وسط انتقادات متواصلة للحكومة.. ما سر استمرار ظاهرة العبودية في موريتانيا؟
"موريتانيا حلت في المرتبة الثالثة عالميا والأولى عربيا في مؤشر الرق العالمي"
وسط انتقادات متواصلة للحكومة الموريتانية بسبب بطئها في محاربة ظاهرة العبودية، شرع البرلمان في مناقشة مشروع قانون لمحاربة الظاهرة، على أمل وضع حد لهذا الداء القديم الجديد.
وخصصت لجنة العدل والداخلية والدفاع بالبرلمان، الاجتماع الذي عقدته في 6 سبتمبر/أيلول 2024، لمناقشة مشروع قانون يتضمن إنشاء محكمة درجة أولى تدعى المحكمة المتخصصة لمحاربة العبودية والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين.
داء قديم جديد
ووفق الوكالة الموريتانية للأنباء، تابعت اللجنة خلال الاجتماع عرضا قدمه وزير العدل محمد محمود الشيخ عبد الله بن بيه، أبرز فيه مجالات تدخل هذه المحكمة والأدوار المنوطة بها في إطار جهود محاربة العبودية.
والأربعاء 11 سبتمبر، صدق البرلمان الموريتاني على مشروع قانون يتضمن إنشاء محكمة متخصصة لمحاربة العبودية والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين.
ووفق موقع "صحراء ميديا"، قال وزير العدل إن مشروع القانون يرمي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف والمبادئ المتعلقة بحسن سير العدالة وضمان المزيد من النجاعة في معالجة قضايا العبودية والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين.
وذلك بإدخال بعض الإصلاحات على عدد وتشكيلة وسير المحاكم المكلفة بمحاربة العبودية والممارسات الاستعبادية.
وأشار الوزير إلى أن التطبيق الفعلي للقانون رقم 2015-031، المجرّم للعبودية والمعاقب للممارسات الاستعبادية، أظهر نواقص وثغرات تحد من فعاليته مما يستدعي معالجتها والتغلب عليها.
وأوضح أن الإصلاحات المقترحة تهدف إلى إنشاء محكمة متخصصة لتحقيق عدة أهداف، منها انسجام المنظومة القضائية لمواجهة هذه الظواهر، وتعزيز مهنية المعالجة القضائية لجرائم العبودية والاتجار بالأشخاص.
مع تعزيز حماية حقوق الإنسان، وتقريب العدالة الجنائية من المواطن ومن ضحايا هذا النوع من الجرائم، وإلغاء المحلفين من تشكيلة المحكمة، وكذلك إلغاء نظام التداول بالأصوات لما ينتج عنه من عرقلة وتدافع للمسؤوليات.
وأكد الوزير أن الهدف من انتقال المحكمة المختصة لموقع الجرم هو إظهار الجدية والمواكبة وبعث رسائل مطمئنة، لكنه في النهاية مسألة اختيارية للمحكمة، ولها واسع النظر فيه، ويمكن أن تعدل عنه حين ترى أنه قد يخلق ضغوطا عليها.
ويأتي شروع البرلمان في مناقشة المشروع، بعد أن صادق مجلس الوزراء خلال اجتماع عقده في 20 مارس/آذار 2024، على مشروع قانون ينشئ المحكمة المتخصصة لمحاربة العبودية.
إصلاحات منتظرة
وتفاعلا مع المشهد، يقول الكاتب الصحفي المصطفى محمدن لولي، إنه بمقتضى الأمر القانوني 81/234، الصادر في 9 نوفمبر/تشرين ثاني 1981، لم تعد العبودية في موريتانيا بشكل نهائي.
واستدرك لـ"الاستقلال" قائلا: لكن ذلك لم يمنع وجود بعض الحالات وإن على استحياء، إلا أن الدولة والمجتمع حرصا فعلا على محاربة هذه الظاهرة ومخلفاتها.
وأضاف، "وتعزيزا لجهود محاربة هذه الظاهرة المشينة، أجاز البرلمان الموريتاني في العام 2007 القانون رقم 048/2007 المجرم للعبودية، ما جعل ممارسة الرق جريمة يعاقب عليها القانون".
وتابع المتحدث ذاته، "كما تم تعزيز ترسانة القوانين المناهضة للعبودية في العام 2015، حيث صادق البرلمان على القانون رقم 031/2015، والذي سد بعض الثغرات القانونية في قوانين تجريم العبودية وحرص على توفير حماية أكبر لضحايا الظاهرة".
وخلص إلى أن "العبودية في موريتانيا أصبحت من الماضي، وتعمل السلطات على معالجة آثارها من تفاوت اجتماعي وفقر وجهل".
غير أن "مؤشر الرق العالمي"، ذكر في تقريره لعام 2023، أن موريتانيا حلت في المرتبة الثالثة عالميا والأولى عربيا في هذا المؤشر، والذي كشف عن وجود 149 ألف موريتاني يعاني من "عبودية حديثة"، أي ما يمثل 32 شخصا من بين كل ألف مواطن.
وتشمل مظاهر "العبودية الحديثة" بحسب تقرير منظمة "ووك فري" الدولية، "العمل القسري، والزواج القسري أو الاستعبادي، وعبودية الدين، والاستغلال الجنسي التجاري القسري، والاتجار بالبشر والممارسات الشبيهة بالرق، وبيع واستغلال الأطفال".
وفي سنة 2022، قالت منظمة "UN Watch"، وهي مؤسسة غير حكومية تعمل في مجال تقييم أداء منظمة الأمم المتحدة، إن موريتانيا بها 500 ألف حالة استرقاق، مذكرة بنحو 20 حملة ترافع أطلقتها المنظمة لـ"إنهاء العبودية في البلاد".
كما سبق للرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، أن قال إنه "يريد دولة تُمحى فيها آثار العبودية وتعلي من شأن العدالة والمواطنة".
وأكد ولد الغزواني في كلمة له خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات البلاد، يونيو/حزيران 2024، أن "الموريتانيين شعب واحد ولا مكان بينهم للعنصرية والفئوية والتمييز".
تحديات كبيرة
من جانبه، يرى الناشط الحقوقي في مجتمع السوننكي بموريتانيا بوبكر فودى سنغاري، أن "هذه المبادرة تأتي في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه موريتانيا في مجال مكافحة العبودية؛ حيث شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في حالات الاستغلال".
وشدد سنغاري لـ "الاستقلال" أن "هذه الظواهر لا تمثل فقط انتهاكا صارخا للكرامة الإنسانية، بل تهدد أيضا الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي".
ورأى أن حكومة المختار ولد اجاي ذهبت إلى إنشاء محكمة جديدة تسعى إلى تقديم إطار قانوني واضح وفعال لمحاكمة المتورطين في هذه الجرائم، وتوفير الدعم والحماية للضحايا.
وعبر الناشط الحقوقي عن أمله في أن يتم العمل على تعزيز التعاون بين مختلف الجهات الحكومية والمجتمع المدني لضمان تحقيق الأهداف المرجوة من المشروع.
وشدد سنغاري أن "مكافحة العبودية وتهريب المهاجرين تتطلب جهودا مشتركة وتعاونا واسعا على المستويات المحلية والدولية".
ووصف هذه الخطوة بالتاريخية، والتي تهدف إلى تعزيز العدالة وحماية حقوق الإنسان وبداية جديدة نحو مجتمع أكثر عدالة وكرامة للجميع.
بدوره، تأسف محمد محمود ولد عبد الجليل، الأمين العام للمرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، لاستمرار حالات الرق في بلاده.
وأضاف لـ"الاستقلال"، "ولا أدل على استمرار الظاهرة من بعض الأحكام التي أصدرتها المحاكم المعنية بالرق في موريتانيا، ومن آخرها ما صدر عن محاكم نواكشوط منتصف سنة 2023، وقبل ذلك ما صدر عن محكمة نواذيبو ومحكمة النعمة".
واسترسل: "رغم أن موريتانيا أنشأت محاكم خاصة لمعالجة معضلة الرق، وفعلت القرار المتعلق بتجريمه في مطلع 2015، وأنشأت تبعا لذلك محاكم مختصة بموضوع الرق، لكن لم تعالج الظاهرة بعد".
وذكر أن "منظمة نجدة العبيد" تمكنت من اكتشاف العديد من حالات العبودية، وقدمتها لتلك المحاكم، لكن للأسف لم يصل التقاضي إلى مراحله النهائية، بحكم التدخل المجتمعي، وكذا نفوذ القبيلة وسطوتها، وبالتالي الوصول إلى تسويات يكون ضحيتها هو الشخص المستعبد".
وسبق لرئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان أحمد سالم بوحبينى، أن قال خلال الدورة الـ 51 لمجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة بجنيف عام 2022، إن "هناك 32 حالة أمام المحاكم الموريتانية"، واعدا "بمواصلة الجهود للقضاء على هذه الظاهرة في البلد".
وحول دور هذه اللجنة قال ولد بوحبيني، إنها "قامت وما زالت تقوم بجولات في جميع ولايات موريتانيا للبت في حالات العبودية المزعومة وتقديمها للقضاء"، وذلك "بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وبعض المنظمات غير الحكومية".
رواسب الماضي
فيما يرى أستاذ علم الاجتماع سيدي محمد ولد الجيد، أن أسباب استمرار الرواسب الاجتماعية لظاهرة العبودية، وما وصفه بالاشتباه الذي يلاحظ من وقت لآخر "في حالات فردية ومعزولة"، يعود إلى مجموعة من العوامل.
وأضاف في تصريح صحفي محلي، أن من بين تلك العوامل "هيمنة الأنساق القيمية والثقافية التقليدية" على المجتمع، حيث ما يزال البناء القبلي صامدا، ولا تزال مفردات "التراتبية الاجتماعية" مؤثرة وعصية على الاندثار.
كما أشار إلى ضعف مستوى الوعي المدني والاجتماعي "بفعل هشاشة المنظومة التعليمية والتربوية"، وانتشار معدلات الفقر المدقع في صفوف الرقيق السابقين، ما جعلهم يواصلون العيش "إرادة لا إكراها، مع أسيادهم السابقين بفعل الحاجة الماسة".
بدوره، قال محمد محمود ولد عبد الجليل، الأمين العام للمرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، إن من أهم الأسباب "ضعف الوعي والتعليم، وانتشار الجهل بين أفراد هذه الفئة".
وأضاف لـ"الاستقلال"، إضافة إلى "المستوى المادي الذي يرغمها على البقاء في وضعية عبودية"، فضلا عن "ضعف الجهود الرسمية المتخذة لمواجهة الظاهرة، والتي لم تستأصلها أو تعالجها من جذورها".
وأردف، إذ لم توفر الحكومة تعليما ينتشل تلك الفئة من واقع الجهل وضعف التعليم، كما لم تقدم حلولا اقتصادية لصالح المتضررين، والتي تعيش فقرا مدقعا، يحتم عليهم توجيه أبنائهم للعمل بسبب ضعف مستوى المعيشة، مما يحرم هؤلاء الأبناء من التعليم".
من جانبه يقول بوبكر فودى سنغاري، الناشط الحقوقي في مجتمع السوننكي بموريتانيا، إن هناك علاقة وثيقة بين العبودية وتنامي الهجرة.
ويضيف سنغاري لـ"الاستقلال"، أن معالجة ظاهرة العبودية تتطلب أيضا البحث في الأسباب التي تدفع أبناء هذه الفئة إلى الهجرة، ومن ذلك ضعف الإرادة السياسية لمحاربة الرق.
وتساءل الناشط الحقوقي عن فائدة كثرة المحاكم والدوائر القضائية لظاهرة العبودية وإصدار القوانين لتجريمها، إذا لم تصحبها إرادة التطبيق التي لا هوادة فيها.
ونبه المتحدث ذاته أن هجرة الشباب عموما وخاصة من أبناء هذه الفئة، مردها البحث عن حياة كريمة لهم ولعائلاتهم، مشددا أنه لو تحقق لهم ذلك في بلادهم لما فكروا في الهجرة عبر قوارب الموت، والتي لا ينجو منها ناج إلا بأعجوبة.
معالجة جذرية
وعن سبل معالجة الظاهرة، قال محمد محمود ولد عبد الجليل، الأمين العام للمرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، إن المرصد يرى أن المعالجة الجذرية للظاهرة تستوجب تقديم تصور شامل لها.
وأضاف لـ"الاستقلال"، وذلك "من خلال إنفاذ الأحكام التي تصدرها المحاكم في هذا الموضوع، وأيضا محاربة التسويات التي تفلت الأشخاص المدانين من قبضة العدالة، وتمكنهم من ممارسة الاستعباد، وبالتالي عدم إنفاذ القانون في حق هؤلاء المدانين".
واسترسل، "ومن الحلول الجذرية أيضا، ما يتعلق بالجانب الاقتصادي والاجتماعي، من خلال توفير تعليم جيد وخدمات صحية وتعليمية ووظيفية ومشاريع اقتصادية تمكن من تطوير المستوى المادي لهذه الفئة".
وخلص إلى أن موريتانيا أصدرت قوانين جيدة في هذا الموضوع، غير أن الظاهرة تستدعي العمل على تطوير المحاكم المختصة في محاربة العبودية، وتعزيز استقلاليتها، وإنفاذ أحكامها، ووضع تمييز إيجابي لوصول هذه الفئة إلى مناصب سياسية أو إدارية، وكلها مداخل ستؤدي في مجملها إلى محاربة هذه الظاهرة.