من أبقار هولندا إلى عربات الخضار.. هكذا يدير السيسي مصر بالوهم وجنون العظمة

السيسي امتداد لـ القذافي وعيدي أمين
في عام 1959 قدّم الكوميديان المصري الراحل إسماعيل ياسين شخصية "جعران أفندي" في فيلم المليونير الفقير، مجسِّدًا شخصية الرجل الذي يتحدث كثيرا، ويفتي في كل شيء، ويدّعي العبقرية بينما تغرقه الجهالة من رأسه حتى قدميه.
وبعد أكثر من 60 عاما يبدو أن "جعران أفندي" لم يختفِ، بل ارتدى بزة الجنرال، ووقف على منصة الحكم ليطلق التصريحات كأنها وحي، ويخترع الحلول البعيدة عن المنطق دون أن يطيق نقاشا أو معارضة.
ولطالما استخدم الناشطون المصريون مشهدا أيقونيا من الفيلم للسخرية من أفكار وأطروحات رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، عندما أطلق عمدة القرية الفنان لطفي الحكيم على جعران أفندي أوصاف "يا بحر العلم يا ترعة المفهومية.. يا فيلسوف الحمير".
ففي مصر التي تحولت إلى جمهورية الأفكار غير القابلة للنقاش، تدار الأزمات بعقلية "جنرال ملهم" لا يحب دراسة الجدوى، وتحل فيها البطالة بعربة خضار، وتعالج فيها أزمة السكان بوقف الإنجاب سنتين.
وكان آخر هذه الجدليات حدث في 20 مايو/ أيار 2025، عندما وقف السيسي، خلال مشاركته في انطلاق موسم حصاد القمح، لا ليعرض خطة حكومية مدروسة أو نتائج تحليل اقتصادي، بل ليقترح بمنتهى الجدية أن يجرى استبدال أبقار من "سلالة أكثر إنتاجا للبن (الحليب) بالأبقار التي يملكها الفلاحون، وكأن الفلاح المصري يمتلك مزارع هولندية أو أسترالية يختار منها ما يشاء.
وقال السيسي نصا: "أغني المزارع إزاي؟ إني آخد منه البقرة اللي بتطلع كيلو لحم و7 كيلو لبن في اليوم، ونستبدلها بسلالة بنفس الأكل بتطلع 1.5 كيلو لحوم و 40 كيلو لبن في اليوم".
وهو ما جعله عُرْضة للسخرية والنقد من قبل علماء متخصصين، رأوا استحالة تنفيذ هذه الفكرة لأمور تتعلق بالطبيعة البيئية لكل أرض وبلد.
الأبقار الهولندية
ولم يكن هذا الطرح هو الوحيد الذي أثار الجدل، إذ لم يتوقف السيسي منذ قدومه إلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 2013 عن الحديث عن حلول عجيبة لطالما سخر منها المصريون والعرب.
كان من بينها إعلانه في أغسطس/ آب 2021، خلال اجتماع مع رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير الزراعة آنذاك السيد القصير، عن مشروع طموح قرر فيه استيراد 250 ألف رأس ماشية هولندية من نوع “هولشتاين” بتكلفة تتجاوز 15 مليار جنيه، لسد الفجوة الغذائية في الألبان.
ولم يكن المشروع نتاج بحث علمي أو مشورة من أهل الاختصاص، بل رؤية شخصية تبناها الجنرال بنفسه، بل وطلب من الجمعيات الخيرية دعم الفقراء بأبقار مستوردة.
لكن البقرة "الهولندية" التي أبهرت الرئيس على الورق، اصطدمت بالواقع المصري الحار والفقير.
فالبقرة المستوردة، حسب دراسات المتخصصين، تحتاج إلى نظام غذائي صارم يكلف نحو 400 جنيه يوميا، مقابل 150 جنيها لنظيرتها المحلية.
وكان السيسي قد طمأن الجميع قائلا خلال أحد المؤتمرات: إن "الأبقار المستوردة والمحلية تتساويان في الاحتياجات الغذائية"، وهي معلومة لا يُعرف مصدرها.
ثم ظهرت المشاكل الفعلية بعد ذلك، ومن بينها أن الأبقار الهولندية لا تتحمل درجة حرارة الجو في مصر، فتصاب بالإجهاد الحراري، وتنخفض إنتاجيتها.
كما أنها تفقد المناعة ضد أمراض شائعة مثل الحمى القلاعية، ما يتطلب نظام تبريد مكلف وخطط رعاية بيطرية غير متوفرة أصلا في قرى الريف المصري.
وكان هناك عائق آخر، أن النطفة الواحدة من الأبقار الهولندية تكلف 120 دولارا، وتحتاج غالبا لأكثر من تجربة حتى تثمر.
وفي الوقت الذي روّج فيه السيسي للمشروع بصفته ثورة جديدة، كان وزير الزراعة وقتها السيد القصير، يهمس للعاملين بالقطاع أن الفكرة أصلا خاطئة، بحسب مصادر لمواقع محلية مثل “مدى مصر”.
وبين القصير أن المشروع "كفيل بالقضاء على الثروة الحيوانية المحلية"، مؤكدا أن سعر الرأس الواحدة من هذه الأبقار يصل إلى ثلاثة آلاف دولار بلا مردود مضمون.
مدينة الأثاث في دمياط
كذلك في عام 2017 وعلى أنقاض بحيرة المنزلة التي جرى ردم أجزاء منها، قرر السيسي إنشاء مدينة دمياط للأثاث، على مساحة 331 فدانا.
المشروع طرح بصفته فكرة من أفكار الجنرال، لإحداث نقلة حضارية لصناعة الأثاث في مصر، وجرى تنفيذه تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وبتكلفة 3.6 مليارات جنيه.
وكان عدد الورش 1348، وعدد المراكز الخدمية خمسة، بينما عدد دراسات الجدوى للمشروع صفر.
وفي خطاب خلال افتتاح المدينة عام 2019، أعلن السيسي أن المدينة “ستأخذ صناعة الأثاث المصرية إلى العالمية”.
لكن ربما كان يقصد “العالمية في الخسائر”، إذ لم تمر أشهر حتى بدأت التصريحات تخرج من محافظة دمياط نفسها، على لسان المحافظة آنذاك منال عوض، معلنة خسائر ضخمة وفشل إداري متكرر.
وحين اتضح أن "نقلة الأثاث" لم تصل إلى السوق، قرر السيسي، بمنطق معروف في الجمهورية الجديدة، أن يعالج فشل إدارة الدولة بتكليف شركة تابعة للجيش بإدارة المدينة.
ومع ذلك، استمر الفشل، وبقيت المدينة بلا عمال، ولا مشتريات، ولا عائد، ومجرد هياكل حديدية وورش مغلقة، وإعلانات في افتتاحيات الصحف تتحدث عن "فرص استثمارية عظيمة" لا يراها أحد.
وأعاد مختصون الفشل إلى هندسة المشروع سياسيا، لا اقتصاديا دون دراسة مدى قدرة السوق المحلية على استيعاب هذا الإنتاج الموعود.
ومن المثير للسخرية أنه خلال افتتاحه المدينة وقعت حادثة لا تنسى، حين انفعل السيسي على أحد الحضور، قائلا له: “أنت دارس الموضوع اللي بتتكلم فيه ده؟ أنت دارسه؟ ايه ده؟ أنتو دارسين الكلام اللي بتقولوه ده؟”
وعرج السيسي موبخا "إنت عايز الدولة تنهض، ولا تبقى ميتة؟.. لو سمحت ادرسوا المواضيع جيدا ثم تحدثوا".
المنصورة الجديدة
وفي الثاني من ديسمبر/ كانون الأول 2022، وقف السيسي ليفتتح ما وصفه بـ"المرحلة الأولى من مدينة المنصورة الجديدة"، على الطريق الساحلي الدولي، بين مدن جمصة وكفر الشيخ ودمياط.
المشروع العملاق جاء بمساحة 2500 فدان من أصل 7200، وبفاتورة ضخمة بلغت 24 مليار جنيه، وذلك على أمل أن تكون هذه المدينة الساحلية حلما جديدا على البحر الأبيض المتوسط.
لكن الحلم تبخر سريعا، ولم يتبق منه سوى أبراج صامتة تراقب البحر دون سكان.
تنفيذ المشروع الذي كان مجردة فكرة عابرة عام 2010، وأعاد السيسي إنتاجها عام 2022، كان كعادة المشاريع الرئاسية برعاية الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
ولكن ما لم تعلنه البيانات الرسمية أن الوحدات السكنية باتت جاهزة للتسليم، ولا أحد يطرق أبوابها.
الإقبال على الحجز كان هزيلا، بحسب مواقع محلية مثل "الأسبوع" و"درب"، رغم الحملات الإعلامية المدفوعة.
وهو مشهد يعيد إلى الأذهان تجارب "الطرح الجزئي" الفاشلة في العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة وغيرها من مدن الخرائط، التي شيدت في مخيلة الجنرال قبل أن تتحطم على صخرة الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
ولأن الفشل الإداري عادةً لا يحاسب عليه أحد، جاءت إقالة المشرف على جهاز المدينة المهندس علاء منيع، في 13 مايو 2024، كتصحيح شكلي للمسار، ليحل محله المهندس أحمد عمران.
المنصورة الجديدة لم تكن استثناء، بل مجرد حلقة أخرى في مسلسل المدن التي تبنى للسائحين أو للمستثمرين الوهميين، بينما يظل ملايين المصريين في القرى المهمشة والمناطق العشوائية محرومين من أبسط حقوق الحياة الكريمة.
لمبة وعربية خضار
ومنذ بداية عهده عام 2014، عرف السيسي بالكثير من الأطروحات التي لاقت سخرية واسعة.
فحين سئل عن خطته لحل أزمة الطاقة في مصر، لم يتحدث عن الطاقة المتجددة أو تحسين البنية التحتية أو فتح المجال للاستثمار الخاص، بل أعلن بكل ثقة أن الحل يكمن في "تغيير اللمبات" في البيوت.
وهي فكرة أثارت موجة من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، بلغت ذروتها حين أبدت مذيعة قناة "سكاي نيوز عربية"، التي تبث من أبو ظبي، الحليف السياسي الأبرز للنظام، اندهاشها وسألته: “هل من الممكن أنني بتغيير لمبة في بيتي أن أنقذ اقتصاد مصر؟!”
لكن الجنرال لم يحب أن يحرج، فرد برد عائم: "بالعلم مش بالكلام.. مفيش فرصة إضافة محطات جديدة.. وإحنا داخلين على أزمة في الصيف".
أما أزمة الخبز، فحلها كان أسهل عنده: كل مواطن يأخذ رغيفا واحدا، ويقسمه على أربعة.
وحجم رغيف الخبز المدعم في مصر يبلغ 90 جراما، وهو ما حددته وزارة التموين والتجارة الداخلية، بمعنى أنه بحسب منطق السيسي سيحصل المواطن على 22.5 جراما منه.
وفيما يخص البطالة، طرح السيسي لها خطة قومية لا تقل طموحا، عندما قال في أحد البرامج الحوارية إنه سيحلها عبر توزيع 1000 عربة خضار على الشباب في سوق العبور.
كذلك 25 فبراير/شباط 2016، وفي مشهد يصعب تصنيفه بين الجدية والكوميديا، خرج السيسي ذات صباح ليطالب المصريين بـ"التبرع بجنيه من رصيد هواتفهم يوميا لإنقاذ الوطن".
قالها السيسي بصوته الجهوري المعتاد: "صبح على مصر بجنيه من موبايلك"، ثم تابع بنبرة توبيخية: "إنتوا مين؟! لو بتحبوا مصر اسمعوا كلامي أنا بس!".
وما إن انتهت كلمته حتى اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بوسم "صبح على مصر بجنيه" ليتصدر الترند بسيل من السخرية.
امتداد القذافي
وفي تعليقه لـ "الاستقلال" على هذه الأطروحات الغريبة، يقول أستاذ علم النفس والاجتماع الدكتور محمد غبور: إن "الطريقة التي يتعامل بها السيسي مع أزمات مصر الاقتصادية ليست مجرد اجتهادات خاطئة، بل تعكس نمطا نفسيا شديد الوضوح".
وتابع: "إنه ينتمي إلى فئة القادة المصابين بجنون العظمة، والذين يملكون ثقة مطلقة بأن أفكارهم، مهما بدت ساذجة أو غير منطقية، قادرة على تغيير مصير شعوبهم".
ويضيف: "حين يقول السيسي إنه طبيب الفلاسفة، ويقترح إنقاذ الاقتصاد بتغيير لمبة أو حل أزمة الخبز بتقسيم الرغيف، فهو لا يمازح الجمهور، بل يعبر عن تصور داخلي حقيقي بأنه يمتلك رؤية عبقرية لا يراها الآخرون".
وأكمل: "هذه سمة ملازمة لحالات نفسية معروفة في تاريخ الأنظمة الشمولية، تبدأ من (زعيم النظام الليبي السابق معمر) القذافي حين عدّ كتابه الأخضر دستورا كونيا، إلى عيدي أمين (رئيس أوغندا الأسبق) الذي كان يصف نفسه بأنه سيد إفريقيا، والملك الذي لا يقهر".
ويتابع غبور: "كأي جنرال عسكري تربى داخل مؤسسة لا تؤمن بالحوار ولا النقاش، يرى السيسي أن الحكم يعني إصدار الأوامر لا صياغة السياسات. ولا يضع تقديرا لقواعد الاقتصاد أو المنطق أو التجارب السابقة".
واستطرد: "بل يراهن على الانضباط القسري والانبهار الإعلامي، وهنا تكمن الخطورة؛ لأن الشعوب في النهاية هي التي تتحمل تكلفة نزق القادة، وتجارب التاريخ من كوريا الشمالية إلى العراق تخبرنا بذلك".
ويختم غبور تصريحه قائلا: "ما نراه في مصر ليس مجرد فشل إداري أو اقتصادي، بل حالة من التحول السيكولوجي السلطوي؛ حيث يصبح الجنرال مركز الكون، وتتحول أفكاره مهما كانت عبثية وفاشلة إلى مشروعات وسياسات تنفذ بقوة الدولة".