مناورات تركية وأنظمة دفاع جوي إسرائيلية.. لماذا عاد التوتر إلى قبرص؟

"قضية قبرص لم تعد مجرد نزاع محلي، بل أصبحت جزءاً من صراع إقليمي ودولي"
اختتمت القوات المسلحة التركية بنجاح مناورات "عاصفة البحر الأبيض المتوسط 25" التي نظمتها مع جمهورية شمال قبرص التركية منتصف سبتمبر/ أيلول 2025، تزامنا مع تسليم الكيان الإسرائيلي نظام الدفاع الجوي "باراك إم إكس" لإدارة جنوب قبرص الرومية.
وتفاعلا مع هذه التطورات، نشر معهد التفكير الإستراتيجي التركي مقالا للكاتب التركي "مدحت ايشيك"، ذكر فيه أن منطقة شرق المتوسط شهدت خلال سبتمبر 2025 سلسلة من المناورات العسكرية المتقابلة بين تركيا وقبرص التركية من جهة، واليونان وقبرص الرومية من جهة أخرى.
وأوضح أن هذه التطورات تعكس عمق التوتر المستمر حول النفوذ والسيادة والأمن في الجزيرة ومحيطها البحري الإستراتيجي.
وتعاني قبرص منذ 1974 انقساما بين شطرين تركي في الشمال ورومي في الجنوب، وفي 2004 رفض القبارصة الروم خطة قدمتها الأمم المتحدة لتوحيد شطري الجزيرة.
ومنذ انهيار محادثات إعادة توحيد قبرص التي جرت في سويسرا برعاية الأمم المتحدة في يوليو/ تموز 2017، لم تجر أي مفاوضات رسمية بوساطة أممية لتسوية النزاع في الجزيرة.

سباق تسلح
وذكر الكاتب التركي أنه في الفترة من 8 إلى 11 سبتمبر، نفذت تركيا بالاشتراك مع شمال قبرص مناورة واسعة أُطلق عليها اسم "عاصفة البحر الأبيض المتوسط – الشهيد جنكيز طوبال".
حيث تميزت التدريبات بتنفيذ عمليات معقدة في وقت واحد شملت الهجوم الجوي، والإنزال بالمظلات، والبحث والإنقاذ، إضافة إلى مشاركة أربع طائرات مقاتلة من طراز F-16.
وأشرف على هذه المناورة قائد قوات حفظ السلام في قبرص الفريق صباح الدين قيليتش، بمشاركة عشرة جنرالات من رتب مختلفة، ما أضفى عليها طابعا إستراتيجيا رفيع المستوى.
وتُعد هذه المناورة رسالة واضحة من أنقرة تؤكد تصميمها على حماية مصالحها في قبرص وشرق المتوسط، فضلاً عن دعمها المستمر لجمهورية شمال قبرص التركية.
ولم يتأخر الرد من الجانب الآخر؛ فبعد يوم واحد فقط من انتهاء المناورات التركية – القبرصية، أعلنت إدارة جنوب قبرص الرومية عن إجراء مناورات بين 11 و18 سبتمبر، بمشاركة كل من فرنسا وإيطاليا.
وقد فُسّرَت هذه الخطوة على نطاق واسع بأنها رد مباشر على التحركات التركية، ومحاولة لإظهار الدعم الأوروبي للجنوب في مواجهة النفوذ التركي المتزايد.
ورغم مرور أكثر من خمسين عاماً على عملية السلام التركية في قبرص (20 يوليو 1974)، يبدو أن التوتر لا يزال قائماً.
فقد واصلت إدارة جنوب قبرص تعزيز ترسانتها العسكرية، خصوصاً بعد أن رفعت الولايات المتحدة الحظر المفروض على تصدير السلاح إليها. كما حصلت على دعم دفاعي كبير من الاتحاد الأوروبي بلغ 1.181 مليار يورو ضمن إطار "برنامج العمل الأمني".
وتشير تقارير إعلامية إلى أن الجنوب اتخذ خطوات عملية لشراء أنظمة دفاع جوي من الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن بعض هذه المنظومات وصلت بالفعل.
ويشرف على الجيش الوطني للحرس القبرصي اليوناني الفريق إيمانويل ثيودورو القادم من قيادة جزر اليونان. حيث يضم الجيش نحو 10 آلاف جندي نظامي، ويصل مع قوات الاحتياط إلى 50 ألفاً.
كما يسمح بتجنيد النساء المتطوعات من عمر 18 حتى 26 عاماً. ويتألف الهيكل العسكري من لواءين للمشاة، ولواءين مدرعين، ولواءين للدعم، إضافة إلى لواء قوات خاصة.
إلا أن تقارير عسكرية تفيد بأن مستوى تدريب هذه الوحدات ما زال ضعيفاً، فهناك مشكلات في الانضباط. كما أن تولي ضباط يونانيين كبار قيادة الجيش يثير حالة من عدم الثقة بين الجنود القبارصة الروم.
وتكشف هذه المناورات والسباق المتصاعد نحو التسلح أن قبرص وشرق المتوسط يعيشان مرحلة حساسة من التنافس العسكري والسياسي.
فبينما تؤكد تركيا عبر تحركاتها تصميمها على حماية مصالحها ودعمها لشمال قبرص، يسعى الجنوب إلى الاستقواء بالتحالفات الأوروبية والدعم الأميركي – الإسرائيلي.
ومع غياب حل سياسي شامل للقضية القبرصية، يبقى خطر التصعيد العسكري قائماً في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم.

استعراض قوة
وأشار الكاتب التركي إلى أن جزيرة قبرص شهدت في يوليو/ تموز 2024 الذكرى الخمسين لعملية السلام التي نفذتها تركيا عام 1974، والتي أنهت الصراع المسلح بين القبارصة الأتراك واليونانيين.
وقد تميزت الاحتفالات هذا العام بعروض عسكرية ضخمة، تركت صدى واسعاً وأثارت مخاوف جدية لدى الجانب الرومي في الجنوب.
واستدرك الكاتب: تاريخياً، وثّقت مصادر أن بعض الضباط اليونانيين انسحبوا أمام هجمات الجيش التركي خلال عملية السلام في 1974، بينما قاموا بإجبار عدد من الجنود الروم على البقاء في مواقعهم القتالية عبر تقييدهم بالأسلحة حتى لا يفروا من المعركة. وهذه الحادثة تعكس عمق الانقسامات والثمن الباهظ الذي دفعه الروم خلال تلك المواجهات.
وفي احتفالات الذكرى الخمسين، نظمت القوات المسلحة التركية بالتعاون مع قوات جمهورية شمال قبرص التركية عروضاً عسكرية واسعة النطاق:
- في العاصمة نيقوسيا، شاركت قوات المشاة والقوات الخاصة، بدعم من طائرات الهليكوبتر القتالية والنقل، إضافة إلى مقاتلات F-16 في استعراض جوي وبري كبير.
- في البحر، نفذت القوات البحرية التركية استعراضاً ضخماً بين ميناءي فاماغوستا وكيرينيا بمشاركة نحو 80 سفينة حربية، في مقدمتها سفينة الهليكوبتر الهجومية "الأناضول".
- تزامن ذلك مع طلعات جوية نفذتها المقاتلات التركية في أجواء البحر المتوسط.
وأشار الكاتب إلى أن هذه العروض مجتمعة خلقت حالة من الخوف والارتباك النفسي لدى الجانب الرومي، ودفعتهم إلى البحث عن دعم خارجي أكبر.
وتحت ضغط هذه المخاوف، فتحت إدارة الجنوب أبوابها أمام دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل لإقامة قواعد عسكرية جوية وبحرية على أراضيها.
غير أن هذه الخطوة أثارت جدلاً واسعاً داخل المجتمع الرومي، حيث عدها البعض تنازلاً عن السيادة الوطنية مقابل شعور زائف بالأمان.
ولفت الكاتب النظر إلى أن حزب أكيل المعارض وجّه انتقادات شديدة اللهجة إلى الحكومة الرومية، متهماً إياها بأنها تفقد السيطرة على الجزيرة، ومحذراً من أن نفوذها يتآكل تدريجياً أمام التحركات التركية المتصاعدة.

الرؤية التركية
من منظور أنقرة وقيادة شمال قبرص، فإن الموقف التركي حاسم وواضح: القضية القبرصية قد طُويت نهائياً. فـ"عملية السلام" التي جرت في 20 يوليو 1974 أنهت النزاع المسلح وأوقفت دوامة الدماء.
وإعلان جمهورية شمال قبرص التركية في 15 نوفمبر 1983 كرّس واقع وجود دولتين مستقلتين على الجزيرة. منذ ذلك الحين، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، يسود قبرص قدر كبير من الأمن والاستقرار بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
وبناءً على ذلك، ترى أنقرة أن أي حوار أو مفاوضات مقبلة لا بد أن تنطلق من مبدأ الحل القائم على دولتين، مع الاعتراف الكامل بجمهورية شمال قبرص التركية ككيان مستقل وذي سيادة.
في المقابل، يشير محللون إلى أن مثلث الولايات المتحدة وإسرائيل واليونان يسعى للضغط على تركيا عبر بوابة إدارة جنوب قبرص، ما يجعل من الضروري – بحسب الرؤية التركية – الإسراع في إنشاء القاعدة البحرية المقررة في شمال قبرص.
ففي العقيدة الأمنية التركية، يبدأ الدفاع عن الأناضول من دوائر أوسع تشمل شمال قبرص، وحلب، وعفرين، وكركوك، وباكو، وتراقيا، وجزر بحر إيجة.
وختم الكاتب مقاله قائلاً: تظهر هذه التطورات أن قضية قبرص لم تعد مجرد نزاع محلي، بل أصبحت جزءاً من صراع إقليمي ودولي على النفوذ في شرق المتوسط.
وبينما تسعى أنقرة لتكريس واقع الدولتين، يراهن الجنوب على الدعم الغربي والإسرائيلي. وفي ظل غياب توافق سياسي شامل، يبقى التوتر مرشحاً للتصعيد، مما يضع الجزيرة مجدداً في قلب التجاذبات الجيوسياسية الكبرى.