صفقات مليارية.. هل تصبح سوريا بوابة الاقتصاد التركي إلى المنطقة العربية؟

"يمثل تلاقي الاستراتيجيات الاقتصادية التركية والخليجية في سوريا فرصة لواشنطن"
في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب في سوريا، رسخت أنقرة ودمشق مستوى غير مسبوق من التعاون السياسي والاقتصادي، ما ساعد على انتعاش التجارة؛ إذ بلغت الصادرات التركية إلى سوريا ذروتها بحوالي 1.7 مليار دولار، وفق قاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية (COMTRADE).
غير أن الحرب السورية التي اندلعت عام 2011 أطاح بتلك المكاسب في البداية، لكن تركيا أعادت تدريجيا بناء حضورها التجاري؛ حيث وصلت صادراتها إلى ملياري دولار في عام 2023. بحسب مرصد التعقيد الاقتصادي (OEC).
الآن، بعد سقوط نظام بشار الأسد، تساءل "المجلس الأطلسي" الأميركي: هل تلوح في الأفق حقبة جديدة من التعاون الاقتصادي بين تركيا وسوريا؟
وأفاد المجلس، في تقرير له، بأن "أنقرة ترى الآن فرصة سانحة لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا إلى ما يتجاوز مستويات ما قبل الحرب".
"فبالنسبة لتركيا، لا يقتصر الأمر على التجارة فحسب، بل يتعلق أيضا بتسخير التكامل الاقتصادي لدفع عجلة إعادة الإعمار، وتعزيز التعاون الإقليمي، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين، مع ضمان أن تكون سوريا جسرا للعالم العربي، لا عبئا عليه".
من جهة أخرى، أكد الرئيس السوري أحمد الشرع، خلال اجتماع في دمشق، حضره الباحث عمر أوزكيزيلجيك الذي شارك في كتابة هذا التقرير، على الأهمية الإستراتيجية لطريق التجارة والإمداد التركي-السوري-الأردني.
هذا الطريق الذي اتُّفق عليه في القمة الثلاثية التي عُقدت في عمّان أخيرا، يمكن أن يُنعش حركة التجارة بين الجنوب والشمال التي تعطلت لفترة طويلة بسبب الحرب في سوريا والحرب ضد تنظيم داعش في العراق.
ومع مرور البضائع والسلع التي تجمعها دول الخليج عبر موانئها من خلال هذا المسار، تمتلك سوريا فرصة لاستعادة دورها كمركز تجاري حيوي من جديد عبر تولي وظيفة الممر العابر، وفق التقرير.

المنطق الاقتصادي التركي
في عام 2010، تمتعت تركيا بعلاقات سياسية واقتصادية متينة مع سوريا. وقد سمح اتفاق تاريخي للسفر بدون تأشيرة لمواطني البلدين بعبور الحدود باستخدام بطاقات الهوية الوطنية فقط. إلا أن اندلاع الحرب تسبب في انهيار الصادرات.
ومع مرور الوقت، وكما توضح مقاييس التجارة لمنظمة التعاون الاقتصادي، تمكنت أنقرة من إحياء النشاط التجاري، والذي كان يتدفّق بشكل أساسي إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة تحت الحماية التركية.
وأوضح المجلس أن "الآن، تبدو آفاق أنقرة للاستثمار وعقد اتفاقيات اقتصادية جديدة جذابة في سوريا، خصوصا في مجال إعادة الإعمار".
"فشركات البناء التركية في موقع يؤهلها لتحقيق أرباح كبيرة، وهي تنافس على المستوى العالمي الشركات الصينية فقط".
"ومع ذلك، تفتقر دمشق إلى رأس المال اللازم لتمويل المشاريع الكبرى بينما تعيد تشكيل حكومة جديدة وتتعافى من سنوات الصراع، كما أن قدرة تركيا نفسها على تقديم القروض أو التمويل محدودة بفعل أزماتها الاقتصادية الداخلية".
وإدراكا لهذا الواقع، تسعى أنقرة إلى تعزيز التعاون مع شركائها العرب والأوروبيين -وفق التقرير- فعلى سبيل المثال، تعهدت تركيا إلى جانب شركائها العرب الإقليميين بتقديم ما مجموعه 14 مليار دولار لتطوير البنية التحتية في سوريا.
وستوفر الدول العربية والأوروبية التمويل، فيما تقدم تركيا الخبرة والقدرة التشغيلية، في ترتيب يهدف إلى تحقيق مكاسب لجميع الأطراف.
وأشار التقرير إلى أن هذا المنطق الاقتصادي يتماشى أيضا مع الرؤية الجيوسياسية الأوسع لأنقرة تجاه سوريا؛ فبدلا من خلق وكيل تابع لها، تهدف تركيا إلى أن تكون دمشق طرفا فاعلا مستقلا وجسرا إلى العالم العربي.
وقد صاغ وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الموقف بهذه الكلمات: "سوريا دولة مستقلة، ونحن اليوم أمام سوريا جديدة. من الضروري أن نُتيح لسوريا هذه أن تصمم سياستها الدفاعية الخاصة، وسياستها الخارجية الخاصة، وعلاقاتها الإقليمية الخاصة".
ولا يتمثل هدف أنقرة في تحمل أعباء سوريا بمفردها، بل في تحويلها من منطقة صراع إلى منطقة تعاون.
وأخيرا، تنظر تركيا إلى الاستثمار الاقتصادي كأداة فعّالة لتحقيق الاستقرار في المرحلة الانتقالية في سوريا وتسريع عودة اللاجئين.
فمنذ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، عاد ما يقرب من نصف مليون سوري إلى ديارهم من تركيا، مما يُظهر الصلة المباشرة التي تراها أنقرة بين إعادة الإعمار والاستقرار الاقتصادي، وبين العودة الدائمة.

بصمة اقتصادية تركية
وفي أعقاب قرارات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي برفع العقوبات عن سوريا في مايو/أيار 2025، وسّعت تركيا نفوذها الاقتصادي بسرعة في سوريا ما بعد الأسد.
ويتجلى هذا التوسع في الطفرة في التجارة الثنائية، ومشاريع إعادة الإعمار الإستراتيجية، والمشاريع المشتركة واسعة النطاق مع الشركاء القطريين والأميركيين؛ إذ بلغ حجم التجارة الثنائية بين سوريا وتركيا 1.9 مليار دولار أميركي في الأشهر السبعة الأولى من عام 2025، مقارنةً بـ 2.6 مليار دولار لعام 2024 بأكمله.
وارتفعت الصادرات التركية بنسبة 54 بالمئة على أساس سنوي لتصل إلى 2.2 مليار دولار، بينما بلغت الواردات السورية 437 مليون دولار.
وشملت الصادرات الرئيسة الآلات والإسمنت والسلع الاستهلاكية؛ حيث ارتفعت صادرات الآلات وحدها بنسبة 244 بالمئة. وتُهيمن الآن السلع التركية، التي غالبا ما تكون أسعارها أقل بنسبة 30-40 بالمئة من المنتجات المحلية، على الأسواق السورية.
والتزمت تركيا وشركاؤها العرب بتخصيص مبلغ إجمالي قدره 14 مليار دولار لتطوير البنية التحتية في سوريا، مع التركيز على قطاعي الطاقة والنقل.
وفي أغسطس/آب 2025، بدأ خط أنابيب الغاز الطبيعي كيليس-حلب عملياته، ناقلا الغاز الأذربيجاني إلى سوريا، إضافةً إلى ذلك، التزمت تركيا بتزويد 900 ميغاواط من الكهرباء بحلول عام 2026.
وفي غضون ذلك، التزمت مجموعة بقيادة قطر، تضم شركات تركية، بـ 4 مليارات دولار لإعادة بناء مطار دمشق الدولي.
وأنشأت تركيا وسوريا اللجنة الاقتصادية والتجارية التركية-السورية المشتركة (JETCO) في أغسطس/آب 2025، إلى جانب عدة مذكرات تفاهم تغطي الاستثمار والحوكمة والتعاون الإداري.
وتجرى حاليا محادثات بين تركيا وسوريا بشأن اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة (CEPA)، مما يشير إلى تكامل تجاري واستثماري طويل الأمد.
وتسعى شركات تركية مثل كاليون (Kalyon) وجنكيز (Cengiz) وتاف (TAV) بقوة إلى سوق إعادة الإعمار السوري الذي تبلغ قيمته 400 مليار دولار. ويخطط بنك دينيز (DenizBank) لتوسيع عملياته، بينما تتطلع صن إكسبريس (Sun Express) إلى فرص في قطاع الطيران.
وصرّح إبراهيم فؤاد أوزجوريكجي، رئيس مجلس الأعمال التركي-السوري، وهيئة العلاقات الاقتصادية الخارجية (DEIK)، أن تركيا تهدف إلى زيادة حجم تجارتها متوسطة الأجل مع سوريا إلى 10 مليارات دولار.
ومن هذا المنظور، يرى القطاع الخاص التركي سوريا سوقا غير مستغلة وسهلة الوصول. ويمنح القرب الجغرافي، ومزايا التكلفة، والعلاقات التاريخية تركيا ميزة إستراتيجية. بحسب التقرير.

شراكات مع قطر وأميركا
وقال المجلس: "لقد لعب التحالف بين تركيا وقطر دورا محوريا في عملية إعادة الإعمار في سوريا. وقد دخل اتفاق التجارة الحرة بين البلدين حيز التنفيذ مطلع أغسطس/آب 2025، في خطوة تعكس تقدما في تعاونهما بمشاريع مشتركة داخل سوريا".
وقد تعهد الكونسورتيوم [الائتلاف] التركي-القطري، إلى جانب شركائه العرب الإقليميين، بتقديم 14 مليار دولار للتنمية الحضرية وتمويل 200 ألف فرصة عمل، فيما تشمل المشاريع المشتركة مجالات توليد الطاقة والعقارات والبنية التحتية.
فعلى سبيل المثال، وقّع كونسورتيوم تقوده قطر ويضم شركات تركية صفقة بقيمة 4 مليارات دولار في أغسطس/آب 2025 لإعادة بناء مطار دمشق الدولي.
بالتوازي مع دخول الاتفاق حيز التنفيذ، بدأت شركات قطرية إقليمية أصغر بإنشاء قواعد لوجستية في جنوب تركيا، مع زيادة أنشطتها التجارية، خصوصا في حلب وريفها.
قضية أخرى ينبغي التطرق إليها -وفق المجلس- هي التعاون التركي-الأميركي في سوريا، وهو أمر يجرى تسهيله عبر الشركاء العرب الإقليميين. ويركز التعاون بين أنقرة وواشنطن على مجالي الطاقة والأمن.
وحتى الآن، لم تُشر أي مصادر، سواء خاصة أو رسمية، إلى وجود تعاون اقتصادي مباشر بين الولايات المتحدة وتركيا في سوريا، باستثناء الآليات الأمنية.
وقدمت الولايات المتحدة خبرات تقنية ودعما سياسيا، فيما شددت مجموعة العمل التركية- الأميركية الخاصة بسوريا على أهمية الاستقرار الاقتصادي والأمني.
ووُقعت صفقة بارزة لتوليد الطاقة بقيمة 7 مليارات دولار في مايو/أيار 2025 مع شركة (UCC) القطرية، وشركة باور إنترناشيونال (Power International) الأميركية، وشركتي "كاليون" و"جنكيز" التركيتين.
وتشمل الصفقة أربع محطات غازية ذات دورة مشتركة بقدرة إجمالية تبلغ 4 آلاف ميغاواط، ومشروع طاقة شمسية بقدرة ألف ميغاواط، من المتوقع أن يلبي أكثر من نصف احتياجات سوريا من الكهرباء.
وكما شدّد "فيدان" في منتدى أنطاليا الدبلوماسي الرابع في أبريل/نيسان 2025، فإن تركيا تسعى إلى "تحقيق السلام والاستقرار على أساس تفاهم يحقق المكاسب المشتركة والسيادة الإقليمية".
وبحسب المجلس الأطلسي، فإن هذه الرؤية تتوافق مع نهج واشنطن الأوسع المتمثل في تشجيع الشركاء على تحمل مسؤولية أكبر، وهي سياسةٌ رسّختها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحظيت بتأييد العديد من العواصم الخليجية.
وبينما لم تُطلق السعودية والإمارات بعدُ مشاريع اقتصادية مشتركة مع تركيا في سوريا، فإنهما تُوسّعان استثماراتهما هناك سعيا لتحقيق أهدافٍ تُحاكي أهداف أنقرة.
وختم المجلس بالقول: "يمثل تلاقي الإستراتيجيات الاقتصادية التركية والخليجية في سوريا فرصة لواشنطن؛ إذ يوحّد الفاعلين الإقليميين حول أهداف مشتركة ويخفف العبء عن الولايات المتحدة، مما يجعل من الضروري لإدارة دونالد ترامب دعم وتشجيع استمرار الانخراط الإقليمي في سوريا".