اقتصاد متأزم "حتى إشعار آخر".. هكذا يعيش التونسيون في ظل انقلاب سعيد
مؤشرات اقتصادية منخفضة عديدة تشير إلى حجم ما يعانيه الشعب التونسي من أزمات وما سيطرأ عليه مستقبلا، في ظل انسداد الأفق السياسي وتراجع الحريات مع قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد 25 يوليو/ تموز 2021، المقلقة لمناخ الاستثمار.
وسجلت الاستثمارات الأجنبية الواردة إلى تونس تراجعا بنسبة 7.4 بالمئة في النصف الأول من 2021، مقارنة مع الفترة المماثلة من 2020، في وقت تعاني فيه البلاد من تزايد معدلات البطالة، وتأزما بالوضع الاقتصادي والسياسي.
وفي السياق، ارتفعت نسبة البطالة في تونس إلى 17.8 بالمئة خلال الثلث الأول من 2021، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
وبلغ عدد العاطلين عن العمل 742.8 ألف شخص من إجمالي السكان النشطين الذين يفوق عددهم 4.1 مليون شخص، بزيادة قدرها 15.7 ألفا، مقارنة بالثلث الرابع من 2020.
كما تراجع احتياطي تونس من النقد الأجنبي حتى 10 أغسطس/ آب 2021، بمقدار 1.945 مليار دينار (694.6 مليون دولار) أو بنسبة 9 بالمئة على أساس سنوي، بلغ 19.731 مليار دينار (7 مليارات دولار)، وهو ما يغطي واردات البلاد لمدة 123 يوما.
وانخفضت عائدات السياحة إلى 1.317 مليار دينار (470.3 مليون دولار) حتى 10 أغسطس/ آب 2021، بانخفاض 71.9 بالمئة عنها في 2020.
ويواجه اقتصاد تونس أخيرا أزمة غير مسبوقة، مع تسجيل انكماش في النمو خلال الربع الأول بنسبة 3 بالمئة، وانهيار عائدات السياحة نتيجة تفشي وباء "كورونا"، وتفاقم مديونية البلاد.
مع نهاية مايو/ أيار 2021، بلغ حجم الاقتراض الداخلي 3.85 مليارات دينار (1.39 مليار دولار)، فيما بلغ حجم الاقتراض الخارجي 2.04 مليار دينار (738.0 مليون دولار).
وتحتاج تونس فيما تبقى من 2021، حوالي 6.5 مليارات دولار من القروض، بينها قروض خارجية في حدود 4.5 مليارات دولار، وقروض داخلية في حدود 2 مليار دولار.
تقديرات ميزانية الدولة لسنة 2021، تشير إلى أن حجم الدين العمومي بشقيه الخارجي والداخلي بنهاية 2021 ستبلغ حوالي 92.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وبواقع 112.39 مليار دينار (85.57 مليار دولار).
تراجع الاستثمار
تلك المعطيات السلبية التي تعكس الوضع الاقتصادي التونسي بشكل واضح دفعت وكالة التصنيف الائتماني "فيتش رايتينغ" لخفض تصنيفها طويل المدى لمصادر العملة الأجنبية في تونس من "ب" إلى "- ب"مع آفاق سلبية.
وهو الأمر الذي يعكس مخاطر في توفر السيولة المالية محليا وخارجيا، وفق الوكالة.
وكشفت وكالة "النهوض بالاستثمار الخارجي" الحكومية، عن تراجع الاستثمار الأجنبي القائم في تونس خلال الثلاثة أشهر الأولى من السنة الحالية بنسبة 31 بالمئة، مقارنة مع نفس الفترة من سنة 2020.
إذ تراجعت الاستثمارات الأجنبية في القطاع الفلاحي بشكل ملحوظ، فيما تجاوزت نسبة الانخفاض 95 بالمئة، يليه قطاع الصناعة مسجلا انخفاضا بنحو 50 بالمئة، وقطاع الطاقة الذي سجل تراجعا 15.5 بالمئة.
في المقابل، مثل قطاع الخدمات استثناء خلال الثلاثة أشهر الأولى من 2021، إذ ارتفعت الاستثمارات بهذا المجال 87.6 بالمئة.
الأزمة خانقة
الباحث في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، محمد النوري، يقول: إن "تراجع الاستثمار الأجنبي الذي يعد أحد محركات النمو؛ علامة فارقة على احتدام الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد، والتي أصبحت مركبة ومعقدة سياسيا وصحيا واقتصاديا وماليا".
ويضيف النوري، لـ"الاستقلال"، أنه "وفق الأزمة الحاصلة فمن المنتظر أن يتراجع الاستثمار بشكل عام والأجنبي بشكل خاص، وذلك لأسباب مباشرة وغير مباشرة".
"الأسباب المباشرة تتمثل في تراجع الترقيم السيادي للبلاد، وتوقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وبالتالي انسداد أبواب التمويل والاقتراض من السوق المالية الدولية"، وفق رؤية الباحث.
ويؤكد أنه "رغم عدم تعثر البلاد في هذه الديون حتى الآن، وتمكنها من الإيفاء بالتزاماتها، وعدم التوجه نحو إعادة جدولة الديون، إلا أن نسبة الدين إلى الناتج الإجمالي اقتربت من 100 بالمئة، ما يدل على فظاعة الأزمة وحدتها".
الأسباب غير مباشرة، وفق الباحث الاقتصادي، هي "اضمحلال الثقة في الاقتصاد جراء فشل الحكومات المتعاقبة في الحد من تداعياته، وإجراء الإصلاحات الضرورية لوضع البلاد على طريق النمو وانتشالها من مستنقع الانكماش".
ويلفت إلى أن ذلك "يدفع بالاستثمار إلى الهاوية، لأن عامل الثقة من أبرز العوامل الجاذبة للاستثمار الأجنبي والمحفزة للاستثمار الوطني".
ويوضح أنه "وبالتالي فإن النتيجة الطبيعية المزيد من الانكماش، وانسحاب رأس المال من حلبة الاستثمار والإنتاج، وخصوصا في ظل انعكاسات الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد من قبل وبعد حدث يوم 25 يوليو/تموز 2021".
"لا يوجد هنا رئيس حكومة، ولا برلمان، ولا مؤسسات دستورية، وفق تعبير النوري.
ويعتقد الباحث التونسي، أنه "حال لم تحدث العودة المتدرجة للمسار الديمقراطي فإن اهتزاز الثقة يستمر، واحتدام الأزمة لن يتوقف".
ويتوقع أنه "ربما نشهد هروبا لمزيد من رؤوس الأموال للخارج بحثا عن ملاذات أكثر أمانا واستقرارا، ما سيدفع إلى تفاقم معدلات البطالة".
ما يعني وفق النوري، "تنامي الاحتقان الاجتماعي وتهديد الاستقرار والتأثير على القرار السياسي والاقتصادي، والمس من السيادة الوطنية ما لم ينتبه التونسيون وأصحاب القرار إلى خطورة هذا الوضع".
ويطالب الجميع بـ"العمل على تفاديه عبر آلية الحوار الوطني على غرار ما جرى عام 2013، حينما دخلت البلاد آنذاك في نفق العنف السياسي".
تآكل "الأجنبي"
تلعب الاستثمارات وبخاصة الأجنبية دورا مهما في تحفيز النشاط الاقتصادي ورفع الصادرات وجذب النقد الأجنبي الذي ينعكس على العملة المحلية، مما ينعكس على حجم النقد الأجنبي للبلاد.
لكن مع تعثر النظام عن سداد مستحقات مستقبلية مع ما يثار عن صعوبة تدبير موارد مالية تقدر بنحو 6 مليارات لتغطية عجز الموازنة 2021، ربما يلجأ النظام للبنك المركزي لسداد القروض وبالتالي تراجع النقد الأجنبي وقيمة الدينار.
هنا يوضح النوري، أن "الاقتصاد حلقات مترابطة، وبالتالي حال سقطت إحدى حلقاته انعكس ذلك على باقي الحلقات"، مضيفا أن "احتياطي النقد الأجنبي للبلاد أحد هذه الحلقات المهمة بالنظام الاقتصادي".
ويشير إلى أنه نظرا لتفاقم الصعوبات المالية، وانسداد أبواب التمويل الأجنبي بعد تعثر بل وتوقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؛ لم يبق للحكومة سوى اللجوء للبنك المركزي لطلب التمويل الضروري لمواجهة الالتزامات العاجلة".
وتتمثل في دفع الرواتب والأجور التي تشكل نسبة عالية جدا من الناتج الإجمالي بنحو 17 بالمئة، وكذلك من ميزانية الدولة نحو 40 بالمئة.
بالإضافة إلى استحقاقات ضرورية أخرى مثل نفقات الدعم، وعجز الصناديق الاجتماعية، والمؤسسات العمومية؛ فضلا عن نفقات التسيير الحكومي، وغيرها.
النوري، يلفت إلى أن "البنك المركزي لبى بعض الاحتياجات وآخرها شراء سندات حكومية جرى إصدارها لأجل تسديد ديون خارجية مضمونة أميركيا بمبلغ مليار دولار كمرحلة أولى".
"ثم استخدم البنك عملية سواب بالعملة الأجنبية (عقد مقايضة) في مرحلة ثانية؛ وتنعكس تلك السياسات على حجم احتياطي العملة الأجنبية"، بحسب الباحث التونسي.
ويلمح إلى أن "احتياطي العملة الأجنبية انخفض من معدل 145 يوما إلى حدود 129 يوما؛ وهو مؤشر سلبي خصوصا إذا تمادى الانخفاض في نفس الاتجاه".
وفي 25 يوليو/تموز 2021، أدت قرارات الرئيس التونسي بإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي وتولي سعيد السلطة التنفيذية، وإقالة البرلمان، إلى انخفاض السندات الصادرة عن البنك المركزي بالعملة الصعبة انخفاضا حادا.
ونزل إصدار السندات التي ينتهي أجلها في 2024 و2027 بأكثر من خمسة سنتات لكل منها، إلى أدنى مستوى منذ ما يربو على عام.
ونزلت السندات التي ينتهي أجلها في 2027 عند 86.57 سنت في الدولار، بحسب بيانات "تريدويب".
كما أظهرت البيانات أن إصدار السندات المقومة بالدولار التي ينتهي أجلها في 2025 نزل بمقدار 4.8 سنتا ليتداول عند 83.88 سنتا في الدولار، وهو أدنى مستوى منذ ما يزيد على 14 شهرا.
تلك المؤشرات تعني أن إقدام تونس لطرح أية سندات يؤشر إلى تقديم أسعار فائدة مرتفعة، أعلى من السعر المرجعي، نظرا للمخاطر السياسية التي تشهدها البلاد.
مستقبل ضبابي
هذا الواقع ينذر بمستقبل اقتصادي غير واضح، خاصة بعد إصدار الرئيس التونسي أمرا رئاسيا يقضي بتمديد التدابير الاستثنائية بحق البرلمان "حتى إشعار آخر".
ما يعني استمرار حالة عدم اليقين وتراجع الثقة لدى المستثمرين نتيجة ضبابية الوضع السياسي والاقتصادي، وصعوبة التوصل إلى حلول على المستوى القريب، وبالتالي الانزلاق نحو الأسوأ.
فبدون حلول سريعة فهناك انفجار متوقع لشعب يعاني من نسب فقر وصلت 15.2 بالمئة وفق المعهد الوطني للإحصاء، بالإضافة إلى نسب تضخم تتجاوز 5.3 بالمئة مع نهاية 2021، وفق توقعات البنك المركزي التونسي.
من جهته، يطالب النوري، بضرورة "حل المعضلة السياسية التي تلقي بظلالها على الأزمة الاقتصادية، ولو من خلال انتخابات مبكرة، لتجنب السيناريوهات المظلمة".
ويشدد على "ضرورة تخفيض محكم ومدروس لمعدلات الفائدة التي تقلص كلفة الاستثمار وكلفة التمويل والإنتاج وتخفيض الأسعار، ما يحفز المستثمرين ويضخ الدماء في الاقتصاد المحلي".
الباحث الاقتصادي، يدعو أيضا إلى "اتباع خيارات غير تقليدية، والبحث عن أدوات تمويل بديلة على غرار التوجهات العالمية التي لم تستنكف في اعتماد آليات التمويل الإسلامي".
ويوضح أن بينها "صكوكا، ومنتجات مصرفية، وتمويلا تشاركيا، واقتصادا اجتماعيا تضامنيا؛ يستوعب منظومات مقبولة شعبيا ومجتمعيا".
ويختم بالقول: "كذلك الزكاة والوقف وغيرها"، لافتا إلى أنه للبعض منها "تشريعات وقوانين جاهزة، ولكنها ظلت للأسف الشديد حبرا على ورق، بسبب المناكفات السياسية والتجاذبات الحزبية والأيديولوجية".