أحكام قاسية.. كيف يستغل قيس سعيد القضاء لتصفية معارضيه؟

منذ ٣ أشهر

12

طباعة

مشاركة

موجة غضب واسعة خلّفتها الأحكام القضائية الصادرة بحق عدد من السياسيين والإعلاميين في تونس، والتي أكدت الطابع السياسي لهذه الأحكام، واستغلال القضاء لتصفية المعارضين لنظام حكم الرئيس قيس سعيد.

تأتي هذه التفاعلات بعد أن أصدرت المحكمة الابتدائية بالعاصمة تونس، في 5 فبراير/ شباط 2025، أحكاما وصفت بـ"القاسية" في حق عدد من المتهمين، وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب المنحل راشد الغنوشي، والذي قضت عليه بالسجن 22 عاما.

كما شمل القرار القضائي الحكم على وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام بـ34 عاما، وسمية الغنوشي بـ25 سنة، إضافة إلى آخرين، في القضية المعروفة إعلاميا باسم "أنستالينغو".

وتعود أطوار قضية "أنستالينغو" إلى يوليو/تموز 2021، حيث داهمت السلطات التونسية مقر الشركة بذريعة تلقيها معلومات عن تورطها في الاعتداء على أمن الدولة، وتبييض الأموال والإساءة إلى الغير عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وتتهم السلطات الشركة بأنها كانت تنفذ حملات إعلامية مشبوهة تستهدف خصوم النظام، وهو ما تنفيه عائلات المتهمين وهيئات حقوقية تعد القضية ذات طابع سياسي.

وقالت حركة "النهضة": إن "شركة أنستالينغو مختصة بإنتاج المحتوى الإعلامي والصّحفي بما في ذلك الترجمة، وتقدم خدمات إعلامية متنوعة شمل بعضها المشاركة في الحملات الانتخابية لعدد من المرشّحين لرئاسيات 2019، وليس من بينهم مرشح النهضة في تلك الانتخابات".

ظالمة وجائرة

وأعلنت هيئة الدفاع عن رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي عن رفضها واستنكارها للأحكام الصادرة ضده فيما يعرف بملف "أنستالينغو"، التي بلغت 22 عاما، مؤكدة أنها أحكام "ظالمة وجائرة وكيدية".

وقالت هيئة الدفاع عبر بيان، في 6 فبراير 2025: إن الغنوشي "سيواصل مقاطعته للمحاكمات السياسية الكيدية الجائرة، طالما تواصل دوس حقوق الدفاع واقتصار القضاء على تنفيذ إرادة السلطة في الانتقام والتشفي بغطاء قضائي".

ورأت هيئة الدفاع أن "الحكم الجائر في حق الغنوشي ليس الظلم الوحيد الذي تعرض له في هذه القضية، إذ سبق ذلك إصدار بطاقة إيداع بحقه في غيابه ودون مرافعات، ورغم سبق استنطاقه وعدم ورود أي معطى جديد يستوجب إعادة استدعائه".

ورأت الهيئة أن الأحكام الصّادرة في ملف "أنستالينغو" هي أحكام جاهزة، وأن جلسات الاستنطاق والمرافعة كانت صورية، ما دفع بالكثير من السادة المحامين إلى الدعوة لمقاطعاتها، ومن بينهم من قاطع جلسة المرافعة.

وأكدت الهيئة أن "الغنوشي بريء تمام البراءة من التهم المنسوبة إليه، وأن المحكمة لم تسند له أفعالا ارتكبها، بل كل ما نسب إليه مجرد وشايات كاذبة دون دليل أو برهان٬ وتتعزز براءته بنفي بقية أطراف القضية لأي علاقة لهم به، وأن إدانته رغم كل ذلك يعد انتهاكا صارخا لقرينة البراءة ولحقوقه".

ولفتت الهيئة في توضيح لها للرأي العام، إلى أن "القضية انطلقت من وشاية تقدم بها شخصان تعلقت بهما العديد من القضايا والملفات التأديبية، ورغم صدور العديد من الأحكام في حقهما فإن المحكمة خالفت القانون واعتمدت عليها كأساس للدعوى، وعدت ادعاءاتهما الباطلة من قبيل الشهادة".

من جهتها، سارعت جبهة الخلاص المعارضة إلى إصدار بيان تنديدي بالأحكام الصادرة في ملف "أنستالينغو".

وأكدت الجبهة أنها تلقت ببالغ الاستياء والاستنكار الحكم الصادر عن الدائرة الجنائية الثانية بالمحكمة الابتدائية بتونس بإدانة وسجن عدد من المدونين والسياسيين والأمنيين في القضية المعروفة بـ "قضية أنستالينغو".

وشددت الجبهة على أن "القضاء التونسي يعيش أحلك فتراته بعد حل المجلس الأعلى للقضاء، وحملة الإعفاءات وتسيير القضاء/الوظيفة بمذكرات العمل الصادرة عن وزيرة العدل".

ورأت أن "هذه الأحكام التي بلغ مجموعها أكثر من 760 سنة، مؤشر على أن موسم المحاكمات السياسية يعكس رغبة في التشفي والانتقام توظف فيها السلطة الملفات القضائية الملفقة".

وأشارت الجبهة إلى أن هذا الحكم الظالم قد يكون مؤشرا إلى توجه السلطة التنفيذية المسؤولة واقعيا عن إدارة "الوظيفة القضائية" للمرور من الانتقام والتشفي من معارضيها إلى شكل من "التطهير السياسي" غير المسبوق.

تداعيات خطيرة

ويرى المحامي والناشط الحقوقي، المختار الجماعي، أن هذه القضية “تعكس رغبة نظام سعيد في تصفية معارضيه، بل إنه في هذا الملف تجاوز السياسيين إلى موظفين وصحفيين بالشركة موضوع القضية”.

وأوضح الجماعي لـ"الاستقلال" أن "جريمة المساس بأمن الدولة التي توبع بها الغنوشي وعبد السلام وغيرهما في الملف، كان يلجأ إليها الرئيس الراحل بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي لتصفية خصومهما السياسيين".

واستطرد: "كما يستغلها اليوم سعيد لتصفية خصمه السياسي الأول أي حركة النهضة، وهو ما يفسر الأحكام المشددة التي لم نعهدها في الأحكام السياسية".

ومما يؤكد الطابع السياسي للقضية، قال الجماعي، إنها “انطلقت من شهادة مزورة من شخص هو عضو في مجلس النواب الحالي (لم يسمه)”.

وأضاف “كما أن القاضي الذي تولى البحث في هذا الملف كان موضع اختلالات وشبهات"، مشيرا إلى أن "هيئة الدفاع طالبت بضم هذا الأمر للقضية، وهو ما كان سينسفها من أساسها، غير أن القضاء رفض هذا”.

وقال الجماعي: إن "سعيد صحّر الحياة السياسية، واستعمل القضاء لتصفية خصومه".

ورأى أن هذه القضية ستقضي على آخر أمل في الديمقراطية في تونس، وأن تداعياتها ستكون كبيرة وخطيرة جدا.

وشدد على أن "الواقع يؤكد أنه ليست هناك أي استقلالية للقضاء في تونس في ظل حكم سعيّد، ومن دلائل ذلك اعتقال قضاة وتتبع آخرين وعزلهم وتهميشهم وسرقة اختصاصات القضاء الإداري وغيرها".

وتابع المحامي والناشط الحقوقي: "نعيش في حالة من لا أمن قضائي، مما جعل كل معارض في تونس يحرس لسانه جيدا، لأنه قد يجد نفسه أمام ملف مفبرك في حقه".

وخلص إلى أن "تونس أمام خطر جدي مصدره من يضع يده على القضاء بالتخويف والتخوين".

بدوره، أكد المحامي والناشط السياسي عبد الوهاب معطر، أن هذه الأحكام "تندرج في نطاق الظلم الصارخ الذي يعيشه المعتقلون السياسيون في تونس".

وأضاف معطر في تصريحات صحفية عقب النطق بالأحكام، أن "ملف أنستالينغو لا يستحق هذه الأحكام القاسية، بل إنه لا يستحق أي إحالة على القضاء من الأساس".

ورأى أن القضاء “أصبح أداة طيعة في يد السلطة التنفيذية، مما يشكل تهديدا خطيرا للحريات العامة”.

من جانبه، قال القيادي في حزب التيار الديمقراطي المعارض هشام العجبوني، إن "كل الأحكام السياسية باطلة إلى أن تتوفر ضمانات المحاكمة العادلة".

وأضاف العجبوني في تصريحات للصحفيين، "اليوم في تونس لا يوجد مجلس أعلى للقضاء، وهناك مرسوم أصدره الرئيس سعيد بمفرده يمكّنه من عزل القضاة بجرة قلم، مما يجعل من المستحيل الحديث عن قضاء محايد".

وأشار إلى أن الهدف من هذه الأحكام "هو إقصاء الخصوم السياسيين وإشاعة مناخ من الخوف".

أحكام سياسية

أما زعيم حزب العمال المعارض اليساري، حمة الهمامي، فأكد أن هذه الأحكام "هي انعكاس للواقع التونسي الحالي، حيث يقوم النظام السياسي على أساس استبدادي وديكتاتوري".

وقال الحمامي لموقع "الحرة" الأميركي في 7 فبراير، إن "النظام جاء بانقلاب دستوري، ولذلك هو يعادي الديمقراطية، ويفرض نظام حكم فردي مطلق، ويقصي الشعب من المشاركة في الشأن العام ويقمع الحريات ويفتح أبواب السجون لمعارضيه ومنتقديه وينكّل بهم ويزرع الخوف في المجتمع".

وذكر أن نظام سعيد "جاء في إطار رِدّة على مكاسب الثورة الديمقراطية واتخذ شكلا شعبويا، يمينيا متطرّفا، يلغي الأجسام الوسيطة بدعوى أنها مضرة بالشعب".

وقال الهمامي: إن “سعيّد ينصّب حكم الفرد الواحد بدعوى أنه الناطق باسم الشعب، لذلك عادت السجون التونسية لتمتلئ بالمعارضين والمنتقدين كما كان الأمر في زمن ابن علي”.

وكان سعيد الذي وصل إلى سدة الحكم عقب فوزه العريض في رئاسيات 2019، لكن في إجراء انقلابي على الديمقراطية في 25 يوليو/تموز 2021 حل الحكومة والبرلمان وعدد من الهيئات الدستورية، في خطوة واجهت انتقادات واسعة من أحزاب المعارضة.

وشدد زعيم حزب العمال على أن واقع الحقوق والحريات "سيئ للغاية"، معتبرا أن النظام سعى إلى "تصفية المكاسب الديمقراطية للثورة التونسية الواحد تلو الآخر، من ذلك إلغاء دستور 2014 وتعويضه بدستور الحكم الفردي المطلق".

وتابع في هذا السياق، بأن السلطة حلت كل المؤسسات والهيئات النابعة من دستور 2014 وعوضتها بأخرى شكلية، تأتمر بأوامر سعيد، وفككت القضاء وحولته إلى مجرد أداة بيدها لتصفية الخصوم. 

في السياق نفسه، أكد الناطق باسم الحزب الجمهوري، وسام الصغير، أن "الأحكام الصادرة تأتي لتفنيد الشائعات التي راجت أخيرا حول النزوع إلى التهدئة في البلاد، وهذه الأحكام أكدت مرة أخرى أن التفكير في هدنة وطي صفحة الماضي هي مجرد شعارات".

وشدد الصغير لموقع "العربي الجديد" في 6 فبراير، على أن "هناك شبه إجماع من قبل مختلف الهيئات القضائية على أن القضاء يعيش تبعية مطلقة للسلطة التنفيذية".

واسترسل: "وبالتالي لا يمكن انتظار أحكام منصفة أو ذات أثر ملموس، فالحقيقة الوحيدة هي أن القضاء أصبح مجرد أداة للسلطة التنفيذية، والتفشي واضح وهو التنكيل بالخصوم وبكل نفس مستقل عن السلطة، والذهاب نحو مزيد من الانغلاق".

ولفت إلى أن "ما كان يروج في الكواليس حول الحوار هو بالونات اختبار، وهناك في الحقيقة حالة استياء، وخيبة أمل وقلق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، مما يؤكد كل ما تم استشرافه سابقا".

وبيّن الصغير أن "محاكمة المتهمين في قضية التآمر ستكون في 4 مارس/ آذار 2025، والأحكام قد تصل إلى الإعدام، ولكن المعركة مستمرة لأن هذه القضية تعني كل تونسي".

وأكد أنه "سيتم الانطلاق في حملة واسعة للضغط من أجل علنية المحاكمة، ولكي تتدارك الجهات القضائية ما يمكن أن يكون لعبة مفضوحة لعدم نقل حيثيات هذه الجلسة، ولا يوجد أي مبرر لعدم علانيتها".