وزير سابق يثير الجدل في المغرب.. لماذا أثنى على الدولة العميقة؟
"الدولة العميقة نقمة مطلقة فهي تشتغل خارج المؤسسات والقانون"
موجة انتقادات وتفاعلات واسعة خلفها الوزير المغربي السابق المصطفى الرميد، بعد ثنائه على الدولة العميقة في البلاد، خاصة أنه كان من أبرز المطالبين بالملكية البرلمانية قبل توليه حقيبة العدل والحريات مطلع 2012.
وقال الرميد وهو وزير الدولة السابق المكلف بحقوق الإنسان خلال حوار صحفي في 28 يونيو/حزيران 2024 إن "المملكة يرأسها الملك محمد السادس، لكن الدولة العميقة موجودة في المغرب".
وتابع: "كنت أقول للإخوة يجب ألا نرفض الدولة العميقة، لأنها نعمة من الله وتمثل العمود الفقري للمجتمع وللدولة، لكن ينبغي أن تؤطر بالدستور، وأن تُخلص من شوائب الفساد والاستبداد، وأن يكون هذا ضمانا للمغاربة".
حديث الرميد عن الدولة العميقة بصفتها نعمة في المغرب، جاء في سياق مقارنته ما حصل لحزب العدالة والتنمية، الذي كان ينتمي إليه، بمصير باقي الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم في دول عربية عقب ما عرف بثورات الربيع العربي عام 2011.
وقال الوزير السابق، إن وجود الملكية في المغرب كسقف يحدّ من سلطات الأحزاب التي تصل إلى الحكومة، جعل التجربة المغربية تختلف عن التجارب التي كان فيها سقف الإسلاميين في دول أخرى مفتوحا، ما دفعهم إلى الاندفاع بقوة في البداية، ثم السقوط المدوي في مرحلة موالية.
وأضاف: إسلاميو العدالة والتنمية في المغرب، سقطوا أيضا لكنهم "يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام"، أي أن سقف سلطاتهم المنخفض في الحكومة، قلّل خسائرهم بعد السقوط.
واسترسل الرميد في هذا السياق قائلا إن الملكية في المغرب، ميزة تجعل البلاد تتطور بشكل بطيء لكنه "مضمون".
تحولات دراماتيكية
قال عبد الرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة القاضي عياش، إن "الرميد لا يقصد بالدولة العميقة تلك الدلالة المعروفة، حيث يوجد أشخاص يتحكمون في الأمور، من داخل الجيش والمؤسسات الأمنية وغيرها".
واسترسل العلام لـ "الاستقلال": "بل يقصد المحيط الملكي، لأن الرميد يعلم جيدا أن الذي يحكم أولا وأخيرا في المغرب هو الملك، ولا يوجد من يؤثر فيه وفي قراراته داخل مؤسسات الدولة كما هو الحال في بعض الدول الأخرى".
وتابع: "ولذلك يبقى القصد من الدولة العميقة هو المحيط الملكي، الذي يقدم مشورات معينة، وهو ما جعله يتحدث أيضا عن تخليق هذا المحيط وإبعاده عن الفساد".
ويستدرك العلام: "إذا كانت الدولة العميقة غير معروفة أو غير علنية، فكيف نعرف مستوى فسادها مما يجعل الرميد يقع في تناقض على هذا المستوى".
ونبه المتحدث ذاته إلى أن الرميد لا يريد الإشارة إلى أمور سلبية تقع داخل الدولة العميقة، تلافيا لأي صراع مع المؤسسة الملكية.
وكذلك تجنبا لما حدث للأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية محمد نبيل بنعبد الله، الذي صدر بلاغ من الديوان الملكي ضده عام 2016، بعد تصريحاته عن المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة.
ووقتها، اتهم الديوان الملكي المغربي وزير السكنى وسياسة المدينة وقتها بنعبد الله بالزج بالمؤسسة الملكية في حملة الانتخابات التشريعية في ذلك الوقت، بعدما وصف "فؤاد عالي الهمة" وهو مستشار الملك بأنه "تجسيد للتحكم".
والبيان الصادر عن الديوان الملكي وقتها جاء دفاعا عن المستشار فؤاد عالي الهمة صديق الملك، الذي أسس حزب الأصالة والمعاصرة في 2008 للتصدي للإسلاميين، لكنه استقال بعد تعرضه لانتقادات في 2011 وصفته بأنه رمز للفساد، ثم عينه محمد السادس بعد ذلك مستشارا له.
ولفت إلى أن الرميد يريد بتصريحه أن يوصل رسالة لأعضاء حزب العدالة والتنمية، مفادها أن يتعاملوا بشكل مباشر مع الملك، دون النظر إلى المحيط الملكي، وكذا طمأنتهم بأن الدولة العميقة أو المربع الملكي ليس له تصور جذري ضدهم.
وفي تفسيره لتحولات الرميد من أبرز المطالبين بملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، إلى تجاهل هذا الطلب، قال إن هذا الأمر بدأ منذ أن زاره فؤاد عالي الهمة سنة 2010 لتعزيته في وفاة والده بمسقط رأسه بمنطقة سيدي بنور.
وقال الرميد لأعضاء قيادة حزبه بأن لا يعولوا عليه في أي مواجهة مع الأصالة والمعاصرة، وهو حزب يشارك حاليا في الائتلاف الحكومي الذي يقوده رجل الأعمال عزيز أخنوش.
ومن أبرز التحولات أيضا، أن الرميد أصبح هو المخاطب المباشر بين القصر الملكي ورئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران، خاصة بعد وفاة وزير الدولة الأسبق عبد الله بها، وفق العلام.
وبين أن الرميد أصبح حلقة الوصل في ظل انقطاع الاتصال ما بين بنكيران والقصر الملكي لفترات متعددة.
وقال العلام، إن الرميد كان من القلة أو الخاصة التي دُعيت لحفل زواج الأمير رشيد شقيق الملك محمد السادس عام 2014.
كما نحر كبش عقيقة نجل الأمير رشيد عام 2016، مما يعني أنه جرى تقريبه من المحيط الملكي أكثر من باقي أعضاء وقيادات العدالة والتنمية.
وذكر الأستاذ الجامعي أن "سنوات عمل الرميد على رأس وزارة العدل والحريات، ثم في منصب وزير الدولة، جعلته ربما يدرك أن شعاراته السياسية السابقة لم تكن صائبة، وخاصة مطلب الملكية البرلمانية، وأن هذا ليس وقتها".
وأضاف، أن الفاعلين السياسيين الحزبيين، قد تتبدل بعض أفكارهم ومطالبهم السياسية حين الاقتراب من السلطة أو ممارستها، نظرا لكون الحكم أو المشاركة فيه ليست كالمعارضة، وهذا وقع لكثير من اليساريين، وهو ما وقع للرميد أيضا، يقول العلام.
“نقمة مطلقة”
عدد كبير من الفاعلين السياسيين والناشطين الحقوقيين والباحثين والإعلاميين تفاعلوا مع تصريحات الرميد، خاصة قوله إن الدولة العميقة نعمة، متسائلين عن مآل فكرته التي كان دائما يرفعها، وهي المطالبة بملكية برلمانية.
وفي هذا الصدد، قال القيادي في جماعة العدل والإحسان، حسن بناجح: "الدولة العميقة نقمة مطلقة، فهي تشتغل خارج المؤسسات والقانون والحقوق".
واسترسل في تدوينة عبر فيسبوك: "الدولة العميقة اكتسبت نعت العمق بقدر انحدارها إلى أعماق الاستبداد والفساد وانفصالها عن الشعب".
وأردف بناجح: "الدولة العميقة هي تجمع المصالح الخاصة ولا يرجى منها بالبت والقطع رعاية المصلحة العامة، وهي أداة ضبط فكيف يتصور ضبطها وتقييدها والاشتراط عليها".
أما الباحث في المقاصد والعلوم الشرعية محمد عوام، فكتب عبر فيسبوك: من يقول "الدولة العميقة نعمة من الله"، كمن يقول: فرعون نعمة من الله على بني إسرائيل. وهذا دليل على انقلاب الموازين".
الحقوقي والمحامي عبد المولى المروري، كتب عبر فيسبوك: "للأسف الشديد، في السنوات الأخيرة يشهد المغرب أعلى منسوب له في تاريخه في النفاق والتملق للسلطة، يقوده زعماء وقادة أحزاب، وصحفيون ومثقفون ولم يتركوا إلا القليل منه لباقي عموم الشعب!".
ورأى الباحث في الفلسفة والفكر المعاصر فؤاد هرجانة، أن "مدح الدولة العميقة وعدها نعمة، هو في حد ذاته ضرب لكل مقومات الدولة الحديثة، وإقرار بجريمة اختطاف أجهزتها لخدمة جهة ما على حساب الشعب".
وشدد هرجانة في منشور عبر فيسبوك، أنه "باستدعائنا لأدوات التحليل الماركسية، لا مناص لنا من تحرير وسائل إنتاج الفعل السياسي من أجل دولة يمتلكها الجميع وتتحرك من أجل الجميع، وبكلمات أُخَر لابد من دولة المجتمع لا مجتمع الدولة".
ونبه الباحث في الفكر المعاصر إلى أن "النضال من أجل تحييد أجهزة الدولة، هو من جهة سعي عميق لجعل الدولة مِلكاً للجميع، وسلوك سياسي فعال لإرساء نظام عادل من جهة أخرى".
وأضاف: "علاوة على ذلك، فإن الدولة بوصفها جهازا إداريا أسمى يسهر على مصالحها العليا لا يقبل البتة بوجود دولة شريكة توصف بالعميقة".
رسائل وخلفيات
من جانبها، تفاعلت الناشطة السياسية والأستاذة الجامعية لطيفة البوحسيني مع تصريح الرميد عبر حسابها على فيسبوك بالقول: "بدل النكوص والتقوقع، نفضل آفاق البناء.. بدل السقوط في هوى الدولة العميقة، نفضل استنهاض الطاقات الكامنة في أعماق أحلامنا".
وأضافت: "حتى وإن كنا نعيش نكوصا وتراجعا عن الحد الأدنى الذي تحقق بفضل نضالات الحركة الديمقراطية والحراكات الاجتماعية المتعددة والمتنوعة، وحتى وإن كانت اللحظة الحالية هي لحظة جزر، وحتى وإن فشلنا أمام طاحونة السلطوية والاستبداد، فهذا لا يعني أن هذا قضاء وقدر لن يتغير".
واسترسلت: "سنرفع التحدي مرة أخرى، وسنساهم في عملية البناء وسنقتلع الأمل من جدران اليأس وسنتشبث بالثقة في قدرات شعبنا ونخبه على القيام بكل المراجعات الضرورية واجتراح البدائل التي من شأنها أن تنتقل بنا إلى ما نستحقه من ديمقراطية وكرامة وحرية".
وبدوره، رأى الكاتب سعيد الغماز، أن "المتتبع الحاذق لخرجة (تصريحات) الرميد يُدرك أن الرجل قد حدد بدقة متناهية أهدافه، واشتغل عليها لإيصال رسائله السياسية والحزبية، محاولا تغليفها باعتزاله السياسة، وهو ما يضعه في تناقض من الصعب فهمه".
واسترسل الغماز في مقال نشره عبر موقع "إطلالة بريس"، 3 يوليو 2024 أن "الرميد لو قال إن الملكية نعمة، لفهمنا قصده. فالحزب الذي كان ينتمي إليه يؤمن إيمانا قاطعا بأن الملكية هي صمام الأمان".
وتابع: "هو يؤمن أن الملكية هي البوصلة التي كان يشتغل على أساسها عبد الإله بنكيران، حتى إنه وقف ضد تظاهرات 20 فبراير/شباط 2011، ولم يشأ أن ينخرط فيها الحزب رغم أنه كان في المعارضة".
وتابع الغماز: "خرج الرميد في هذه التظاهرات رافعا مطلب الملكية البرلمانية التي كان ومازال يعارضها بنكيران"، منبها إلى أن "التاريخ لا يمكن مسحه بجرة حوار في لقاء صحفي".
وذكر أن "الموقف من الملكية البرلمانية تجعلنا نميز بين الخط السياسي الثابت والمستقيم الذي يسير عليه بنكيران، والخط اللولبي والمتأرجح الذي ينهجه الرميد"، وفق تعبيره.
وبدوره، قال الكاتب الصحفي سعيد مصلوحي، إن "وجود الدولة العميقة نعمة فقط على المستفيدين من الريع، والامتيازات والمناصب العليا، ومقالع الرمال ورخص الصيد في أعالي البحار، والمستفيدين من ثروات الوطن".
ورأى في افتتاحية موقعه "صوت المغرب الحر"، 28 يوليو أن "وجود الدولة العميقة نقمة على نزهاء الوطن وعلى الشعب وعلى الحقوق والحريات ونقمة على دولة المؤسسات".
ورأى مصلوحي أن "تصريح الرميد ولو أنه جاء متأخرا، لكنه يعكس الواقع المر في المغرب، حيث يتخبط الشعب المغربي الصبور بين دولة المؤسسات التي دمرها الفساد، وبين الدولة العميقة التي هي أصل البلاء".