تعديلات قانونية.. كيف حصن السيسي حكمه من الغضب الشعبي إزاء تدهور الاقتصاد؟
بشكل مفاجئ، وافق مجلس النواب المصري يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2024، على قانونين يخصان "القضاء العسكري و"تأمين وحماية المنشآت" يحولان مصر رسميا من دولة يحكمها نظام مدني إلى دولة تحت الحكم العسكري.
القانون الأول، صدر بحجة تأمين وحماية المنشآت والمرافق العامة والحيوية في الدولة، وتضمن توسيع دور الجيش في السيطرة على مؤسسات الدولة.
وشمل هذا القانون بنودا تمنح "الضبطية القضائية" لضباط الجيش في مصر بحجة حماية المنشآت أو مكافحة تهريب السلع الغذائية، ما يوسع من سلطات القوات المسلحة في التعامل مع الحياة المدنية.
والقانون الثاني، أضاف تعديلات على قانون القضاء العسكري، توسع دوره في نظر "الجرائم التي تقع على المنشآت والمرافق والممتلكات العامة والسلع والمنتجات التموينية"، والتي ينظرها القضاء العادي ما يعني توسيع محاكمة المدنيين عسكريا.
حقوقيون وناشطون رأوا أن تعديلات هذه القوانين تزيد من تغول الجيش في المزيد من مناحي الحياة المدنية في مصر، وترسخ "دولة الضباط".
لكنها تكشف في نفس الوقت ضمنا عن تخوف المؤسسة العسكرية وإدراكها للخطورة البالغة التي وصلت إليها أحوال البلد.
قالوا إن تدهور الأوضاع الاقتصادية والخوف من طوفان غضب شعبي، دفع السلطة لمزيد من تحصين نفسها بمزيد من "العسكرة" بدلا من حل المشاكل الأصلية.
وتشهد مصر جنونا في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه، تسبب في ارتفاع كبير بالأسعار وتكالب من المصريين على التصرف في أموالهم سواء بشراء ذهب أو ممتلكات أو سلع مُعمرة تحسبا لانهيار مستمر في قيمة الجنيه بخلاف غلق شركات ومؤسسات بسبب مشاكل استيراد الخامات.
كما تشهد ارتفاعا في أسعار الخدمات الحكومية بصورة كبيرة، ودخول السلطات في السوق السوداء لشراء الدولار، في محاولة لجمع أي أموال لسداد الديون حيث يجب سداد قرابة 10 مليارات دولار ديون خارجية بين يناير ومارس 2024، و42 مليارا مع نهاية 2024.
عسكرة جديدة
بموجب القوانين التي وافق عليها مجلس النواب الموالي للنظام، نهائيا، يصبح أي ضابط بالجيش "مفتش تموين" يقوم بمراقبة الأسواق والقبض على المخالفين، ولن تتم محاكمتهم أمام قاضيهم المدني، إنما أمام القضاء العسكري.
حيث نص مشروع قانون "حماية المنشآت الحيوية" على منح ضباط القوات المسلحة "صلاحية الضبط القضائي"، في الجرائم التي تضر باحتياجات المجتمع اﻷساسية، من سلع ومنتجات تموينية.
ونص على خضوع الجرائم التي تقع على المنشآت والمرافق العامة والحيوية وجميع أنواع الخدمات التي تسري عليها أحكام القانون، لاختصاص القضاء العسكري.
ومنح القانون رئيس النظام عبد الفتاح السيسي أو من يفوضه تحديد اﻷعمال التي تهدد "المقومات الأساسية للدولة ومقتضيات اﻷمن القومي".
وأقر القانون أن يتولى الجيش معاونة أجهزة الشرطة في تأمين وحماية المنشآت والمرافق العامة والحيوية.
بما في ذلك محطات وشبكات وأبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقول البترول وشبكات الطرق والكباري، وغيرها من المنشآت الحيوية، وما يدخل في حكمها.
أجاز أيضا استمرار مشاركة القوات المسلحة مع أجهزة الشرطة في مواجهة "الأعمال والتعديات التي تخل بسير عمل المرافق العامة والحيوية بالدولة"، أو الخدمات التي تضر باحتياجات المجتمع مثل السلع والمنتجات التموينية.
وشملت تعديلات قانون القضاء العسكري، ضم الجرائم التي تقع على المنشآت والمرافق العامة والحيوية والممتلكات العامة وما يدخل في حكمها والتي تتولى القوات المسلحة حمايتها، في نطاق ما يجرى محاكمتهم بموجب القانون العسكري.
وقنن المحاكمات العسكرية للمدنيين على درجتين، بإضافة الاستئناف، على غرار المحاكم المدنية العادية، بعدما كانت أحكام القضاء العسكري نهائية من الدرجة الأولى، لتصبح المحاكمات العسكرية للمصريين دائمة وليست لفترة استثنائية.
وبذلك أصبحت هناك "محكمة الجنايات العسكرية المستأنفة" لنظر الطعون على الجنايات، لتنضم إلى محاكم عسكرية أخرى، هي "العسكرية العليا للطعون"، و"العسكرية للجنايات"، و"العسكرية للجنح المستأنفة"، و"المحكمة العسكرية للجنح".
وحاول مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية، اللواء ممدوح شاهين، في كلمته بالبرلمان تجميل هذه "العسكرة" بزعمه أن "مجلس النواب أرسى دولة القانون ودفع عجلة الاقتصاد انطلاقا من دوره الدستوري في مرحلة شديدة الحساسية".
ودافع شاهين عن منظومة القضاء العسكري، لافتا إلى أن الأغلبية العظمى من القضاة العسكريين حاصلون على الماجستير"، دون أن يذكر أنهم حاصلون عليه من كليات عسكرية لا علاقة لها بدراسة القانون.
وزعم أن "القضاء العسكري دستوري وليس استثنائيا، وإن أردنا يمكن تسميته بقضاء خاص"، لأن "أي مدني يمثل أمام القضاء العسكري تطبق عليه القوانين العامة، فالقضاء العسكري جهة قضائية مستقلة".
وكان الجيش المصري يعاون الشرطة في تأمين المنشآت الحيوية عقب ثورة 25 يناير 2011، وما تلاها من اضطرابات أمنية، لكنها كانت إجراءات استثنائية، إلا أن التعديل الأخير يشرعن ذلك ويجعل تدخله في الحياة المدنية رسميا.
كارثة متوقعة
لهذا رأى ناشطون أن القانونين اللذين مررهما البرلمان حولا مصر من دولة يحكمها نظام مدني إلى دولة تحت الحكم العسكري الصريح، والجيش أصبح هو الدولة.
قالوا إن السخرية والتحكم في المصريين من جانب الجيش وصلت لحد نص القانون على أن "الضبطية القضائية" تُعطي أيضا لضباط الصف، وهم وفقا لقانون الجيش أربع رتب: عريف ورقيب ورقيب أول وصول.
حيث أصبح بموجب قانون تأمين المنشآت من حق "صف الضابط"، المتطوع بشهادة متوسطة (الإعدادية)، القبض على من يرى هو أنه يخالف القانون ويحوله لمحاكمة عسكرية، ما يشير لتحسب السلطة لكارثة ضخمة قادمة.
وأكد الصحفي جمال سلطان أن هذه التعديلات "إجراءات متسارعة لعسكرة الدولة والاقتصاد والقوانين والقضاء والأمن".
وقال إنها "تكشف عن إدراك المؤسسة العسكرية للخطورة البالغة التي وصلت إليها أحوال البلد، وأن انفجارا أصبح قريبا"، وبدلا من حل الأزمة، يفكرون فقط في التصدي لطوفان الغضب المنتظر.
الإجراءات المتسارعة في الأسابيع الأخيرة في مصر لعسكرة الدولة والاقتصاد والقوانين والقضاء والأمن تكشف عن إدراك المؤسسة العسكرية للخطورة البالغة التي وصلت إليها أحوال البلد، وأن انفجارا أصبح قريبا، المصيبة أنهم لا يفكرون في حل الأزمة، كل التفكير هو في التعامل مع طوفان الغضب المنتظر
— جمال سلطان (@GamalSultan1) January 30, 2024
من جانبها، قالت مؤسسة "دعم العدالة" في 29 يناير، إن تعديلات قانون القضاء العسكري، تعصف بالضمانات الدستورية الممنوحة للمصريين في حقهم بالمحاكمة أمام قاضيهم الطبيعي لا القضاء العسكري.
أكدت أن حماية المنشآت العامة تدخل في اختصاص وزارة الداخلية وهي وزارة مدنية، والمرافق العامة، خاصة بالمدنيين، والجرائم التي تلحق بها، شملها قانون العقوبات المصري أمام القضاء الطبيعي، فلماذا محاكمات عسكرية؟
وفي 24 يناير، وخلال كلمته في عيد الشرطة، الذي يواكب ذكري ثورة 25 يناير 2011، حاول السيسي تحذير المصريين ضمنا من ثورة غضب، مشيرا إلى وجود أزمة حقيقية تواجهها البلاد.
قال مخاطبا المصريين: "كل حاجة تهون إلا بلدنا.. إحنا بناكل وبنشرب وكل حاجة ماشية.. طاب غالية أو بعضها مش متوفر.. إيه يعني؟"
وحاول الإسقاط على تجويعه لشعب غزة بغلق معبر رفح قائلا: "ربنا مدينا مثال حي لناس مش عارفين ندخلها أكل في غزة.. شوية قمح أو شوية زيت علشان يعملوا لقمة عيش ياكلوها بقالنا 4 شهور".
السيسي يقول خلال حديثه عن الأزمة الاقتصادية إن المصريين ليس أمامهم إلا "استمرار التضحية أو التسبب في خراب البلد" pic.twitter.com/totdmgJjgE
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) January 24, 2024
وهو ما عده مصريون تهديدا لهم: إما أن يصبروا على الجوع أو تدخل مصر في فوضى ويضيع الأمن لو ثاروا وخرجوا في طوفان غضب.
وكان السيسي قال في خطاب سابق عن أزمة الدولار وارتفاع الأسعار: "خلاص احنا منقدرش نعمل أكتر من كده"، ورد عليه القيادي المعارض يحيي القزاز مطالبا إياه بالرحيل عن السلطة طالما لا يمكنه حل المشاكل التي تسبب فيها.
الرئيس السيسى عن أزمة الدولار وارتفاع الاسعار يعترف ويقول: "خلاص احنا مانقدرشى نعمل اكتر من كده"، واحنا ياريس-بعد إذنك- مانقدرشى نستحمل اكتر من كده. هو وجودك لازمته إيه؟! يا إما تحل يا إما ترحل فى هدوء، قبل مانغرق كلنا، وانت هتكون أولنا. اتفضل ارحل فخامة الرئيس#المقاومة_هى_الحل https://t.co/h2bxDS4I76
— Yahia El kazzaz (@KazzazYahia) January 29, 2024
وفسر المحلل السياسي السعودي الدكتور أحمد بن راشد بن سعيد صدور هذه القوانين لعسكرة مصر بأن شعب مصر على شفا الانفجار، بعد الهبوط التاريخي للجنيه، ليصل إلى 70 جنيها للدولار، وتردي الأوضاع المعيشية إلى مستويات غير مسبوقة.
قال إن خوف السيسي دفعه كي يُكمل عسكرة المجتمع، ويُقحم الجيش في تفاصيل الحياة اليومية للناس، والتدخل حتى في المخالفات التموينية واحتكار السلع، لكن "الطوفان قادم" حسبما توقع.
يبدو أن شعب #مصر على شفا الانفجار، بعد الهبوط التاريخي للجنيه، ليصل إلى 70 جنيهاً للدولار، وتردّي الأوضاع المعيشية إلى مستويات غير مسبوقة. خوف #السيسي وزبانيته دفع “البرلمان” إلى إقرار قانون “حماية المنشآت الحيوية” الذي يُكمل عسكرة المجتمع، ويُقحم الجيش في تفاصيل الحياة اليومية… pic.twitter.com/CbE03qR6mo
— أحمد بن راشد بن سعيّد (@LoveLiberty_2) January 31, 2024
مؤشرات الخراب
مع استمرار نظام السيسي وإصراره على بناء مشاريع سكنية بلا قيمة في الصحراء (العاصمة الإدارية) وإهدار ملايين الدولارات في شراء طائرات رئاسية فاخرة، واستمراره في الاستدانة حتى بلغت 165 مليار دولار أوائل 2023.
ثم قيامه ببيع أصول الدولة من فنادق وعقارات ووزارات وشركات، أغلبها للإمارات، لمن يدفع أو تسليمها مقابل الديون، بما سيؤدي للإفلاس بعد انتهاء هذه الأصول، بدأت تظهر مؤشرات خراب الاقتصاد وأنه لا حلول لما فعله سوى رحيل العسكر.
وأدى النقص الحاد في الدولار إلى قمع الواردات وتسبب في تراكم البضائع في الموانئ وسط قيود على خطابات الاعتماد، مع تأثير مباشر على الصناعة المحلية، وارتفاع في أسعار الذهب والحديد والسلع الغذائية بصورة فاحشة.
ففي 13 يناير، وبالتزامن مع دراسة نظام السيسي طرح سندات بضمان إيرادات قناة السويس، تم طرد مصر من مؤشر "جي بي مورجان"، الأمر الذي عده خبراء اقتصاد عدم ثقة في اقتصاد مصر.
وقالوا إن سياسة بيع الأصول حتى تنتهي ولا يتبقى منها شيء معناه إعلان إفلاس مصر وتسليمها للدائنين.
سبق هذا تخفيض وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية، نظرتها المستقبلية لمصر في أكتوبر/تشرين أول 2023 من "مستقرة" إلى "سلبية"، كما حذَّرت وكالة فيتش من تأثير الاضطرابات الإقليمية على وضع مصر الائتماني، وهو ما يعني زيادة كلفة الاستدانة؛ لأن المخاطر مرتفعة.
ثم خفضت موديز التصنيف الائتماني لأكبر خمسة بنوك في مصر 23 يناير 2024 من مستقر لسلبي، بعدما خفضت تصنيف مصر عند "سي أيه أيه1" (Caa1)، الذي يعني أن "الالتزامات ضعيفة وتخضع لمخاطر ائتمانية عالية جدا".
أيضا توقعت وكالة "ستاندرد أند بورز غلوبال" للتصنيف الائتماني في تقرير نشرته 25 يناير أن تخفض مصر قيمة الجنيه إلى نصف قيمته الحالية للحصول على تبقى من حزمة صندوق النقد الدولي.
وذلك بالتزامن مع تأكيد صحف مصرية في 31 يناير أن مصر اقتربت من اتفاق مع صندوق النقد لرفع الدين الجديد من 3 إلى ما يعادل 6 أو 8 مليارات دولار، بشرط خفض الجنيه، في وقت وصل فيه سعر الدولار في السوق السوداء إلى نحو 70 جنيها للدولار الواحد مقابل 30.9 جنيها رسميا.
وأسهم في مؤشرات الخراب والإفلاس المتوقع انخفاض عائدات قناة السويس، أحد مصادر العملات الأجنبية في مصر، وانخفاض عوائد السياحة، وتحويلات العاملين للخارج، ما أعطى انطباعا للمؤسسات الأجنبية بأن القاهرة تواجه صعوبة في سداد ما عليها من التزامات.
وانخفضت تحويلات المصريين العاملين بالخارج، خلال الربع الأول خلال السنة المالية 2023/2022 بنحو 29.9 بالمئة، حيث وصلت إلى نحو 4.5 مليارات دولار مقارنة بنحو 6.4 مليارات دولار في الربع المناظر في السنة المالية السابقة، بحسب بيان البنك المركزي.
وبحسب بيانات البنك المركزي في يناير، تباطأ الاقتصاد المصري مسجلا نموا 2.9 بالمئة في الربع الثاني من عام 2023 مقارنة بمعدل نمو 3.9 بالمئة في الربع الأول.
ويتوقع البنك الدولي أيضا أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمصر بنسب أكبر إلى 3.5 بالمئة في العام المالي 2024/2023، بانخفاض قدره 0.2% عن توقعاته الأخيرة في أكتوبر 2023.