع الصحة بنسبة 74 بالمئة.
ولمواجهة مساعي استنزاف الأطر الطبية بالمغرب من قبل فرنسا والدول الأخرى، قال حمضي إنه يجب العمل على مجموعة من النقاط، ومنها تكوين المزيد من الأطر الطبية والصحية، بالموازاة مع تحسين ظروف عملهم.
ولذلك، يقول الخبير في السياسات الصحية، يجب تحسين الرواتب، والمسار المهني للأطباء في القطاع العام، وأيضا تحسين جاذبية القطاع الخاص، من أجل استقطاب الأطباء المغاربة بدل دفعهم إلى الهجرة من الوطن.
وأبرز حمضي "أهمية تشجيع القطاع الطبي الخاص غير الربحي، والذي يقوم بتقديم خدمات عمومية لكن بتدبير بمنطق القطاع الخاص، بما يساعد على رفع الجودة وخفض الكلفة دون هدف ربحي، وبما يجعله قاطرة تنافسية فاعلة في العرض الصحي بالبلاد".
بدوره، شارك المتخصص في الفيزياء الإحيائية بالمعهد الوطني للصحة بالرباط، رضى شروف، مقترحات حمضي لمعالجة ظاهرة هجرة الأطباء، وخاصة إلى فرنسا.
وشدد شروف لـ"الاستقلال" على أن الحكومة "مدعوة للعمل بجد من أجل تحسين الوضع المادي للأطباء والأطر الصحية، والاهتمام بتكوينهم المستمر".
واسترسل، كما يجب عليها تحفيز وتطوير البنية التحتية الاستشفائية، وتعميم التأمين الصحي لجميع المواطنين، بغية تلافي عمل الأطباء على الشق الإداري للمريض، والاكتفاء بالمهام الطبية التي هي مسؤوليتهم الأولى.
وفي هذا الصدد، اقترح شروف "اعتماد بطاقة استشفاء طبي لجميع المواطنين، بما يخفف الإجراءات الإدارية، ويمكن من تجويد الخدمة الطبية، ويعزز جاذبية القطاع، وبالتالي التخفيف من حدة هجرة الكفاءات والأطر الطبية إلى الخارج".
المصادر
- Déserts médicaux : qui sont les «padhue», ces médecins étrangers qu’Attal souhaite régulariser ?
- نزيف هجرة الأطباء يجفف شرايين المغرب الطبية
- نقابات مهنية ترفض "حملة الاستقطاب الفرنسية" للأطر الصحية المغربية
- Pénurie de médecins : la France braconne les médecins en Afrique du Nord
- مغادرة 14ألف طبيب للوظيفة العمومية.. ومطالب للحكومة بالتدخل ومحاصرة ظاهرة هجرة الأطباء