"مساجد" و"مودة".. مؤسستان أنشأهما السيسي للعبث بتاريخ مصر الإسلامي
"لو استمر الوضع بهذه الوتيرة فسيتم سحق جزء مهم من تاريخ مصر في سنوات معدودة"
منذ انقلابه في 2013، يسعى عبد الفتاح السيسي إلى قلب كثير من رموز مصر والعبث بها، في مقدمتها الهوية العمرانية للمدن المصرية، خاصة المساجد التاريخية فيها.
فتارة يقدم على حملة إزالات عشوائية للمقابر والمناطق العتيقة بالقاهرة، كما فعل بصحراء المماليك، وتارة يدمر الهوية المعمارية الإسلامية لبعض الجوامع تحت غطاء التطوير كما حدث مع جامع "المرسي أبو العباس".
وأبرم السيسي صفقة مثيرة للجدل مع طائفة البهرة (الشيعية)، لترميم المساجد والأضرحة الخاصة بالجماعات الصوفية في مصر، تحت بند "خطة جذب السياحة الدينية".
وتضمن الترميم مساجد وأضرحة الحسين، والسيدة فاطمة، والسيدة رقية، والسيدة سكينة، والسيدة حورية، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، والسيد أحمد البدوي بطنطا.
واستخدم السيسي أذرعا بعينها لتنفيذ سياساته منها بعض المؤسسات الخيرية المشبوهة مثل "مساجد" و"مودة"، وكلتا المؤسستين تعمل تحت إشراف القوات المسلحة، وتنشط في ترميم وتطوير المساجد.
فما طبيعتهما؟ ومن وراءهما؟ ولماذا يتجاوزان دور وزارة الأوقاف؟ وينخرطان في ترميم مساجد آل البيت والجوامع التاريخية، التي تتميز بطرز معمارية خاصة.
مؤسسة "مساجد"
في 12 مايو/ آيار 2024، افتتح السيسي، مسجد السيدة زينب بمنطقة وسط القاهرة بعد انتهاء أعمال ترميمه.
وكان يرافقه السلطان مفضل سيف الدين سلطان طائفة البهرة بالهند (مقرب من حكومة ناريندرا مودي الهندوسية المتطرفة ضد المسلمين)، والأمراء من أشقاء وأنجال السلطان.
بعدها أعلن السيسي عن خطة مقدمة لتطوير محيط مساجد ومزارات آل البيت. وبحسب موقعها الرسمي، فستكون مؤسسة "مساجد" واحدة من المؤسسات القائمة على مشروع التطوير.
وهي مؤسسة تأسست عام 2019، برئاسة شرفية لمفتي الجمهورية السابق علي جمعة، وعضوية مجموعة رجال أعمال، أبرزهم أحمد السويدي صاحب مجموعة السويدي للكابلات، ومحمود العربي صاحب مجموعة العربي جروب قبل وفاته.
وتعرف "مساجد" نفسها عبر موقعها الرسمي، بأنها جمعية خيرية لا تهدف للربح، وهدفها إعادة ترميم وتطوير ورفع كفاءة مساجد آل البيت، بالتعاون مع وزارة الأوقاف، وتحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
وسبق أن أعلنت "مساجد" خلال عام 2021، أنها طورت مسجدي الإمام الحسين، والسيدة فاطمة النبوية. وكلاهما افتتح عام 2022، بحضور السيسي ومعه سلطان البهرة أيضا، في حفل ضخم تابعته وسائل الإعلام المصرية.
وإضافة لعملها في الوقت الحالي على تطوير وترميم مسجد السيدة حورية بمحافظة بني سويف، فإنها تقوم بإدارة وتشغيل 3 مساجد هي: الإمام الحسين والسيدة فاطمة النبوية والسيدة سكينة بمنطقة الخليفة وسط القاهرة.
لكن اللافت أن المؤسسة تعتمد في تطوير المساجد على تبرعات الغير عبر حساباتها المنشورة على موقعها الرسمي ومواقع التواصل الاجتماعي.
مؤسسة “مودة”
بعد "مساجد" تأتي الذراع الثانية وهي مؤسسة "مودة" التي تم تدشينها عام 2021، ويشغل أيضا مفتي الجمهورية الأسبق علي جمعة منصب مؤسسها ورئيس مجلس الأمناء فيها.
وتذكر مودة عبر صفحتها بموقع "فيسبوك" أنها تسعى لإنهاء حالة الإهمال والتردي التي نالت معظم المساجد آل البيت، وزيادة الاهتمام بالسياحة الدينية.
وأضافت أنها تعمل على مشروع تطوير مسجد السيدة عائشة، وتضم في عضويتها مساعد وزير العدل السابق سمير جويد، وعمر صبور، مالك مجموعة صبور للتطوير العقاري، وجابر طايع المتحدث الرسمي السابق لوزارة الأوقاف، وأحد مريدي علي جمعة، ومن المقربين إليه.
أما الموقع الرسمي لـ"مودة" فيذكر أن المؤسسة تقوم باستقبال أموال التبرعات لاستثمارها في العمل على الارتقاء بمساجد آل البيت والأحياء والشوارع المؤدية إليها.
وذلك من خلال تطويرها بالإضافة إلى إنشاء مشاريع تنموية بالمناطق المحيطة بهذه المساجد وتحسين معيشة سكان هذه المناطق.
أخطاء في الترميم
وفي هذا السياق، تسلط مواقع محلية مصرية الضوء على “أخطاء عديدة” ترتكبها المؤسستان خلال تطوير المساجد.
ففي 15 مايو 2024، أوردت صفحة "صحيح مصر" أن عمليات الترميم شوهت مساجد ومزارات آل البيت التاريخية
إذ شاب عملية تطوير المساجد عدة أخطاء، على رأسها في العام 2022، عند تطوير مسجد الإمام الحسين، والذي جاء مخالفا للمعايير.
وذلك بعد تحويل ساحة المسجد من فراغ إلى صحن للمسجد محاط بسور حديدي، رغم أن الساحة بالشكل القديم تعد جزءا من النسيج العمراني للقاهرة التاريخية المسجلة على قوائم التراث العالمي (اليونسكو).
أيضا تسبب التطوير في تشويه القبة الأثرية للمسجد، من خلال تمرير مسارات التكييف على الواجهة، وتسبب ذلك في إغلاق بعض الفتحات، بما يعد تخريبا وتشويها معماريا للأثر.
كذلك تعرض مسجد السيدة نفيسة لبعض الإهمال أثناء تطويره، بعدما تمت إزالة باب الضريح الفضي، والنجف التركي، ورنك الخديوي عباس حلمي الثاني، وتغطية النوافذ الجصية بالرخام.
واستبدال العناصر الزخرفية بتصميمات غريبة لا تمت بصلة لطراز العمارة الإسلامية، واستبدال المقصورة التاريخية للمسجد بأخرى لا تشبهها من حيث الفخامة والعراقة.
كما أن ترميم مسجد السيدة زينب أخفى الطابع المصري الإسلامي الفاطمي، وساد الطابع العراقي القريب من المذهب الشيعي الاثني عشري، البعيد عن عقيدة المصريين وثقافتهم.
كارثة أبو العباس
لم تتوقف عبثية تلك المؤسسات على مساجد القاهرة التاريخية، بل انتقلت إلى الإسكندرية، ففي 23 يناير/ كانون الثاني 2024، انتابت صدمة المهتمين بالتراث المصري.
بعدما نشرت مبادرة "أنقذوا الإسكندرية الخديوية"، عبر صفحتها على "فيسبوك"، صورا لـ "شخشيخة" أو "قبة" مسجد "أبو العباس المرسي".
الصور أظهرت حالة "القبة" الداخلية قبل وبعد الترميم، حيث شهدت إزالة الزخارف والنقوش التاريخية التي تميز المسجد الواقع بحي الجمرك بمنطقة الأنفوشي، على ضفاف البحر المتوسط.
وكتبت صحف محلية مصرية أن "المقاول المختص بعملية الترميم حطم الزخارف الجصية للسقف الرئيس للمسجد، سقف (الشخشيخة)، مسحها بالكامل بالمطرقة والإزميل، بدون توثيق، ولا دراسة".
ويعد ما حدث لمسجد "أبو العباس المرسي" جزءا من مشهد أكبر لتاريخ يجرى سحقه في مصر خلال السنوات الأخيرة، بداية من الاعتداء على القاهرة التاريخية، وصولا إلى القصور الأثرية في صعيد مصر.
وتنص المادة الأولى من القانون المنشور في 11 أغسطس/ آب 1983، على أنه "يعد أثرا، كل عقار أو منقول أنتجته الحضارات المختلفة، أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان من عصر ما قبل التاريخ، وخلال العصور التاريخية المتعاقبة، حتى ما قبل 100 عام، متى كانت له قيمة أو أهمية أثرية أو تاريخية".
وتعد سياسة هدم الآثار والعبث بالمعالم الحضارية آلية واضحة لنظام السيسي، وهو ما ظهر بوضوح في 21 يوليو/تموز 2020.
وقتها شهدت مصر حالة من الذهول تلاها جدل عبر وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، بعد انتشار صور لعمليات هدم المقابر التاريخية بالجرافات في منطقة صحراء المماليك، أحد أهم المعالم الأثرية في القاهرة.
وهي من الشواهد على الفن المعماري الإسلامي الرفيع لتلك الحقبة، ويعود عمرها إلى أكثر من 500 عام.
كما تضم أكثر من 30 أثرا مسجلا، ودفن بها السلطان قايتباي وبرقوق وغيرهما من سلاطين المماليك.
إضافة إلى قبر شيخ الإسلام الإمام العز بن عبد السلام، وغيره من رموز العالم الإسلامي وكبار مؤرخيه وقادته في تلك الحقبة من تاريخ مصر.
ومن أبرز ما نقل في عملية الهدم المحزنة، صور لمقبرة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، التي تعرضت للهدم ضمن أعمال إنشاء الطريق الجديد، الأمر الذي أدى إلى هدم عدة مقابر تاريخية أخرى.
وفي 13 مايو 2018، جرى الإعلان عن قرار تفكيك ونقل 55 منبرا أثريا من مساجد القاهرة التاريخية.
جلها يعود إلى العصر المملوكي في القاهرة الإسلامية تمهيدا لعرضها بالمتاحف القومية، بحجة أنها معرضة للسرقة.
وإلى الآن لم يعرف مصير هذه المنابر العريقة والعتيقة، وأثار هذا الإعلان غضب واستياء كثير من الأثريين والفنانين التشكيليين المصريين.
أين الأوقاف؟
وتعليقا على المشهد، يقول الدكتور سيد جابر، أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة الأزهر إنه “من العجب أن دولة مثل مصر أوقافها الإسلامية تزيد عن 14 قرنا من الزمان، وتمتلك وزارة أوقاف عريقة مسؤولة عن آلاف المساجد والآثار الإسلامية، وتستعين بمؤسسات مشبوهة لا رقيب ولا حسيب عليها”.
وأضاف لـ"الاستقلال"، أن التعامل مع المساجد التاريخية لا يخضع للقواعد العادية والطبيعية لعدة أمور، منها طبيعة البناء وهويته المعمارية.
وتابع: “فمصر من الدول التي مر بها الكثير من الحقب وبها كثير من فنون العمارة، ما بين المملوكية والطولونية والفاطمية والعثمانية، حتى يوجد بها آثار تنتمي للعمارة المغاربية والأندلسية”.
جابر أوضح أيضا أن مصر في كثير من الأحيان خلقت طرازا مختلطا، مثلما حدث في العصور الحديثة عندما أدخل الخديوي إسماعيل الحداثة الأوروبية فاختلطت بالعمارة الإسلامية، ونرى هذا في بعض المدن مثل بورسعيد وبورفؤاد.
ومضى الخبير المصري يقول: تخيل أن هذه الأمور المعقدة يتم التعامل معها بعشوائية، فيتم تدمير زخارف نادرة وخطوط عربية فخمة لا يمكن أن تعوض بـ (جرة قلم)، على حد وصفه.
وتساءل: أين المعماريون المصريون وكبار الفنانين والنحاتين أين أساتذة كليات الآثار والهندسة من كل ما يحدث؟
وختم جابر متأسفا: “لو استمر الوضع بهذه الوتيرة، فسيتم سحق جزء مهم من تاريخ مصر في سنوات معدودة، وستتحول مساجد نفخر ونعتز بها مثل الأزهر والسلطان حسن ومحمد علي وغيرها إلى مسخ يستحيل استعادته مرة أخرى”.
المصادر
- أبرزها مسجد الإمام الحسين.. ما هي مؤسسة مساجد المشاركة في رفع كفاءة مساجد آل البيت؟
- تطوير محيط مساجد آل البيت بالقاهرة
- بأموال البهرة.. مصر تطور مساجد آل البيت
- معلومات عن مودة
- بالأسماء.. 9 مساجد في خطة ترميم «مساجد آل البيت» 2022
- حتى العمال مصدومون.. متطوعون يوثقون مقابر القاهرة التاريخية قبل هدمها، وإليك ما سيُشيّد على أنقاضها