عبر توسيع ساحات الحرب.. "فورين أفيرز": هكذا تحقق إسرائيل حلم السنوار
"لقد خاضت إسرائيل حربها في غزة بشكل متعثر ومتخبط"
في رؤية مغايرة لكثير مما يتداول بالإعلام العبري، يؤكد الكاتب الصحفي الإسرائيلي، آري شافيت أن 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 مثّل نهاية للعصر الذهبي الإسرائيلي في الشرق الأوسط الذي دام 5 عقود.
وفي مقال له، نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، قال شافيت، إن "في الماضي، كان زعماء إسرائيل يعرفون كيف يواجهون التهديدات الوجودية بذكاء، لكن حكومة بنيامين نتنياهو اختارت مسارا مختلفا".
مستنقع غزة
وأضاف شافيت: "في عام 1947، قبل الزعيم الصهيوني، ديفيد بن غوريون، خطة التقسيم التي طرحتها الأمم المتحدة، قبل شن حرب أسفرت في نهاية المطاف عن قيام دولة يهودية على 78 بالمئة من الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط".
وتابع: "وفي عام 1967، أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي إشكول، وزير خارجيته، أبا إيبان، إلى البيت الأبيض، ومقر رئاسة وزراء بريطانيا، وقصر الإليزيه، قبل شن العملية العسكرية الاستباقية التي عُرفت بحرب الأيام الستة (النكسة)، والتي ضاعفت حجم إسرائيل ثلاث مرات".
واستطرد: "وفي عام 2000، بادر رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود باراك، إلى عقد قمة كامب ديفيد للسلام (التي فشلت في نهاية المطاف)، والتي منحت إسرائيل الشرعية الدولية والداخلية للتغلب على الانتفاضة الثانية، التي اندلعت بعد شهرين".
واستدرك: "لكن حكومة نتنياهو اتخذت مسارا مغايرا، فقد شنت حربا في غزة من دون شرعية دولية، أو دعم دبلوماسي، أو حتى إستراتيجية شاملة".
"كما استخدمت قوة عسكرية ضخمة، من دون تحديد أهداف سياسية واضحة وقابلة للتحقيق، ومن دون نظرية واضحة للنصر"، وفق توصيف شافيت.
وأردف أنه "حتى مع نجاحها في تنفيذ سلسلة من الهجمات ضد "حزب الله" اللبناني، ودفاعها عن نفسها في مواجهة وابل من الصواريخ الباليستية من إيران، فإن إسرائيل لم تضع إستراتيجية شاملة للحرب".
وأكد أن "إسرائيل غرقت في مستنقع غزة بشكل أعمق، متجاهلة السياقات الإقليمية والعالمية للحرب"، قائلا: "باختصار، لقد خدمت إسرائيل مصالح أعدائها، إيران و(حركة المقاومة الإسلامية) حماس".
وقال إن "الخطة الكبرى لإيران واضحة، فأهدافها على المدى البعيد هي تدمير إسرائيل، والهيمنة على العالم العربي، وتقويض الغرب، والعودة مرة أخرى قوةً إمبريالية".
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، فإنها تستخدم إستراتيجية ذات مستويات ثلاثة، بحسب الكاتب.
أولا، تحاول إيران الحصول على السلاح النووي؛ لتحييد التفوق الإستراتيجي لإسرائيل، والحصول على بوليصة تأمين ضد أي هجوم نووي محتمل.
وثانيا، تقوم إيران بتصنيع الأسلحة التقليدية المتقدمة، كالقذائف وصواريخ كروز والطائرات المسيّرة، حتى تتمكن من تقليص الميزة التكنولوجية التي تتمتع بها الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما.
وأخيرا، تحاصر إيران إسرائيل بحلقة من القواعد التي قد يشن منها وكلاؤها (وقواتها الخاصة) ذات يوم غزوا شاملا للدولة اليهودية.
وأوضح أن "في الوقت الحاضر، تستخدم إيران هذه القواعد استخداما دفاعيا، ولكن بمجرد أن تصبح نووية، فيمكنها أن تتحول للهجوم".
وأضاف أن "الفرضية الأساسية لطهران هي أنها قادرة على تدمير إسرائيل في غضون عقد أو عقدين من الزمان، والسيطرة على الشرق الأوسط، ومواجهة الغرب".
خطة السنوار
من ناحية أخرى، فإن "الخطط الرئيسة لحماس وحزب الله واضحة"، وفق الكاتب الإسرائيلي.
"إذ يتلخص هدفهما المشترك في تحويل إسرائيل إلى شيء أشبه بفيتنام الجنوبية في الستينيات، من خلال خلق انطباع بأن الدولة اليهودية ليست أكثر من عميل ضعيف لواشنطن، وتحويل الرأي العام الأميركي ضدها".
ومن أجل تحقيق هذه الغاية كان زعيم حماس، يحيى السنوار، ينوي عزل إسرائيل، وإضعاف اقتصادها عالي التقنية، ودفع نخبها إلى الخارج، وجعل الحياة الإسرائيلية لا تطاق.
وأضاف الكاتب الإسرائيلي أن "أحد أهداف السنوار من شن هجوم 7 أكتوبر كان إجبار إيران على تسريع الجدول الزمني لتنفيذ خطتها ضد إسرائيل".
وأردف: "كان السنوار يعتقد أن تصعيد العنف من شأنه أن يخرج عن نطاق السيطرة ويشعل حربا متعددة الساحات، من شأنها أن تتحول في النهاية إلى كارثة إقليمية".
ويرى أن "في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اقتربت قيادة إسرائيل من تحقيق حلم السنوار الكبير".
وأوضح: "لكن في اللحظة الأخيرة توقفت إسرائيل عن شن هجوم مخطط على لبنان، كان من شأنه أن يشعل الشرق الأوسط".
واستدرك: "لكن في الأشهر الـ 11 التالية، أسهمت إسرائيل عن غير قصد في تمكين السنوار من تحقيق هدفه الأصغر، والمهم أيضا".
وأوضح: "فقد كان هجومها العسكري على غزة قاسيا وقصير النظر، كالحرب الأميركية في فيتنام قبل ما يقرب من 60 عاما".
وأكد شافيت أنه "على الرغم من أن إسرائيل أثارت بحربها على غزة غضبا دوليا، إلا أنها فشلت في تحقيق نصر حاسم أو الوصول لحل سلمي".
وقال: "إن النتائج واضحة للعيان، فكثيرون حول العالم ينظرون إلى ما يحدث بوصفه حربا وحشية لا ترحم، ومعركة غير عادلة بين جالوت إسرائيلي وداود فلسطيني".
وأضاف أنه "بفضل التركيبة المروعة من الأخطاء الإستراتيجية الإسرائيلية، والعمى التاريخي للغرب، وآلات الدعاية للقوى الاستبدادية، ينظر الناس في مختلف أنحاء العالم إلى إسرائيل بصفتها الطاغية الإمبريالي".
واستطرد أنه "بدلا من النظر إلى الحرب في غزة بصفتها أشبه بالحرب الأوكرانية ضد روسيا، فإن الناس ينظرون إليها بوصفها حرب فيتنام ثانية، أو حرب جزائرية أخرى، أو صدى للنضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا".
تآكل "الإنجازات"
وفي سياق متصل، قال الكاتب الإسرائيلي: "بالتوازي مع تآكل الشرعية الدولية لإسرائيل، فقد تدهور الوضع داخلها أيضا".
"فبعد الصدمة الفورية في 7 أكتوبر، تحركت الأمة المصدومة للعمل، وفي الأشهر التالية، حشد المجتمع الإسرائيلي قواه، وتعافى الجيش، وتشكلت حكومة وحدة وطنية".
وأسفر ذلك -بحسب الكاتب- عن إنجازات تكتيكية كبيرة، وظل تحالف إسرائيل طويل الأمد مع واشنطن قويا، ونجت علاقاتها مع الأنظمة العربية المناهضة لإيران، ولم تحدث أي عمليات فلسطينية كبرى في الضفة الغربية أو في "إسرائيل" ذاتها.
واستدرك: "لكن في ظل غياب قيادة مؤهلة وإستراتيجية واضحة، سريعا ما ذهبت بعض هذه الإنجازات أدراج الرياح".
"ففي النصف الأول من عام 2024، انحلت حكومة الوحدة، وتفكك المجتمع من جديد، وتلكأ الجيش، وبدأت الروابط بين إسرائيل وواشنطن في التآكل".
"ولا يزال نحو 100 إسرائيلي محتجزين في أنفاق غزة، وأصبح نحو 100 ألف إسرائيلي لاجئين، وباتت الحكومة الإسرائيلية بالكاد قادرة على العمل".
كما "سيطر الساسة اليمينيون المتطرفون على الحكومة، وهاجم المتطرفون اليمينيون المدنيين في الضفة الغربية، وأصبحت السلطة الفلسطينية في وضع حرج، هذا بجانب تزايد خطر اندلاع انتفاضة ثالثة".
وقال شافيت: "لقد خاضت إسرائيل حربها في غزة بشكل متعثر ومتخبط، مما أسفر عن مقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين".
واستدرك: "على النقيض من ذلك، نفذت إسرائيل حملتها الجوية في لبنان حتى الآن بدقة وسرعة مذهلتين، ففي غضون 10 أيام في سبتمبر/أيلول، استعادت الدولة اليهودية أهم أصولها الإستراتيجية، وهو الردع".
"وفي مختلف أنحاء الشرق الأوسط، أصبح يُـنظَر إلى إسرائيل مرة أخرى بوصفها دولة قوية قادرة على إضعاف أعدائها"، وفق تقييم الكاتب الإسرائيلي.
وتابع: "لكن في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعقب الهجمات الكبيرة ضد حزب الله، عملية برية إسرائيلية في لبنان زادت من خطر اندلاع حرب برية شرسة، وعاصفة نارية إقليمية".
وأشار إلى أن "نحو 200 صاروخ إيراني استهدفوا مواقع إسرائيلية، بما في ذلك مقر الموساد، والمفاعل النووي في ديمونا، والقواعد الجوية الإستراتيجية، ولم يترك ذلك لإسرائيل أي خيار سوى الرد".
وأكد قائلا: "لقد أصبح من الواضح تماما أن العبقرية التكتيكية التي أظهرتها إسرائيل في الشهر الماضي لم تكن جزءا من إطار إستراتيجي وسياسي شامل".
وأضاف: "لم تقدم الحكومة أي حلول للمشاكل عميقة الجذور التي أدت إلى كارثة 7 أكتوبر، التي رسمت سلوك إسرائيل بعد هذا الهجوم الصادم".
نهاية العصر الذهبي
وشدد الكاتب الإسرائيلي على أن "ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط ليس حدثا منعزلا، ولا مجرد جولة أخرى من الأعمال العدائية".
"فما بدأ في 7 أكتوبر، هو حدث متعدد الأبعاد ونطاقه أوسع من أي شيء حدث في القرن الحادي والعشرين".
وقال: "إن هذا الصراع الجديد يمثل نهاية للعصر الذهبي لإسرائيل الذي دام خمسة عقود، والذي كانت فيه واحة الحرية تتمتع بالتفوق الإستراتيجي ضد قوى الطغيان والتعصب التي تحيط بها".
"كما يمثل نهاية للعصر الذهبي اليهودي الذي دام ثمانية عقود، والذي نجح خلاله الشعور الجماعي بالذنب بخصوص الهولوكوست في كبح جماح معاداة السامية وقمعها".
"كذلك يمثل نهاية للعصر الذهبي الأميركي الذي دام ثمانية عقود من السلام الأميركي (Pax Americana) الذي منح العالم الاستقرار النسبي والرخاء والحرية والهدوء".
وقال شافيت: "من نواح كثيرة، يعود العالم إلى الوراء، فالإسرائيليون يخوضون حربا لم يخوضوها منذ عام 1948، كما تزعزعت الجاليات اليهودية بالخارج؛ بسبب تفجر الكراهية الذي لم يحدث مثله منذ الهولوكوست".
"ويواجه الأميركيون الآن تحديا مماثلا للتحدي الذي واجهه فرانكلين روزفلت وهاري ترومان في أربعينيات القرن العشرين".
وتابع أن "الآثار المترتبة على هذا الوضع التاريخي الجديد واضحة بالنسبة لإسرائيل؛ إذ يتعين عليها أن تعيد بناء قدرتها على الصمود الوطني على جميع الأصعدة، ويتعين عليها أن تندمج بشكل كامل في العالم الحر".
ويرى الكاتب أن "ائتلاف نتنياهو اليميني لم يعزز الدولة اليهودية، بل أضعفها، فبدلا من الاستثمار في العلوم والتعليم والتماسك الداخلي، أهدر الائتلاف الموارد الوطنية من خلال بناء المستوطنات والانخراط في استفزازات غير ضرورية".
"كما عمل ائتلاف نتنياهو على تقليص دور مؤسسات الدولة، وتقسيم المجتمع، وتقويض المؤسسة العسكرية، في حين أدى إلى تآكل الشرعية الدولية للصهيونية".
والآن يتعين على الإسرائيليين -بحسب شافيت- أن يعودوا إلى المسار الذي رسمه بن غوريون عندما كانت إسرائيل شابة، ويتعين عليهم إعادة تعريف إسرائيل بصفتها ديمقراطية تحمي قيمها في مواجهة الشر.
وأضاف أن "من جانبها، يتعين على الولايات المتحدة أن تدرك حقيقة بسيطة: إنها إيران، يا غبي".
ويعتقد الكاتب الإسرائيلي أن "آيات الله في طهران لن يتوقفوا ما داموا يعتقدون أن التاريخ -والصين وروسيا- في صفهم".
وقال: "إن إيران سوف تستمر في توسيع دائرة نفوذها وتعريض الحضارة للخطر؛ لذلك، لا يمكن للأميركيين أن يعيشوا في عزلة مريحة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ".
ويعد شافيت أن "النظام العالمي الذي استقر بعد عامي 1945 و1990 يواجه تهديدات جديدة، حيث تعرض لهجوم أول مع الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، بينما الهجوم الثاني هو غزو حماس لإسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2023".
وختم بالتحذير من أنه "إذا لم يتبنّ الغرب بسرعة سياسة واقعية وحاسمة، فقد يحدث الهجوم الثالث عندما تنفذ إيران أول اختبار لها لسلاح نووي، أو عندما تهزم الصواريخ الإيرانية جميع الدفاعات وتهطل على تل أبيب أو دبي".