قدم "سراب" السلام على وحدة الصف.. كيف أضاع عباس قضية فلسطين؟
“عباس تحول إلى حاكم استبدادي ضيق الأفق ومتقلب المزاج وله سجل حافل بالفشل”
على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان، كانت القيادة الفلسطينية مشتتة، فإلى جانب الانقسام الأساسي بين السلطة في الضفة الغربية وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في قطاع غزة ، تنافس العديد من المجموعات الأخرى على النفوذ.
وأواخر يوليو/تموز 2024، اجتمع زعماء جميع الفصائل السياسية الفلسطينية الـ14، بما في ذلك "فتح" و"حماس" في بكين لإصدار دعوة إلى الوحدة الوطنية.
ووعد الاتفاق الذي وقعوه، والمعروف باسم “إعلان بكين”، بإنشاء حكومة توافقية تدير كلا من قطاع غزة والضفة الغربية، وإصلاح وتوسيع منظمة التحرير الفلسطينية، وإجراء انتخابات وطنية.
مستقبل مختلف
وبحسب مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، فإن هذه المقترحات ليست جديدة وتؤكد إلى حد كبير على المبادئ المنصوص عليها في اتفاقات المصالحة السابقة، لكنها باتت أكثر إلحاحا في ضوء الإبادة غير المسبوقة التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وحتى منتصف أغسطس/آب 2024، أدى العدوان الإسرائيلي إلى استشهاد أكثر من 40 ألف فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، ونزوح مليوني شخص قسرا، وتحويل معظم المناطق إلى أنقاض.
وتُعد هذه اللحظة هي الأكثر دموية في التاريخ الفلسطيني، والحلقة الأكثر تدميرا في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني المستمر منذ قرن من الزمان.
وجاء في المقال الذي كتبه الباحث في "معهد الشرق الأوسط"، خالد الجندي، أن إعلان بكين "يقدم خريطة طريق لمستقبل فلسطيني مختلف، مستقبل يتمتع بقيادة موثوقة ومؤسسات سياسية فعّالة ستكون ضرورية لليوم التالي للحرب".
ومع ذلك، ورغم خطورة الموقف، فقد انتقد رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، من خلال متحدث باسمه، إعلان بكين بعده "غير مفيد وغير مهم".
وقال الجندي: "من المحير أن يُطلق زعيم سياسي -خاصة إذا كان يفتقر للشعبية مثل عباس- في لحظة من الصدمة الوطنية واليأس الوجودي، مثل هذا الازدراء الصريح للوحدة الوطنية".
وفسر ذلك بأن "عباس ربما شعر بأن وجه حماس بات إلى الحائط، وبالتالي لم ير أي ضرورة لتقاسم السلطة معها".
وطرح الكاتب تفسيرا آخر، وهو أن "عباس ربما لم يرغب في تحدي المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، الذين يعارضون بشدة أي تسوية سياسية مع حماس، بعد 7 أكتوبر".
وتابع: "على أية حال، فإن رفض عباس المتغطرس للخطة سلط الضوء على سمتين مميزتين لنحو 20 عاما من وجوده في السلطة، وهما الانفصال العميق عن شعبه، وعدم رغبته في تبني إستراتيجية متماسكة لتحرير فلسطين".
متغطرس عاجز
وأكد الجندي أنه "إذا كان التاريخ المؤلم للفلسطينيين قد علمهم أي شيء، فهو أن الكوارث تحل بهم عندما يفتقدون إلى قادة ذوي مصداقية، وهذا هو حال عباس اليوم".
واستطرد: "لقد تحول عباس -الذي كان يُنظَر إليه ذات يوم بصفته صانع سلام ومصلحا سياسيا واعدا- إلى حاكم استبدادي ضيق الأفق ومتقلب المزاج، وله سجل حافل بالفشل".
وتابع: "رغم أن بعض هذه النكسات كانت نتيجة لقوى خارجة عن سيطرته، وخاصة خلال السنوات القليلة الأولى من حكمه، فإن أغلبها كانت من صنعه نفسه".
ومن بين هذه الأهداف التي أحرزها عباس في مرماه -بحسب تعبير الجندي- هي السماح للانقسام السياسي الداخلي بالتفاقم، وخلق بيئة من الفساد والاستبداد المتزايدين، والأمر الأكثر أهمية، الفشل في إستراتيجية متماسكة.
وأوضح أن "أوجه القصور التي يعاني منها عباس لم تكن أكثر وضوحا ولا أكثر تأثيرا من غزة، موطن نحو 40 بالمئة من الفلسطينيين".
وأشار الجندي إلى أن "عباس تجنب باستمرار التعامل مع مشاكل غزة، الأمر الذي جعل القطاع يشل السياسة الفلسطينية الداخلية ويحبط مفاوضات السلام مرارا وتكرارا".
وأكد أن "في خضم حرب مروعة لا تنتهي، أصبحت حاليا الفرصة سانحة أمام عباس للتخفيف من بعض الأضرار التي لحقت بالفلسطينيين من خلال السعي إلى تحقيق الوحدة".
واستدرك: "مع ذلك، حتى في هذه اللحظة الأكثر حسما في التاريخ الفلسطيني، يظل عباس متفرجا عاجزا، بلا تأثير يُذكر في قرار الحرب أو السلام".
وتابع: "مع اندلاع الحرب الحالية في غزة، أصبح عباس عاجزا وغير ذي صلة بالأحداث، وحتى سلطته في الضفة الغربية بدأت تنهار".
وأردف الكاتب أنه "في الوقت الذي تعاني فيه السلطة الفلسطينية من أزمة مالية تمنعها من دفع الرواتب، فإن حملة القمع العنيفة التي تشنها إسرائيل ضد المسلحين في شمال الضفة أدت إلى تعطيل حياة الفلسطينيين العاديين، وإجبار قوات أمن السلطة على الانسحاب من أجزاء في شمال الضفة".
"مدير مدرسة"
وقال الجندي: "على عكس الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي كان يسعى غالبا إلى استغلال العنف السياسي، فإن عباس ملتزم بشكل راسخ بالدبلوماسية".
وأوضح: "في الواقع، فإن عباس -الذي سيبلغ 89 عاما في نوفمبر/تشرين الثاني 2024- مختلف تماما عن سلفه ذي الشخصية الطاغية".
واستطرد بأن "عباس يفتقر إلى الكاريزما ويُعرف بنفوره من التجمعات الجماهيرية، وشخصيته أشبه بمدير مدرسة، وليس زعيم حركة تحرير".
ويحكم عباس السلطة الفلسطينية بموجب مرسوم منذ عام 2007، دون أي نوع من الرقابة البرلمانية أو المؤسسية.
"ولإخفاء تعسف حكمه، أنشأ محكمة دستورية عليا جديدة في عام 2016، والتي حشدها بالموالين للتوقيع على قراراته"، وفق الجندي.
وبعد عامين، أعاد عباس إحياء "المجلس الوطني الفلسطيني" لأول مرة منذ 22 عاما، من أجل انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، إذ أعاد تعيينه رئيسا لها، وجدد تفويضه كرئيس للسلطة، مما أدى إلى الاستغناء عن الحاجة إلى الانتخابات".
ورغم إدانة المجتمع المدني والمعارضة لمثل هذه التدابير، إلا أن عباس أصر عليها، وبحلول نهاية عام 2018، استخدم سلطاته لحل المجلس التشريعي للسلطة (الذي كان خاملا إلى حد كبير) رسميا.
وأشار الجندي إلى أن عباس ربط نفسه بشكل كامل بسفينة "عملية السلام" التي تقودها الولايات المتحدة، وبذلك ترك نفسه عُرضة لتقلبات السياسة الأميركية والإسرائيلية.
وقال: "من خلال التضحية بالوحدة السياسية الفلسطينية على مذبح عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة، ألحق عباس ضررا لا حد له بالنضال الفلسطيني".
واستدرك: "لكن عباس لن يظل موجودا إلى الأبد، ومن الأهمية بمكان أن يتطلع الفلسطينيون إلى خليفة قادر على التغلب على التوترات التي شلت زعامة عباس منذ البداية".
وأكد الجندي أن “خليفة عباس سيضطر إلى حل هذه المعضلة من خلال توحيد الكيان السياسي الفلسطيني المنقسم، بما في ذلك دمج حماس في الهياكل السياسية الرسمية، مثل منظمة التحرير”.
ونوه إلى أنه "سيكون من الصعب للغاية على المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين أن يتقبلوا هذا، ولكن حركة حماس لن تختفي، والسماح لها بالاستمرار في العمل بحرية كاملة سيكون أسوأ".
وشدد الجندي على أنه "بدعم من الولايات المتحدة أو بدونه، يتعين على الزعيم الفلسطيني المقبل أن يعبّر عن رؤية واضحة للوحدة الوطنية والتحرير، رؤية غير خاضعة لعملية سلام عفا عليها الزمن وبلا جدوى".