هل تمهد زيارة الرئيس برابوو سوبيانتو لإسرائيل طريق إندونيسيا للتطبيع؟

"أي تقارب علني قد يُشعل احتجاجات جماهيرية"
عندما ظهرت تقارير حديثة تفيد بأن الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو قد يزور إسرائيل، راجت تكهنات بأن جاكرتا تخطو خطوتها الأولى نحو الانضمام إلى اتفاقيات التطبيع.
وجاءت أنباء الزيارة وسط تفاؤل حذر في الشرق الأوسط -عقب وقف إطلاق النار بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وحركة المقاومة الفلسطينية (حماس) وإطلاق سراح عشرين أسيرا إسرائيليا- بإمكانية انتصار الدبلوماسية حيث فشلت الحرب.
ومع ذلك، بعد ساعات من صدور أولى هذه التقارير، نفت جاكرتا هذا الادعاء بشدة، وأكدت دعمها الراسخ للفلسطينيين.
ويرى الباحث في العلاقات الدولية، أميت ياروم، أن "هذه الحادثة أبرزت مدى سرعة إعادة رسم الخريطة الدبلوماسية للشرق الأوسط منذ بدء وقف إطلاق النار هذا الشهر".
"وكشفت عن الضغوط والفرص التي تواجه دولا مثل إندونيسيا، وهي تراوِح بين الرأي العام المحلي وروح التضامن الإسلامي من جهة، والنظام العالمي المتغير الذي تشكله واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب من جهة أخرى".
وفي مقال نشره "المجلس الأطلسي"، قال ياروم: "إذا أُديرت هذه (الضغوط والفرص) بعناية، يمكن للتفاعل بين إسرائيل وإندونيسيا أن يعيد تشكيل اقتصادَي الجانبين ويؤثر على رؤاهم الإستراتيجية".
علاقات سرية
ومنذ نيلها الاستقلال، لم تقم إندونيسيا بأي علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهو ما يعكس موقف جاكرتا الداعم للقضية الفلسطينية وروح دستورها المناهض للاستعمار، فقد نظر رئيسها المؤسس، أحمد سوكارنو، إلى إسرائيل من منظور الاستعمار؛ إذ رفض استضافة الفريق الإسرائيلي في الألعاب الآسيوية بجاكرتا عام 1962، حتى إن بلاده انسحبت من التصفيات المؤهلة لكأس العالم عام 1958 بدلا من مواجهة منتخب الاحتلال الإسرائيلي.
وأكد القادة اللاحقون أن العلاقات الدبلوماسية “لن تكون إلا بعد حصول الفلسطينيين على استقلالهم”.
ولا يزال التعاطف الشعبي في إندونيسيا مع الفلسطينيين قويا، متأثرا بالهوية الإسلامية للبلاد وعقود من حملات التضامن. بحسب المقال.
واستدرك: "لكن وراء هذا الخطاب، استمر التواصل السري، ففي عهد الرئيس الثاني والأطول خدمة، سوهارتو، حافظت إندونيسيا على علاقات عسكرية واستخباراتية سرية مع إسرائيل خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ حيث حصلت على الأسلحة والتدريب عبر وسطاء".
وجربت إندونيسيا أحيانا خطوات محدودة للتقارب؛ فقد اقترح الرئيس الأسبق عبد الرحمن وحيد إقامة علاقات تجارية عام 1999، لكن كل محاولة علنية واجهت ردود فعل شعبية قوية.
وفي 2005 تحدثت تقارير عن اجتماع سري بين مسؤولين إندونيسيين وإسرائيليين على هامش الأمم المتحدة، لكن الرئيس حينها سوسيلو بامبانغ يودهويونو استبعد على الفور إقامة علاقات رسمية "إلى أن ينال الشعب الفلسطيني استقلاله".
وبالمثل، رفض الرئيس الأسبق جوكو ويدودو اقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتطبيع عام 2016، مؤكدا ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية أولا.
وقال ياروم: "لطالما قيّد الرأي العام، القائم على أسس أخلاقية ودينية، القادة الإندونيسيين عن الانفتاح على التعامل العلني مع إسرائيل".
على سبيل المثال، في مارس/آذار 2023، سحب الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) استضافة كأس العالم للشباب تحت 20 عاما من إندونيسيا بعد احتجاجات شعبية واسعة النطاق على مشاركة فريق الشباب الإسرائيلي.
وفي وقت لاحق من نفس العام، ومع تصاعد العدوان على غزة، أدانت السلطات الإندونيسية بشدة العمليات العسكرية الإسرائيلية حول المستشفى الذي تموله إندونيسيا في القطاع؛ حيث عبّرت خارجية جاكرتا عن "أشد الإدانات".
ورغم البرود السياسي، استمرّت علاقات محدودة في التجارة والسياحة؛ حيث تتبادل الشركات الإندونيسية والإسرائيلية البضائع بشكل غير مباشر، وبلغت التجارة الثنائية عدة مئات الملايين من الدولارات سنويا.
كما ازدهرت السياحة بشكل هادئ -رغم التراجع منذ اندلاع الحرب في غزة، وفق تقرير موقع “إسرائيل ترافل نيوز”.
ففي 2018، مثلا، زار أكثر من 37 ألف إندونيسي، معظمهم من الحجاج، الأماكن المقدسة في القدس رغم غياب العلاقات الرسمية.
وتعكس هذه التبادلات فضولا متبادلا تحت العداء الرسمي، وإن كانت قد حرصت على البقاء في الظل عمدا لتجنب ردود الفعل السلبية محليا، بحسب المقال.
![]()
براغماتية برابوو
ويرى ياروم أن هناك ثلاثة تطورات تضافرت لخلق انفتاح دبلوماسي بين إندونيسيا وإسرائيل في الوقت الراهن.
أولا، أوقفت الهدنة التي جرى التوصل إليها بين إسرائيل وحماس، بوساطة واشنطن، سنوات من الحرب، وسمحت بتدفق المساعدات الإنسانية.
وقد أشادت إندونيسيا بها بصفتها خطوة حاسمة نحو السلام، وعرضت المساعدة في إعادة إعمار غزة.
ومع تنافس القوى الإقليمية على النفوذ في أعقاب الصراع، ربما أدركت جاكرتا -وفق المقال- أن المشاركة، بدلا من العزلة، يمكن أن تدعم تعافي فلسطين بشكل أفضل، وتتيح لإندونيسيا لعب دور بنّاء في عملية السلام.
وحاليا، عرضت حكومة برابوو القيام بدور أكبر والمساعدة في إعادة إعمار غزة، مؤكدة أن الحل العادل يتطلب أمن إسرائيل وسيادة فلسطين.
ثانيا، أحيت إدارة ترامب الجديدة على الفور إطار اتفاقيات أبراهام، عادّة السعودية وإندونيسيا هدفين رئيسين للتطبيع.
وأفادت التقارير بأن واشنطن عرضت حوافز، بما في ذلك دعم انضمام إندونيسيا إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وهو أمر يتطلب موافقة جميع الدول الأعضاء، ومن بينها إسرائيل.
وربطت تقارير صدرت عام 2024 بين اتصالات جاكرتا الهادئة مع تل أبيب وبين هذه الحوافز.
ومع عودة ترامب إلى السلطة وسعيه لتحقيق "صفقة القرن" الجديدة -لا سيما الفوز بجائزة نوبل للسلام- تتقاطع أهداف إندونيسيا مع المصالح الإستراتيجية لواشنطن. بحسب الباحث.
ثالثا، انتهج برابوو، منذ توليه منصبه عام 2024، سياسة خارجية أكثر حزما وبراغماتية من أسلافه.
ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول، أذهل المراقبين بتصريحه: "يجب علينا ضمان سلامة وأمن إسرائيل.. حينها فقط يمكننا الوصول لسلام حقيقي".
وقد شكّل ختامه غير المسبوق بعبارة "شالوم" تحولا فلسفيا لافتا -وفق وصف ياروم- إذ أقر بأن ضمان أمن إسرائيل يُعد شرطا لقيام دولة فلسطينية.
وقال ياروم: "مع أنه تعهد سابقا بعدم التطبيع قبل الاستقلال، قد ينظر برابوو إلى التواصل مع إسرائيل كوسيلة لتحقيق هذا الهدف، لا خيانته".
وتشير تقارير إعلامية إقليمية إلى أنه وافق بحذر على زيارة محتملة لإسرائيل، في خطوة سياسية جريئة ربما أتاحها له حرصه على بناء تحالفات داخلية متينة.
فبفضل سيطرة ائتلاف "إندونيسيا المتقدمة" على البرلمان، يمتلك برابوو مساحة للمغامرة السياسية، بينما يوفر وقف إطلاق النار المستمر والدعم الأميركي لعملية التطبيع غطاء إضافيا لهذه المخاطرة.

آراء سلبية
وبحسب المقال، فلا يزال الرأي العام الإندونيسي مرتبطا ارتباطا وثيقا بالقضية الفلسطينية، وقد أظهر استطلاع للرأي أُجري في يونيو/حزيران 2025 أن 80 بالمئة من الإندونيسيين يحملون آراء سلبية تجاه إسرائيل.
واستطرد: “ما يعني أن أي تقارب علني قد يُشعل احتجاجات جماهيرية وردود فعل من علماء الدين، مما يُقوض شرعية برابوو المحلية”.
وتابع: "خارجيا، يُهدد التسرع في التحرك بإجهاد دور جاكرتا القيادي في العالم الإسلامي، ويُثير انتقادات من القوى الإقليمية المعارضة للتطبيع، مثل قطر وتركيا وإيران، التي لا تزال تُناصر القضية الفلسطينية".
وأردف: "أما بالنسبة لإسرائيل، فإن أي انكشاف مبكر أو ممارسات تُظهر الزهو السياسي، سواء عبر التسريبات أو التصريحات العلنية، قد ينسف سنوات من التواصل الهادئ ويعيد إشعال موجات العداء في جنوب شرق آسيا، مما يهدّد بانهيار الانفتاح الإقليمي الذي استغرق بناؤه عقودا".
وأكد ياروم على أنه "ينبغي أن يجرى التطبيع بهدوء وعلى مراحل، مع تجنب الإعلانات المبكرة، فقد أظهرت التسريبات السابقة، مثل لقاء إسرائيل ومسؤولين ليبيين عام 2023 والتقارير الإسرائيلية الأخيرة عن زيارة رسمية إندونيسية، كيف يُمكن للدعاية أن تُعرقل الدبلوماسية".
واسترسل: "من خلال حصر التواصل في قنوات موثوقة، يمكن للحكومتين بناء الثقة والتعامل بحذر مع الحساسية الداخلية".
"كما يمكن للولايات المتحدة أن تضطلع بدور الوسيط السري عبر تنسيق ثلاثي يوفر الغطاء السياسي اللازم إلى أن يحين الوقت المناسب للإفصاح العلني". بحسب توصية الباحث.














