كثيرة الكلام.. كيف فضح الهجوم على مرقد سليماني هشاشة بنية إيران الأمنية؟
في 3 يناير/ كانون الثاني 2024، أعاد هجوم قاتل في منطقة حساسة بإيران، الحديث عن حجم الاختراقات الأمنية في هذا البلد الذي "يتشدق" بحجم السطوة الأمنية له في عدد من الدول بالخارج.
وفي هجوم وصف بالأعنف منذ سنوات، أعلن وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي، مقتل 84 شخصا وإصابة 284، في انفجارين مزدوجين قرب مرقد القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني في محافظة كرمان جنوبي البلاد.
هجوم كرمان
ووقع الهجومان أثناء زحف آلاف الإيرانيين لإحياء الذكرى الرابعة لاغتيال سليماني في ضربة أميركية بالعاصمة العراقية بغداد عام 2020.
ونقلت وكالة "تسنيم" عن مصادر مطلعة لم تسمها، قولها إن "حقيبتين تحملان متفجرات انفجرتا" على الطريق المؤدي إلى مسجد "صاحب الزمان" حيث المقبرة.
وذكرت أن القنبلة الأولى انفجرت حوالي الساعة 15:00 بالتوقيت المحلي (11:30 بتوقيت غرينتش)، على بعد حوالي 700 متر من حديقة المقبرة.
أما التفجير الثاني فوقع بعد حوالي 15 دقيقة، على بعد حوالي كيلومتر واحد من المقبرة، واستهدف الأشخاص الذين فروا من القصف الأول، ما يشير إلى الدقة الكبيرة في تنفيذ العملية ورصد المكان بشكل جيد من قبل المهاجمين.
من جانبه، قال حاكم مقاطعة كرمان لوكالة إرنا الرسمية إن الانفجارين وقعا خارج نقاط التفتيش الأمنية وإن السلطات متأكدة من أنهما ناجمان عن قنابل.
لكنه قال إنه لم يتضح بعد ما إذا تم تفجيرهما عن بعد أم بواسطة "مهاجمين انتحاريين".
في البداية اتهم الرئيس الإيراني ومسؤولين في مكتب الرئاسة إسرائيل والولايات المتحدة بالوقوف وراء هجوم كرمان.
إذ قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عقب الانفجارين بمحافظة كرمان مسقط رأس سليماني: "نحذر الكيان الصهيوني من أنه سيدفع ثمن جريمة كرمان غاليا".
كما قال مساعد مدير مكتب الرئيس الإيراني للشؤون السياسية محمد جمشيدي، "إذا رفعت العصا ستهرب القطة السارقة. إن مسؤولية هذه الجريمة تقع على عاتق الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، والإرهابيون أدواتهم".
وبعد الهجوم بيوم عاد الرئيس الإيراني وقال في كلمة له بالعاصمة طهران بفعالية إحياء الذكرى السنوية الرابعة لمقتل سليماني إن "إسرائيل والولايات المتحدة ستدفعان ثمنا باهظا بسبب جرائمهما" في قطاع غزة وولاية كرمان.
وعلق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميللر على هجوم كرمان بقوله: "الولايات المتحدة لم تكن متورطة بأي شكل من الأشكال وأي إشارة إلى عكس ذلك أمر مثير للسخرية".
وأضاف ميللر: "ليس لدينا أي سبب للاعتقاد بأن إسرائيل متورطة في هذا الانفجار"، معربا عن تعازيه للضحايا.
وأيا يكن من يقف وراء الهجوم الجديد في إيران، فالتفجيران المزدوجان كشفا مدى حجم الخرق الأمني الذي تعانيه إيران، ولا سيما في احتفال بذكرى سنوية لأحد أكبر رموزها العسكريين والذي يُنظر إليه على أنه أقوى شخصية في إيران بعد المرشد علي خامنئي والموكل بالعمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني.
وقد نجح سليماني الذي قتل عن عمر 63 عاما في ترسيخ مليشيات إيرانية في 4 دول عربية (لبنان، العراق، سوريا، اليمن) منذ توليه قيادة "فيلق القدس" عام 1998.
إلا أن نظام الملالي لم يشر بإصبع الاتهام إلى تنظيم الدولة الذي سبق أن نفذ عمليات حساسة ومعقدة أمنيا داخل إيران وأسفرت عن وقوع قتلى.
اللافت أن تنظيم الدولة تبنى عملية كرمان في جنوب إيران، وقال عبر قنواته على تليغرام في 4 يناير، إن اثنين من مقاتليه "فجرا حزاميهما الناسفين (...) وسط تجمع كبير للرافضة المشركين قرب قبر زعيمهم سليماني بمدينة كرمان".
آخر هجوم تبناه التنظيم في هذا البلد كان على مزار شيعي بمدينة شيراز جنوبي البلاد في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وأودى بحياة 15 شخصا وإصابة 19 آخرين.
والهجوم المسلح على مزار ومرقد "شاهجراغ" في شيراز الإيرانية، تبناه تنظيم الدولة عبر بيان تداولته وكالات إخبارية وحسابات على موقع "تويتر".
وسبق ذلك تبني تنظيم الدولة عام 2018، استهدافه استعراضا عسكريا بمدينة الأحواز حضره الرئيس السابق حسن روحاني، وأودى بحياة 29 شخصا، علما بأن حركة "النضال العربي لتحرير الأحواز" أعلنت أيضا مسؤوليتها عن هذه العملية "الفدائية".
وتزامن ذلك مع تأكيد وكالة الأنباء الإيرانية "إرنا"، أن الهجوم الذي وقع في محافظة كرمان كان "هجوما انتحاريا".
ونقلت الوكالة عن "مصدر مطلع"، لم تسمه، قوله إن التحقيقات التي أجريت في مكان الهجوم تظهر أن الانفجار الأول نجم عن هجوم "انتحاري".
وأضاف المصدر أن "الانتحاري المسؤول عن الانفجار الأول كان رجلا وتقطع جسده بالكامل وتجري عملية تحديد هويته".
وأشار إلى أن الانفجار الثاني يحتمل أن يكون أيضا "هجوما انتحاريا، وأن عمليات فحص الكاميرات الأمنية والتحقيقات مستمرة".
ويبدو أن هناك تناقضا بين ما قاله تنظيم الدولة، والتقارير الإيرانية الأولية لهجوم كرمان، التي تفيد بأن القنابل وضعت في حقيبتين وتم تفجيرهما عن بعد على طول الطريق المؤدي إلى المقبرة، حيث كان يسير الآلاف من الأشخاص المشاركين في إحياء الذكرى.
خرق أمني
لدى إيران أعداء متعددون يمكن أن يكونوا وراء الهجوم، بما في ذلك الجماعات المناهضة لنظام الملالي في الداخل، وفق خبراء.
وسبق أن نفذت إسرائيل عمليات اغتيال في إيران بسبب برنامجها النووي، إلا أنها كانت دقيقة وتستهدف الشخص بشكل مباشر وليس على شكل تفجيرات.
وبالنسبة لتنظيم الدولة، ففي 24 سبتمبر/أيلول 2023، أعلنت وزارة الاستخبارات الإيرانية توقيف 28 شخصا يشتبه في ارتباطهم به.
وقالت الوزارة حينها إن المشتبه بهم كانوا يريدون "تنفيذ 30 تفجيرا إرهابيا متزامنا في مناطق مكتظة بالسكان في طهران لزعزعة الأمن والتحريض على أعمال الشغب والتظاهر بمناسبة ذكرى أعمال الشغب" في عام 2022.
وفي سبتمبر/ أيلول 2023 حكم القضاء الإيراني بالإعدام على طاجيكي ذكر أنه عضو في تنظيم الدولة بعد إدانته بإطلاق نار في أغسطس من العام ذاته في مرقد شيعي بجنوب البلاد.
وأيا كان من يقف وراء تفجير كرمان، إلا أن دلالات الخرق الأمني واضحة للمراقبين، ولا سيما أن طريقة التنفيذ كانت على مرحلتين.
وضمن هذه الجزئية أكد الخبير الأمني العراقي العقيد المتقاعد حاتم الفلاحي، أن "هذا التفجير المزدوج الذي جرى في إيران يعطي دلالة واضحة على ضعف وهشاشة الإجراءات الأمنية التي تقوم بها السلطات الإيرانية خصوصا في المناطق الهامة والحساسة والحيوية".
وأضاف الفلاحي لـ"الاستقلال" أن "الدليل على هذا هو أن هذا الهجوم ليس الأول وإن كان مكان الاستهداف يرمز إلى خصوصية للنظام الإيراني".
ومضى يقول:"هناك استهداف منشآت للصواريخ واغتيال لعلماء إيرانيين كبار وشخصيات قيادية ما يعطي دلالة على أن هناك خللا أمنيا كبيرا داخل أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية".
وأردف الفلاحي قائلا إن "هذه السطوة العسكرية التي تظهرها إيران في عدد من الدول، تجد اختلافا كبيرا عندما تسقطها على الداخل من الناحية الأمنية والاستخباراتية".
وخاصة حينما تمكن الصهاينة من نقل الأرشيف النووي الإيراني إلى إسرائيل، ويضيف: "ما كشف حجم الخرق الأمني والاستخباري الكبير في الدوائر الأمنية للنظام الإيراني".
ويوجد في إيران مجموعات مسلحة تستهدف نظام الملالي خلال السنوات الأخيرة في محافظة سيستان وبلوشستان المتاخمة لباكستان، وكذلك في مقاطعة الأهواز العربية المتاخمة للعراق.
وقد تلقت الشرطة الإيرانية أخيرا أعنف هجوم من قبل "جيش العدل" التنظيم الذي يحارب النظام منذ عقد من الزمن وينشط في إقليم سيستان بلوشستان وهي منطقة حدودية مع باكستان وأفغانستان.
وفي "عملية نوعية" تمكن أفراد ينتمون لـ"جيش العدل" من مهاجمة مركز "راسك" للشرطة في محافظة سيستان-بلوشستان في جنوب شرق إيران فجر 15 ديسمبر 2023، ما أدى لمقتل أكثر من 12 شرطيا إيرانيا وإصابة 7 آخرين.
وتعاني جميع القوميات غير الفارسية وأبرزها الأذرية والكردية والكردية البلوش والعربية من السياسات التمييزية في إيران، وكل تلك المجموعات لها أسبابها المختلفة لمعاداة نظام الملالي.
سيناريوهات مفتوحة
وبشكل عام، سلط هجوم كرمان الضوء مرة أخرى على ضعف إيران وفشل الحكومة في توفير الأمن. بينما تبدو قوات الأمن ماهرة في قمع الاحتجاجات المعيشية وملاحقة النشطاء.
إذ إن تنفيذ هذا الهجوم الجديد بهذا الزخم في إيران، يفترض أن تكون مراسم الإجراءات الأمنية عالية الدقة والحيطة وخاصة أن المكان المستهدف يعد مربعا أمنيا ومحصنا، كما قال صالح حميد الباحث في الشأن الإيراني.
وأضاف في تصريح تلفزيوني في 3 ديسمبر أن "إحياء ذكرى اغتيال سليماني يحضره كل عام قادة الحرس الثوري الإيراني، وقادة الملشيات الموالية لإيران الذين يدعون بشكل رسمي لحضور الذكرى".
ومضى حميد يقول: "إن اختراق المربع الأمني ليس عملا سهلا ولا بد من أن تكون خلفه جهة قوية لتقوم بمثل هذا التفجير".
ولفت إلى أن "هناك فرضيات في هذا السياق تتهم أجهزة أمنية داخل النظام وخاصة أن شخصيات إيرانية اتهمت السلطة بوجود اختراقات في أعلى مستويات أجهزة الأمن ولا سيما أنه جرى استهداف موقع نطنز النووي عام 2021 وغيره".
وفي 17 إبريل/ نيسان 2021 بث التلفزيون الحكومي في إيران، صورة لرجل قال إنه كان وراء الهجوم الأخير على منشأة نطنز النووية.
ونقلت وكالة الأنباء الرسمية عن وزارة الاستخبارات والأمن الوطني، قولها إن الرجل يدعى "رضا كريمي"، وكان ضمن الفريق العامل في المنشأة النووية، وغادر البلاد قبل أيام من الهجوم.
ورغم ذلك، فقد اتهم إيرانيون على وسائل التواصل الاجتماعي بأن "الهجوم نظمته إيران نفسها في محاولة لتعزيز سياساتها الداخلية والخارجية".
وأشار هؤلاء إلى غياب أفراد عائلة قاسم سليماني ومسؤولين سياسيين وعسكريين رفيعي المستوى في كرمان خلال الهجوم مما يشير إلى تواطؤ النظام.
وقد كتبت المعارضة الإيرانية مسيح علي نجاد، في 3 ديسمبر 2023 على موقع "إكس" متسائلة: "لماذا غاب أبناء قاسم سليماني عن جنازة والدهم؟… وبينما يلوم النظام إسرائيل وأميركا، يحمل الإيرانيون قادة النظام الإسلامي المسؤولية عن هذا الهجوم المميت".
وهنا يرى نبيل العتوم مدير مركز دراسات الشرق الأوسط، أن الهجوم يعكس ثغرات داخل أجهزة الأمن الإيراني، وحالة التنافس والصراع بين مخابرات الحرس الثوري الإيراني ووزارة الاستخبارات الإيرانية وقد يكون النظام الإيراني أبقى الباب مواربا للقيام بمثل هذه العمليات لتحقيق عدد من المكاسب الداخلية في هذا التوقيت.
وأضاف في مقابلة تلفزيونية أن هناك انخفاضا في شعبية النظام الإيراني بشكل غير مسبوق بسبب سياسته وربما هذا سيدفع بمزيد من الالتفاف حول النظام الإيراني والدفع بالنخب المحسوبة على الحرس الثوري لخوض الانتخابات مجددا وتحقيق مكاسب في العملية السياسة بالبلاد.
فضلا عن "محاولة النظام الإيراني إرسال رسالة بأن إيران ماتزال هدفا للإرهاب وهذا سوف يعطي النظام ذريعة لممارسة مزيد من العنف وقمع المعارضين، إضافة إلى أن طهران تعمل على تسويق نفسها مجددا بأنها معنية بتحقيق شراكات إقليمية ودولية للقضاء على الإرهاب"، وفق العتوم.