تصريح خطير مناقض لإسلامية الدولة.. كيف أثار وزير الأوقاف حفيظة المغاربة؟
"وزير الأوقاف أحمد التوفيق ينسف الدولة من أصولها"
أثار وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، أحمد التوفيق، جدلا كبيرا في البلاد، بقوله إن "المغاربة علمانيون"، وهو ما جر عليه انتقادا واسعا ودعوات لإقالته.
كلام الوزير جاء ذلك خلال جلسة الأسئلة الشفهية بالبرلمان، متحدثا عن تفاصيل لقاء جمعه مع وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى المغرب نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2024.
وأشار التوفيق في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، إلى أن “النقاش بينهما تطرق إلى عدة مواضيع بينها ما يتعلق بالوضع الديني”.
وكشف الوزير أنه خلال اللقاء، الذي لم يُعلن عنه في وسائل الإعلام، أن الوزير الفرنسي أشار إلى أن العلمانية قد تكون صادمة للمغاربة، لكنه رد قائلا: "لا، لأننا علمانيون".
وأوضح: "صحيح المغرب لا يتبنى نصوص عام 1905، لكنه يترك الحرية للأفراد في إطار آية (لا إكراه في الدين)، وهو ما أثار دهشة الوزير الفرنسي"، حسب تعبيره.
ولفت التوفيق إلى أنه "تلقى لاحقا رسالة من وزير الداخلية الفرنسي لمواصلة النقاش حول الموضوع"، معربا عن "دعم المغرب للاعتدال والحرية رغم تعقد الظروف في أوروبا".
تصريح شارد
وأكد الباحث الأكاديمي المتخصص في الشريعة والمقاصد، محمد عوام، أن تصريح الوزير ومضمون كلامه بمجلس النواب "خطير جدا"، واصفا إياه بـ"التصريح الشارد الدال على خفة الوزير".
وبيّن عوام لـ"الاستقلال" أن "وزير الأوقاف يرسل الكلام إرسالا، من غير أن يدرك عواقبه، ولا نقضه لأسس الدولة المغربية وثوابتها، التي ما فتئ الوزير نفسه يدندن حولها، ويتهم غيره بالخروج عنها".
وزاد: "علما أن وزارته أنفقت أموالا وجهودا وأوقاتا، لترسيخ هذه الثوابت، فيأتي الوزير بخفته فينسفها نسفا، انتصارا للعلمانية، وإرضاء لفرنسا الاستعمارية".
وشدد عوام على أن "تصريح الوزير مناقض لإسلامية الدولة التي ينص عليها الدستور الذي توافق عليه المغاربة"، مؤكدا أن "إسلامية الدولة أمر محسوم تاريخيا وواقعيا ودستوريا".
وقال إن "المغاربة مسلمون وراضون بإسلامهم ومتشبثون به، رغم تقصيرنا جميعا، وأيضا دستوريا، لأن الدستور يقر بإسلامية الدولة"، منبها إلى أن "سلاطين المغرب ساروا على هذا النهج منذ تأسيس الدولة الإدريسية إلى يوم الناس هذا مع الدولة العلوية".
وأضاف عوام أنه “في تصريح الوزير تنكُر للبيعة، لأنه حينما تقول بعلمانية الدولة، والمغاربة علمانيون، فعندها يواجهك سؤال مهم جدا، ما موقع البيعة في العلمانية؟ لأن العلمانية فصل الدين عن الدولة، والملك إنما بايعه المغاربة والعلماء على إقامة شؤونهم الدينية والدنيوية، فلذلك لا يمكن الجمع بين النقيضين، وأعني بذلك القول بالعلمانية والبيعة، التي هي عقد شرعي.”.
واسترسل: “وهذا يعني أن الوزير شعر بذلك أم لم يشعر نسف البيعة، وضربها -كما يقال- من الخلف، وتنكر لها، فهل هو مسار جديد للدولة المغربية يوطئ له الوزير بهذه الخرجة غير المحسوبة، والتصريح المنحرف عن سبيل الثوابت، والالتفاف عليها؟”
والأمر الثالث في التصريح، بحسب عوام، أن فيه "هدما للثوابت المغربية، وعلى رأسها مذهب الأشعري، ومذهب مالك، وطريقة الجنيد، وكل هذه المذاهب السنية سواء في العقيدة، أو الفقه، أو التصوف مناقضة للعلمانية، ولا يمكن أن تجتمع بها".
وتابع: "إذا أردنا أن ندقق ونحقق فأصول هذه المذاهب تعد العلمانية خارجة عن الإسلام، فلا تقرها، ولا تعترف بها، وإذا الوزير رام المشاكسة والمناكفة فليسأل موقف المجلس العلمي الأعلى (رسمي) عن العلمانية إن كان صادقا ويريد أن يعرف الحقيقة، وإلا فسيكون متهما في تصريحه بإرضاء الفرنسيين".
وبخصوص كلامه عن "الإسلام المعتدل"، قال عوام إن “الوزير صرح بهذا في غير ما مرة، وبشرنا بالإسلام المعتدل، ولا ندري ما هذا الإسلام المعتدل عنده؟ هل هو إسلام بلا شريعة؟ أم إسلام بلا عقيدة يعتقد المسلم ما يشاء ويفعل ما يريد؟ أم إسلام تباح في أرضه وبين أبنائه الخمور والفجور؟ أم إسلام يوالي أعداء الأمة ويرحب بهم ويعينهم؟”
وأضاف الباحث الأكاديمي مخاطبا التوفيق: "إنك أيها الوزير لم تأخذ حظا من اسمك من التوفيق والسداد والرشاد في تصريحك، وإن العاقل هو من يدري خطورة الكلام وعواقبه، لا سيما مثلك في هذا السن المتقدم".
من جانبه، يرى رئيس حركة التوحيد والإصلاح، أوس الرمال، في تعليقه على تصريح التوفيق، أن "الوزير ربما كان يقصد من حديثه الإشارة إلى مبدأ حرية الأديان والمعتقد التي يكفلها الدين الإسلامي".
وأشار الرمال في تصريح صحفي إلى أن "الوزير أوضح ذلك عبر الاستشهاد بالآية الكريمة (لا إكراه في الدين)، وإحالته على نصوص ديسمبر/ كانون الأول 1905 المؤطرة للعلمانية في فرنسا والتي أكد أن المغرب لا يتبناها".
وتابع: "أما إن كان يقصد أن الدولة المغربية علمانية، فإن الوزير ينسف الدولة من أصولها، كما ينسف مبرر وجود وزارة تُسمى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وينسف حتى إمارة المؤمنين التي من المفترض أن يدافع عنها".
وأشار الرمال إلى أن "المغرب، وفقا للدستور، دولة إسلامية تقوم على مبدأ إمارة المؤمنين، لأن الفصل الأول من الدستور يقر بأن المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، والفصل الثالث منه يقول إن الإسلام دين الدولة والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية".
تفاعلات مجتمعية
عدد كبير من الفاعلين عبر منصات التواصل الاجتماعي انخرطوا في النقاش الذي أحدثه وزير الأوقاف بعد تصريحه، والذين أكدوا أن هذا التصريح مجانب للصواب وذو حمولات خطيرة.
وفي هذا الصدد، شارك أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة تطوان، عبد المنعم التمسماني، تصريحا أدلى به الملك محمد السادس لصحيفة "إيل باييس" الإسبانية في 26 مارس/آذار 2013 قال فيه: "المغرب ليس بلدا علمانيا، إنه ملكية، الإسلام فيها هو دين الدولة...".
بدوره، قال كاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، خالد الصمدي، إن "من حق كل شخص أن يحدد خياراته الشخصية في الانتماء الديني والوطني شريطة ألا يتحدث باسمنا، ويعبث بعوامل تماسكنا بهذا التصنيف أو ذاك ظلما وتجنيا، بما يناقض ثوابتنا الدستورية الموحدة الجامعة".
وأضاف الصمدي في تدوينة على فيسبوك في 26 نوفمبر، "فلا نحن إسرائيليون كما يردد البعض ولا علمانيون ولا ظلاميون، ولا انفصاليون ولا لعرق أو لغة متعصبون، نحن مغاربة وكفى".
واسترسل: "هويتنا الحضارية وثوابتنا اللغوية والدينية والوطنية منصوص عليها بدقة وتوازن في دستور المملكة؛ مؤمنون بقضايا الأمة العادلة ومدافعون عنها في مرتبة ايماننا بقضايا الوطن.. متجذرون في تاريخنا المشترك، متفاعلون مع حاضرنا ومنفتحون على المستقبل في ظل هذه الثوابت".
وشدد الصمدي على أنه "لا يحق لأحد أن يصنفنا خارج هذا الإطار ولا أن يتحدث باسمنا، فإن تجرأ على ذلك فسيسمع من كل مغربي أصيل في كل حارة وزقاق العبارة الشهيرة (تكلم عن نفسك)".
أما رئيس المركز المغربي للأبحاث والدراسات المعاصرة، امحمد الهلالي، فقال إن تصريح وزير الأوقاف "خطير، ويكشف بعض أوجه المنظور الخاص والمؤدلج الذي يحكم خلفية الوزير المعمر والفاشل".
وأضاف الهلالي عبر صفحته على "فيسبوك" في 26 نوفمبر، "كما يفضح هذا التصريح الخلفيات التي كانت تحكم كثيرا من اختياراته المتعصبة وقراراته المشتطة، ضد من يختلف معه في الرأي أو في الفرعيات الفقهية".
وذكر أن "الوزير بعد أن أحكم قبضته على الشأن الديني والتوسع في أدلجته وجعله أكثر تعصبا وانغلاقا ضد تيار من تيارات الفكر والثقافة، وضد نمط من أنماط التدين المشكلة للفسيفساء الديني والثقافي والحضاري التي تغني روافد الهوية الدينية المغربية، انطلق في مسلسل الجهر بالخلفية العلمانية واستحقاقاتها في بعض القضايا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية".
بدوره، قال الأستاذ الجامعي رشيد بنكيران: "شخص علماني يعلن علمانيته صراحة أمام البرلمان، ويتولى مع ذلك منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية! أي اختراق هذا لثوابت الأمة؟! وأي مكر يُراد به المساس بهوية المغاربة وقيمهم الدينية؟!".
وشدد بنكيران في تدوينة عبر حسابه على فيسبوك في 26 نوفمبر، على أنه "لا يستقيم أن يبقى هذا العلماني مكلفا برسم سياسة التدين التي تحفظ للمغاربة دينهم وهويتهم".
واسترسل: "كما أنه من غير المعقول في شيء أن يُسمح لهذا العلماني بالتحكم في الخطاب الديني وتحديد ما يسمح به وما يمنع".
ودعا بنكيران علماء المغرب إلى "عدم السكوت على مطالبة هذا المسؤول بتحييد المساجد وخطابها الديني عن الشأن العام، وهي ركيزة أصيلة في حياة الأمة".
وتابع مخاطبا العلماء: "هل تجدون في الثوابت الرسمية: العقيدة الأشعرية، وفقه الإمام مالك، وطريقة الإمام الجنيد، ما يُبرر قبول شخص علماني على رأس وزارة تُعنى بحمايتها وترسيخها؟".
ورأى أن "هذا الوضع يدعو إلى وقفة جادة، فالأمر لا يتعلق بشخص أو منصب فقط، بل بمصير ثوابت الأمة ومستقبل هويتها الإسلامية التي ناضلتم من أجلها وحميتموها عبر العصور".
تقييم متباين
في الجانب المدافع عن تصريح وزير الأوقاف، قال المحلل السياسي محمد شقير إن "الوزير أفصح عن محادثات مع وزير الداخلية الفرنسي كان من الممكن أن يتجنب الحديث عنها".
وأضاف شقير لموقع "هسبريس"، في 27 نوفمبر 2024، أن "العلمانية التي قصدها الوزير تختلف عن العلمانية التي تنهجها فرنسا، التي تقوم على الفصل بين السياسة والدين".
وتابع: "ما قصده التوفيق هو الإشارة إلى أن المغرب ينتهج إسلاما وسطيا ومعتدلا يقوم على السماح بحرية الأفراد في ممارسة شعائرهم الدينية بالنسبة للمسلمين بدون تعصب أو إكراه".
وخلص شقير إلى أن "ما أثير من جدل حول ما دار في البرلمان يبقى من باب المزايدة والإثارة الإعلامية، في وقت كان المفروض أن ينصب النقاش حول سياسة المملكة في التأطير الديني لجالياتها، خاصة بأوروبا، وبالأخص بالنسبة للجيل الثالث والرابع لهذه الجالية".
غير أن الكاتب الصحفي يونس مسكين، يرى أن تحول تصريحات وزير الأوقاف إلى "موضوع للجدل السريع يعكس دينامية خاصة للمجال العام في المغرب، وحاجة كبيرة للنقاش وتداول الأفكار".
وقال مسكين في افتتاحية موقع "صوت المغرب" في 27 نوفمبر 2024، إن "المغاربة حساسون تجاه قضايا الدين لأنهم يرون فيه ركيزة من ركائز استقرارهم الاجتماعي والثقافي".
وشدد على أن "التصريحات الرسمية حول هذه القضايا يجب أن تكون واضحة ومدروسة، لأنها لا تخاطب فقط الجمهور المحلي، بل أيضا المتابعين الخارجيين الذين قد يفسرونها بطرق لا تتناسب مع الواقع المغربي".
وأكد مسكين أن "الدين كان دائما جزءا لا يتجزأ من المشروعية السياسية، بدءا من الدولة الإدريسية التي كان أساسها دينيا (بيعة)، ومرورا من الدولة المرابطية التي جمعت بين الدعوة الدينية والجهاد، وصولا إلى النظام الملكي الحالي الذي يقوم على إمارة المؤمنين".
ورأى أن "الملاحظ من هذا المنظور التاريخي أن الدين في المغرب لم يكن أداة للهيمنة المطلقة للدولة، بل كان هناك دائما توازن بين السلطة المركزية والطرق الصوفية والعلماء، الذين لعبوا أدوارا اجتماعية وسياسية مهمة".
وختم مسكين مقاله بالقول إن "هذا التفاعل السريع والمكثف مع تصريح الوزير يعكس طبيعة الرهانات الكبرى المرتبطة بموقع الدين ودوره في النظام السياسي والاجتماعي المغربي، في الوقت الذي يسارع البعض إلى التقليل من أهميته ومحاولة تجاوزه كما لو كان مسألة تدبيرية عادية".