بوابة القضاء والقانون.. طريق قيس سعيد لخطف ولاية ثانية في تونس

3 months ago

12

طباعة

مشاركة

وجه آخر من أوجه الاستبداد الذي عاشته تونس طيلة فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي (1987ـ2011)، الذي هرب إثر احتجاجات شعبية في العام 2011، يرسمه الآن الرئيس قيس سعيد.

يواصل الرئيس التونسي نهجه التحكمي في العملية السياسية، مستغلا في ذلك سلطة القضاء والقانون، للتضييق على الخصوم والمنافسين، بل حتى على حلفائه السابقين، وسط تحذيرات من مآلات هذا المسار الخطير.

ويأمل سعيد الفوز بولاية رئاسية ثانية مدتها 5 سنوات خلال الاستحقاقات المقررة في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بعد أن فاز في انتخابات أكتوبر 2019.

ترسيخ الانقلاب

وفي هذا الصدد، أفاد نافع العريبي، عضو هيئة الدفاع عن رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، المرشحة المحتملة للرئاسيات، والموالية السابقة للرئيس سعيد، بأن المحكمة أصدرت حكما ابتدائيا بسجن موكلته مدة سنتين.

الحكم الصادر في 5 أغسطس/آب 2024، جاء في قضية رفعتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ضد موسي، وذلك بموجب قانون لمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.

وأشار العريبي إلى أنه سيتم استئناف الحكم الصادر في حق عبير موسي التي توجد رهن الاعتقال منذ مطلع أكتوبر 2023 على ذمة عدد من القضايا، بينھا قضيتان رفعتھما ضدھا الھيئة العليا المستقلة للانتخابات.

في السياق ذاته، قضت محكمة تونسية بسجن 4 مرشحين محتملين للانتخابات الرئاسية لمدة 8 شهور ومنعهم من الترشح مدى الحياة، في خطوة قالوا إنها "تستهدف إقصاء منافسين جدد" للرئيس سعيد.

والتهمة الموجهة للمرشحين الأربعة المحتملين هي "شراء تزكيات"، والمعنيون بالحكم هم السياسي عبد اللطيف المكي، والناشط نزار الشعري، والقاضي مراد مسعودي، والمرشح عادل الدو.

وفي هذا الصدد، يرى المحلل السياسي والناشط الإعلامي نصر الدين السويلمي، أن "توظيف سعيّد للقضاء في العملية السياسية ليس بجديد، خاصة منذ أن اقتلع المجلس الأعلى السابق وعين بديلا عنه".

وأوضح السويلمي لـ"الاستقلال" أن "سعيّد استخدم القضاء من أجل برنامج كامل ومتكامل، يقوم على ترسيخ الانقلاب والاستبداد في البلاد، وكذا الخرافات التي يبشر بها المواطنين".

وفي 13 فبراير/شباط 2022، أصدر سعيد المرسوم الرئاسي عدد 11 لسنة 2022 الذي يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بمجلس جديد يدعى "المجلس الأعلى المؤقت للقضاء".

وذكر السويلمي أن "سعيد بعد أن طوع له مجلس القضاء، وتمكن من جيوب المقاومة في الجسم القضائي لمثل هذا اليوم، هو حاليا بصدد إخراج مسرحية انتخابية على مقاسه، على أن تحمل بعض الملامح الإيجابية، من أجل تسويقها في الخارج".

ولفت إلى أن "سعيّد يريد التجديد لنفسه في ثوب ديمقراطي، بما يسعفه على أن يخادع الرأي العام الدولي وقليلا من الرأي العام الداخلي، ليقتنعوا فعلا بأن الانتخابات الرئاسية هي نتيجة ثمرة ديمقراطية".

وشدد المحلل السياسي على أن "ما يريد سعيد الوصول إليه يتم العمل له بطريقة بائسة وقديمة، بما يؤكد أننا أمام عملية إفلاس كاملة، حيث يريد ترميم صورته في شكل ديمقراطية مموهة، غير أنه سيقع في فضيحة كبرى أمام الداخل والخارج".

تضييق منهجي

وفي ظل هذا الوضع، أعلن المرشح للرئاسة نزار الشعري انسحابه من السباق الانتخابي، قائلا إن "ما شهدناه من عراقيل ومن ظلم وحيف خلال هذا المسعى دعانا إلى التريث والتأقلم مع مقتضيات المرحلة".

وأضاف نزار في تدوينة نشرها عبر حسابه على "فيسبوك" في 6 أغسطس 2024: "نحن لا ننسحب من المعركة، ولكننا نرجئها إلى المكان والوقت المناسب، حيث إن الوضع الحالي ينطبق عليه قول الشاعر، فيك الخصام وأنت الخصم والحكم".

وأوضح أنه "بعد مشاورات مع فريق العمل، قرر أن لا يخوض هذه الانتخابات كديكور، معرضا الأعزة من الذين تطوعوا معه في هذه الملحمة وعائلاتهم لمزيد من الحيف"، مستدركا: "إلا أننا لن نتراجع عن حلمنا في وطن يجمعنا يطيب فيه العيش للجميع".

وشدد نزار على أنه "سيقاضي إداريا وجزائيا كل من قام على غير حق بعرقلة مساره المشروع"، مشيرا إلى أنه "قد كلف مجموعة من المحامين باستئناف الحكم الجائر الذي طاله وطال مدير حملته في أقرب الآجال".

واسترسل: "وكذا رفع قضية إدارية في شخص وزير الداخلية في تجاوز السلطة وعدم تمكينه من بطاقة السوابق العدلية التي طلبتها مرارا دون جدوى، وتكوين فريق قانوني لحصر كل الإشكالات والعراقيل اللاقانونية التي تعرض لها الفريق لها في الأيام الفارطة ورفع قضايا ضد من تسببوا فيها".

وفي يوليو/تموز 2024، قرر القضاء سجن لطفي المرايحي، وهو مرشح محتمل للانتخابات الرئاسية ومنتقد شرس لسعيّد، ثمانية أشهر بتهمة "شراء أصوات"، كما قرر منعه من الترشح في الانتخابات الرئاسية.

ويُشترط على الراغبين في الترشح جمع 10 تزكيات من أعضاء مجلس نواب الشعب (الغرفة الأولى للبرلمان)، أو مثلها من مجلس الجهات والأقاليم (الغرفة الثانية)، أو 40 تزكية من رؤساء المجالس المحلية أو الجهوية أو البلدية، أو 10 آلاف تزكية في 10 دوائر انتخابية، على ألا يقل عددهم عن 500 ناخب بكل دائرة.

وفي 5 أغسطس 2024، قال أربعة مرشحين محتملين بارزين على الأقل، بمن فيهم منذر الزنايدي وكمال العكروت، إن السلطات أبلغتهم برفض منحهم بطاقة السجل الجنائي، وهو شرط جديد تطلبه هيئة الانتخابات.

واتهموا السلطات بـ"إعادة الديكتاتورية وإجراء انتخابات هزلية كما كان الوضع قبل الثورة التونسية عام 2011".

تفاعل الرئيس

وصف سعيّد (66 عاما) الانتخابات المقبلة بأنها “حرب تحرير وتقرير مصير وثورة حتى النصر في إطار المشروعية الشعبية، وسننتصر من أجل تأسيس جمهورية جديدة..”. على حد تعبيره.

وفي تصريح صحفي عقب خروجه من مكتب إيداع الترشح للانتخابات الرئاسية، في 5 أغسطس، قال سعيد "لن نقبل بأن تدخل أي جهة أجنبية في اختيارات شعبنا".

وفي ردّه على الانتقادات بالتضييق على المترشحين وعدم تمكنهم من جمع التزكيات، أفاد الرئيس التونسي "لم أضيق على أحد، ويطبق القانون على الجميع على قدم المساواة، وأنا هنا مواطن لأقدم الترشح، ومن يتحدث عن التضييقات فهو واهم".

وفي معرض تعليقه على توقيف وملاحقة الصحفيين والإعلاميين والناشطين وفقا للمرسوم 54 الذي تم إقراره لمكافحة "الأخبار الكاذبة" في سبتمبر/أيلول 2022، قال سعيد “نحن في حرب تحرير من أجل الحرية، ولا نريد تضييق الحريات على أي كان ولكن في إطار القانون.. لم أتدخل في القضاء”.

كما أعلنت الرئاسة التونسية، في اليوم نفسه، أن سعيد أشرف على اجتماع مجلس الأمن القومي، حيث أكد في كلمته على ضرورة "المزيد من اليقظة والانتباه خاصة في هذه المرحلة التي تعيشها تونس".

وأوضح سعيد في منشور للرئاسة عبر "فيسبوك"، أن "القوى المضادة للثورة والمضادة للشعب ولحركة التحرر الوطني التي يخوضها، تقوم عن طريق أعوانها المأجورين بتأجيج الأوضاع بكل الطرق والوسائل".

وفي 29 يوليو 2024، بدأت فترة قبول ملفات الترشح، على أن تبت فيها هيئة الانتخابات بين 7 و10 أغسطس، وفق تصريح سابق لرئيس الهيئة فاروق بوعسكر.

وفي أبريل/ نيسان 2024، أعلنت جبهة الخلاص الوطني، أكبر ائتلاف للمعارضة التونسية، أنها لن تشارك في الانتخابات بداعي "غياب شروط التنافس".

وقاطعت المعارضة كل الاستحقاقات التي تضمنتها إجراءات انقلابية بدأها سعيد في 25 يوليو 2021، وأوجدت أزمة واستقطابا سياسيا حادا.

وشملت هذه الإجراءات حلّ مجلسي القضاء والنواب، وإصدار تشريعات بأوامر رئاسية، وإقرار دستور جديد عبر استفتاء شعبي، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.

وتعد قوى تونسية تلك الإجراءات "انقلابا على دستور (2014) الثورة وتكريسا لحكم فردي مطلق"، بينما تراها قوى أخرى مؤيدة لسعيّد “تصحيحا لمسار ثورة 2011” التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي (1987- 2011).

من جانب آخر، أعلن عضو مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أيمن بوغطاس، أن العدد النهائي لملفات الترشح للانتخابات الرئاسية خلال الفترة الممتدة من 29 يوليو وحتى 6 أغسطس، بلغ 17 ملف ترشّح.

وأفاد بوغطاس لإذاعة "موزاييك إف إم"، في 6 أغسطس، بأن مجلس الهيئة سيتولى النظر في الملفات المقدمة بداية من 7 أغسطس، وعلى مدار 4 أيام، على أن يتم الإعلان عن القائمة الأولية للمقبولين في 11 أغسطس.

وأضاف "إثر ذلك تفتح فترة الطعون أمام القضاء الإداري".

استبداد الرئيس

ويرى وزير الخارجية التونسي الأسبق رفيق عبد السلام، أن "سعيّد يقود البلاد إلى استبداد تام وشامل، في ظل ما يقوم به لفرض نفسه من جديد عبر الانتخابات الرئاسية".

وقال عبد السلام في تدوينة عبر “فيسبوك” في 7 أغسطس 2024، "يبدو أننا قد وصلنا إلى نهاية الطريق مع سعيد، في لعبته التي وضعها بنفسه وعلى مقاسه".

وأضاف: "فإما ثورة انتخابية بأتم معنى الكلمة تقتضي نفيرا عاما لكل قوى الشعب لإخراجه بقوة الصندوق لصالح أي منافس آخر.. أو انسحاب جماعي من العملية الانتخابية، ونزع الشرعية والمشروعية عنه، ومن ثم تركه يسابق نفسه وينافس ذاته المريضة".

واسترسل عبد السلام: "فلا وجود لطريق وسط؛ إما ثورة بالصندوق أو الانسحاب التام ونزع الاعتراف عنه، فندعه هو وصندوقه وانتخاباته يعزف لحنه ويغني أغنيته الخاصة".

من جانبه، قال المدون والناشط المدني أحمد جربي، إنه "ليس من العبقرية أن يدرك المرء أن الانتخابات الرئاسية تفتقد للحد الأدنى من شروط التنافس النزيه والمتكافئ".

وأضاف “لذلك ليس من الحكمة تقريع الذين اجتهدوا وترشحوا، ودفعوا أثمانا من أحكام سجنية طالتهم وطالت جامعي التزكيات، كما مُنع البعض من الترشح مدى الحياة، وحجبت عنهم البطاقة عدد 3، المتعلقة بالسوابق العدلية”.

وشدد جربي لـ"الاستقلال"، على أن "أيسر المواقف هي المقاطعة، وكلمة (لا) لا تأتي ببلاء"، مستدركا: "لكن أن تتحسس طريقك بين الأشواك والموانع، حتى وإن فشلت فلك شرف المحاولة".

بدوره، أكد المحلل السياسي والناشط الإعلامي نصر الدين السويلمي، أن "العملية الانتخابية الرئاسية المقبلة ستكون محطة من المحطات السلبية في تاريخ ومسار تونس".

وأضاف السويلمي لـ"الاستقلال": إنها "ستكون مرحلة فاصلة في الإجهاز على ما تبقى من الدولة". 

وشدد على أن "سعيّد يمعن في الانتقام من الدولة ومؤسساتها، أراد ذلك أم لا، وأدرك مآل ما يقوم به أم لا".

ونبه إلى أن "عدم إدراك الرئيس لمآلات الوضع الحالي هو نتيجة طبيعية لكونه ليس له أي إدراك سياسي، لأنه إنسان صفر في السياسة، ولذلك سيمعن في إرهاق الدولة وتدميرها".

ورأى السويلمي أن "الخلاص من هذا الشخص لن يكون بانقلاب عسكري أو ثورات، بل من الداخل"، مشيرا إلى أن "سعيد يحمل بذور فنائه في ذاته، لكن لن يخرج دون أن يدمر أشياء كثيرة في الدولة وبشكل شامل، مما يتطلب من بعده عقودا من الإصلاح".

أما الكاتب والإعلامي التونسي محمد كريشان، فقال إن "كل مرشح جاد لانتخابات الرئاسة في تونس، إما في السجن أو في طريقه إليه".

وذكر كريشان في مقال رأي نشره عبر "القدس العربي" في 6 أغسطس، أن "الرئيس الحالي ليس مستعدا أبدا لأية منازلة شريفة وعادلة للحصول على ثقة الشعب لخمس سنوات مقبلة، وأنه في سبيل ذلك لا يدّخر أية وسيلة لإقصاء الجميع حتى لا يبقى في المضمار سواه تقريبا".

ورأى أن "محاولات إقصاء كل المرشحين تقريبا والإبقاء على سعيّد يركض وحده في المضمار بلغت درجة من السخف جعلتها مفضوحة، حين غاب عنها الحد الأدنى من الجدية والوجاهة، شكلا ومضمونا، بطريقة لا تحدث إلا في أسوأ الديكتاتوريات في العالم وأكثرها تفاهة".

وذكر كريشان أن "أخطر ما يقع هو ما يرتبط بإشكالية الشرعية، ذلك أن انتخابات رئاسية لا تتوفر فيها شروط المنافسة النزيهة هي منذ البداية انتخابات معطوبة، وبالتالي فقد تذهب معظم الأحزاب والقوى السياسية والمدنية الكبرى إلى عدّها غير شرعية، خاصة إذا كانت نسبة المشاركة هزيلة".

واسترسل: "وبالتالي فالرئيس الذي ستفرزه سيصبح في نظر هؤلاء غير شرعي، مما قد يدخل البلاد في مرحلة أسوأ مما سبق وبسمعة دولية أكثر تلطّخا، لأن لا أحد تقريبا أسقط شرعية سعيّد، حتى بعد انقلابه على الدستور وتغييره المنفرد لكل المشهد السياسي والمؤسساتي في البلاد ولكن إذا وصلنا إلى هذه النقطة فتلك دوّامة أخرى.".