صدام بين مؤسسات الحكم وتدخل أميركي قوي .. ماذا يحدث في ليبيا؟

"جميع المؤسسات الليبية بدون استثناء قد تجاوزت ولاياتها الأصلية"
تتسارع الأحداث السياسية الداخلية في ليبيا، بالتزامن مع تحركات دولية في الملف الليبي، أبرزها نشاط أميركي مكثف، يستهدف توحيد طرفي الصراع في الشرق والغرب.
فقد أصدر "المجلس الرئاسي"، الذي يمثل دور رئيس البلاد، حزمة من القوانين، أبرزها مراجعة قرارات مجلس النواب في طبرق التي صدرت منذ 2021، ملمحا لإلغاء بعضها، مع تشكيكه في صلاحياته، والتهديد بحله، ما لم يلتزم.
المراسيم التي أصدرها رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي بشكل مفاجئ، تسببت في اندلاع خلافات حول اختصاص المؤسسات.
ووصفها "النواب" وحكومة شرق ليبيا الموالية للانقلابي خليفة حفتر، غير المعترف بها دوليا، بأنها "باطلة ومنعدمة"، ما يطرح تساؤلات حول تداعياتها واحتمالات حل مجلسي النواب والدولة مستقبلا.
وتشير التوقعات، إلى قرب احتمالات إصدار مزيد من المراسيم بحل مجلسي "النواب" و"الدولة"، وكذا تسريع خطى توحيد السلطة التنفيذية وإجراء انتخابات تنهي التشرذم، وتفرض واقعا جديدا.
وجاءت هذه التطورات بعدما دعت المبعوثة الأممية في ليبيا هانا تيتيه لإجراء انتخابات، وحذرت، في 21 أبريل/نيسان 2025، من أن "المؤسسات القائمة تهددها إشكالية الشرعية".
وقالت: إن جميع المؤسسات الليبية بدون استثناء قد تجاوزت ولاياتها الأصلية المتعلقة بشرعيتها.

ما قصة المراسيم؟
نهاية أبريل 2025، أصدر المجلس الرئاسي (أعلى سلطة ليبية) 3 مراسيم رئاسية، تستند إلى "الإعلان الدستوري"، الصادر في 3 أغسطس/آب 2011، والذي يمنحه حق التشريع وإصدار القوانين.
هذه المراسيم جاءت ضمن الحزمة الأولى لخطة الإنقاذ الوطني من أصل 12 مرسوما رئاسيا ستُطلق في وقت لاحق.
المرسوم الأول، نص على وقف العمل بقانون المحكمة الدستورية الذي أصدره مجلس النواب في شرق ليبيا (رقم 5 لسنة 2023م)، والمنافسة لمحكمة مشابهة في طرابلس.
وسبق أن أقر مجلس النواب في ديسمبر/كانون الأول 2022 قانونا لإنشاء محكمة دستورية عليا في مدينة بنغازي (شرق)، بدلا من (ومنافسة) للدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس (غرب)، وهو ما رفضه المجلس الرئاسي.
وفي يونيو/حزيران 2023 صعد مجلس النواب من خطواته، وصوت بالإجماع على اختيار رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية.
ثم أعلنت بلدية بنغازي، 19 سبتمبر/أيلول 2024، افتتاح مقر المحكمة الدستورية العليا، فعليا، بحضور عدد من أعضاء مجلس النواب وأعضاء المحكمة، ورؤساء المحاكم والنيابات والهيئات القضائية.
وحدَّد "المرسوم الثاني" آليات وشروط انتخاب "المؤتمر العام للمصالحة الوطنية".
بحيث يكون في كل بلدية عضو للمصالحة الوطنية، وهو مؤتمر يتكون من أعضاء يُنتخبون من البلديات كافة في ليبيا.
ونص "المرسوم الثالث"، على "تشكيل المفوضية الوطنية للاستفتاء" والانتخابات برئاسة عثمان القاجيجي، وعضوية 11 عضوا آخرين.
وقد أيد المراسيم، رئيس وزراء حكومة الوحدة في طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، ووصف مراسيم الرئاسي بأنها "خطوة نحو استعادة قوة ليبيا ووحدتها".
لكن اعترض عليها رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ونائب المجلس الرئاسي عبدالله اللافي.
صالح زعم أن المجلس الرئاسي "فشل في أداء مهامه، وأن الدستور لم يعطه حق إصدار المراسيم بقوانين".
وقال: "إن المرسوم الرئاسي القاضي بإلغاء قانون إنشاء المحكمة الدستورية يعد تغولا على عمل السلطة التشريعية ومنعدما"، ودعا إلى أولوية تشكيل حكومة جديدة موحدة.
أما اللافي، فاعترض على المراسيم الرئاسية، معللا ذلك بأنها تتطلب قرارا جماعيا للمجلس، ولا يمكن الانفراد به.
وأوضح في تدوينة على فيسبوك، أن المراسيم لا تمثل المجلس الرئاسي مجتمعا، ولا يترتب عليها أثر دستوري أو قانوني، وهي والعدم سواء، وفق وصفه.
صراع "الرئاسي" و"النواب"
ولأن رد فعل مجلس النواب الموالي لحفتر كان متوقعا، وهو رفض قرارات ومراسيم المجلس الرئاسي، فقد اتخذ الأخير خطوة استباقية قبيل انعقاد الجلسة في بنغازي.
أصدر خطابا في 5 مايو/أيار 2025، يحوي حزمة من المطالبات ملخصها: قوانين عقيلة صالح منذ مارس 2021 تحتاج إلى مراجعة وبعضها سيلغى، ومن ثم على البرلمان التنسيق مع الرئاسي في إصدار القوانين.
وإن لم يستجب البرلمان سيتخذ الرئاسي قرارا ضده سواء بتجميد عمله، أو حله.
ودعا رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في خطابه، مجلس النواب إلى إحالة القوانين كافة التي أقرها منذ 15 مارس/آذار 2021 إليه، لإعادة إصدارها في حالة مواءمتها للاتفاق السياسي، أو إلغائها.
ووصف "المنفي" القوانين المذيلة بأمر صادر من رئيس البرلمان، بأنها مخالفة لأعراف ونصوص الإعلان الدستوري؛ لأن التشريع لا بد أن يصدر بأمر من السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الدولة، أي هو.
قال: "إن عقيلة صالح أصدر قوانين مباشرة دون المرور بسلطة الإصدار الدستورية، الأمر الذي يُعدّ مخالفة صريحة لمبدأ الشرعية الدستورية ومساسا بإجراءات جوهرية لازمة لاكتمال التشريع".
وبدلا من استجابة البرلمان لمطالبات المجلس الرئاسي، قالت اللجنة القانونية بمجلس النواب: "إن مراسيم محمد المنفي باطلة ومنعدمة الأثر قانونيا ودستوريا"، بحسب موقع "ليبيا أوبزرفر" 7 مايو.
وزعمت أن "الغرض من هذه المراسيم خلط الأوراق وتعزيز الانقسام المؤسساتي"، وأن المجلس الرئاسي لا يملك مجتمعا أو رئيسه منفردا، أي صلاحية لإصدار مراسيم أو وقف تنفيذ القوانين.
بل أكد البرلمان "استمرار موقف مجلس النواب القاضي بانتهاء ولاية المجلس الرئاسي وحكومته (برئاسة عبد الحميد الدبيبة) وعدم أهليتهما للاستمرار في ممارسة مهامهما".
واتهمت اللجنة البرلمانية المجلس الرئاسي بالانحراف عن مسارها التوافقي، وتحولها إلى طرف نزاع سياسي، مما يعمق الانقسام، ويقوض المسار السياسي الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة للدعم لدى ليبيا.
أيضا رفض عضوا المجلس الرئاسي موسى الكوني وعبد الله اللافي، في بيان، المراسيم التي أصدرها محمد المنفي؛ لأن القرارات تتم بالإجماع وهو ما لم يحدث، ومن ثم "لا شرعية لأي قرارات أحادية لأغراض سياسية".
ويهدد هذا الصراع المتجدد حول المراسيم الرئاسية، بتكرار سيناريوهات الانسداد والشلل المؤسسي، ويقوض مساعي توحيد السلطة التنفيذية تمهيدا لإجراء انتخابات.
ففي حين هدأت خطوات العسكريين التصعيدية بدأت الأجسام السياسية صراعا قد يصيب المشهد بمزيد من الضبابية.
وهو ما يعني بقاء الشعب رهينة أجسام تجاوزت كلها مدتها القانونية ومددت لأنفسها حتى تحولت سيرة الانتخابات هناك إلى سيرة مزعجة.

توقعات المستقبل
ويرى محللون وخبراء أن التغييرات المتسارعة في ليبيا، سياسيا وعسكريا ونفطيا ودوليا تؤكد أن هناك مشهدا جديدا يجرى رسمه، ظاهره الاستقرار والذهاب نحو الانتخابات، وباطنه تقاسم المصالح محليا ودوليا.
وهو ما قد يجعل هناك توافقا بين القوى الإقليمية (مصر وتركيا) والدولية (أميركا وروسيا والأمم المتحدة)، طالما أن المشهد الجديد (الموحد للتيارات الليبية)، والذي يجرى رسمه، سيخدم مصالح الجميع.
ويتوقع ليبيون أن يجمد المجلس الرئاسي عمل أو يحل مجلس النواب، لأنه لم يستجب لقراراته.
ويشير الخبير المختص بالشأن الليبي، علاء فاروق، إلى مخاوف جدية من تدهور الأوضاع في ليبيا، منوها إلى أن البلاد تشهد سيناريو فريدا من الفوضى يتجاوز حتى نموذج العراق.
لكن فاروق أبدى لـ"الاستقلال" تفاؤلا حذرا بإمكانية تجنب الأسوأ ومنع دخول ليبيا في مرحلة شرسة من العنف.
وذلك بشرطين: الأول، تسريع خطوات توحيد المؤسسة العسكرية وإجراء انتخابات وطنية، وتطهير المؤسسات الأمنية من عناصر المليشيات.
والثاني: إجراء انتخابات عامة تُنهي المرحلة الانتقالية وتضع حدا للفوضى السياسية والأمنية في البلاد.
أوضح أن الخروج من هذه الأزمة يتطلب إجراءات عاجلة، أبرزها الإسراع في بناء جيش وطني موحد يخضع لسلطة الدولة، تكون مهمته الأساسية تفكيك المجموعات المسلحة ودمجها في المؤسسة العسكرية الرسمية.
وأثيرت ظاهرة أخرى مثيرة للقلق قالت الصحف الليبية إنها قد تؤثر على استقرار ليبيا، وهي انتشار التصفيات والاغتيالات وانتماء معظم الجناة في هذه العمليات إلى مؤسسات أمنية أو مليشيات مسلحة وجهات عسكرية.
ويُنذر رفض برلمان وحكومة حفتر في الشرق لقرار المجلس الرئاسي، التي تدعمها حكومة طرابلس، بتعميق الخلافات وزيادة الشلل السياسي.
لذا، تسربت أنباء عن أن تقرير اللجنة الاستشارية المنبثقة عن البعثة الأممية الأخير حول الوضع في ليبيا، اقترح 3 مسارات لإجراء انتخابات تنهي الانقسامات.
أبرزها تجاوز الأجسام السياسية الحالية (حكومتي الغرب والشرق والبرلمان ومجلسي الرئاسي والدولة)، وتشكيل جسم جديد بتسوية سياسية رغم أن هذا يعني عودة ليبيا للحظة الثورة الأولى عام 2011.
وضمن هذا التحرك يُتوقع مزيد من التحركات الدولية والإقليمية مع كل الأطراف، خاصة العسكرية لمنع عودة الاقتتال والحروب مرة أخرى، كي لا يتم نسف الاستقرار الحالي.

دور أميركا
بالتزامن مع تصاعد الخلافات الداخلية، زاد الاهتمام الأميركي بالملف الأمني الليبي؛ حيث تسعى واشنطن إلى الدفع نحو مسار أمني موحد ينهي الانقسام العسكري المستمر في ليبيا.
وفي توجه أميركي نحو تعزيز حضورها الإستراتيجي في شمال إفريقيا، رست السفينة الأميركية "يو إس ماونت وينتي"، بقيادة قائد الأسطول السادس للبحرية الأميركية، جي تي أندرسون، في ميناءي طرابلس وبنغازي، لأول مرة منذ 56 عاما.
ووصف أندرسون، زيارة السفينة لطرابلس وبنغازي بأنها تُظهر استعداد الولايات المتحدة للاستثمار في "ليبيا موحدة وسلمية".
ويُعتقد أن الهدف من غوص واشنطن في شؤون ليبيا، هو تحقيق مصالحها في إفريقيا على حساب روسيا.
وكان التحرك الأميركي هذه المرة حريصا على التواصل مع الفريقين المتنازعين في الشرق والغرب.
ووصفت مجلة "ستارز آند سترايبس" في أبريل 2025، الزيارة بأنها "إشارة واضحة لروسيا والصين بشأن السياسة الأميركية الحازمة في منطقة البحر المتوسط".
لكن محللين يرون فائدة أخرى من ذلك، هي أن يُجنب التدخل الأميركي الملف الليبي البلاد الانزلاق إلى مربع آخر من الفوضى.
وقد كشف موقع "فواصل" الليبي، 4 مايو 2025، أن الإدارة الأميركية ترتب لعقد أول لقاء داخل ليبيا خلال الفترة المقبلة بين وكيل وزارة الدفاع بحكومة الوحدة، عبدالسلام زوبي، ورئيس أركان القوات البرية في الشرق صدام حفتر لبحث مشروع توحيد المؤسسة العسكرية.
وأكد أنه توافد على العاصمة الأميركية واشنطن خلال الآونة الأخيرة، عدد من الشخصيات الأمنية والعسكرية الليبية، في زيارات رسمية وغير معلنة أحيانا، ضمن أجندة أميركية لترتيب الملف الأمني والعسكري.
كما استقبلت وزارة الخارجية الأميركية صدام نجل خليفة حفتر؛ حيث جرى التأكيد على دعم وحدة ليبيا وأمنها.
والتزمت واشنطن بمواصلة التواصل مع جميع الأطراف وتوحيد المؤسسة العسكرية واحترام السيادة الليبية.
وتلا زيارة صدام حفرت إلى أميركا توجه وكيل وزارة الدفاع في حكومة الوحدة، عبدالسلام زوبي، إلى واشنطن، ولقاؤه مسؤولين من وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين لبحث التقدم المحرز في جهود توحيد المؤسسات العسكرية الليبية.
ووفقا لمصادر إعلامية، من المقرر أن يزور الولايات المتحدة قريبا رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، ويتبعه صدام حفتر، رئيس الجيش الانقلابي، الذي يسيطر على شرق ليبيا، ما يؤشر لزيادة التدخل الأميركي لتوحيد ليبيا، كونه يفيد مصالحها في المنطقة.