"جهاز مستقبل مصر".. واجهة العسكر الجديدة لابتلاع اقتصاد الوطن

داود علي | 9 days ago

12

طباعة

مشاركة

تشهد مصر جولة جديدة من استمرار توغل الجيش وأذرعه الاقتصادية على مقدرات الدولة، وهذه المرة عبر السيطرة على بحيرة البردويل الواقعة في نطاق الساحل الشمالي لشبه جزيرة سيناء.

فقد تسبب قرار مجلس الوزراء في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بنقل تبعية بحيرة البردويل إلى جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة" التابع للعسكر، في جدل واسع على مختلف الأصعدة لأكثر من سبب.

منها أن دخول الجيش إلى تلك المنطقة يعني حرمان قطاع كبير من الصيادين والمستثمرين المحليين العاملين في البحيرة من مصدر رزقهم.

وقد أعلن المتحدث باسم رئاسة مجلس الوزراء، محمد الحمصانى، أن جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة" سيبدأ أعمال تنمية البحيرة على الفور.

وأشار إلى أن الهدف الرئيس من إسناد هذه المهمة للجهاز هو العمل على التنمية الاقتصادية للبحيرة. 

فما هو جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة؟ ومن يقوده؟ ولماذا استهدف الجهاز تلك البحيرة تحديدا؟ وما تداعيات تلك الخطوة على الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في البلاد؟ 

لماذا البردويل؟ 

تقع بحيرة البردويل ضمن النطاق الإداري لمدينة بئر العبد على الساحل الشمالي لشبه جزيرة سيناء.

وهي ثاني أكبر بحيرات مصر بعد “المنزلة”، بمساحة تقدر بنحو 165 ألف فدان، وطولها يصل إلى 130 كيلو مترا وتعد واحدة من أنقى البحيرات في العالم. 

كذلك تمتلك البردويل أهمية إستراتيجية واقتصادية كبيرة، حيث تشتهر بوفرة أنواع الأسماك القيمة، كالعائلة المرجانية والبوريات والقشريات مثل الجمبري والكابوريا، إضافة إلى الدنيس الذي يكتسب بها شهرة مميزة، والقاروص وموسى والوقار.

وهو ما يجعلها مصدرا مهما للأسماك في السوق المحلية والدولية، فالأنواع فائقة الجودة بالبحيرة تصدر إلى أوروبا، خاصة أن بها “بوغاز” بعرض 100 متر على البحر المتوسط.

كذلك تضم البحيرة محمية الزرانيق، في الجزء الشرقي منها على مسافة 30 كيلو مترا غرب العريش.

وتمثل هذه المنطقة تحديدا أحد المفاتيح الرئيسة لهجرة الطيور في العالم، ما يزيد من أهميتها كموقع فريد يربط بين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا.

وحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء للعام 2021، ارتفع الإنتاج السمكي من البحيرة من 2.6 ألف طن عام 2018 وبلغ اليوم 4.3 آلاف طن.

ويعمل في الصيد والمهن المرتبطة بها في البردويل قرابة أربعة آلاف صياد تمثلهم ست جمعيات.

كذلك تزايد عدد مراكب الصيد من 1094 عام 2000 إلى أكثر من 1200 عام 2021، بحسب تقرير لوزارة الزراعة.

تلك المميزات الكبيرة للبردويل جعلتها في مرمى القوات المسلحة، التي توسعت إمبراطوريتها الاقتصادية بعد الانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي، في 3 يوليو/ تموز 2013.

التأثير على الصيادين

وفي 4 نوفمبر 2024، أجرى موقع "زاوية 3" المحلي، تحقيقا ميدانيا، عن مدى تأثير القرار على مجتمع الصيادين والعائلات في محيط البردويل.

ونقل الموقع عن الاقتصادي المصري، إلهامي الميرغني، أنه لم يسبق للجهاز العمل في تلك النوعية من المشروعات. ثم تساءل عن علاقة القوات الجوية التي ينتمي لها الجهاز بتنمية البحيرات.

ورأى أن إسناد عملية تطوير البحيرة للجهاز سابقة خطيرة، لكونه جهازا غير متخصص في هذا الشأن، في وقت تمتلك الدولة أجهزة متخصصة وقادرة على عمل أي تطوير في البحيرة.

كما علق سالم دواغرة من كبار صيادي البردويل- على القرار، بأنه سيضر آلاف الصيادين ويصادر أرزاقهم.

وعلل ذلك بأن مصدرا عسكريا مسؤولا بالجهاز، أبلغهم ضمن إجراءات العمل الجديدة شفاهية منع صيد الأسماك التي يزيد حجم الواحدة منها عن 350 جراما، مؤكدا أن تلك الأحجام الصغيرة نادرة، وتكاد تكون غير متوفرة بالبحيرة.

وأكمل "رغم امتلاكي مركبين، إلا أنه بعد تطبيق القرار لم أتمكن إلا من صيد سمكة واحدة بالاشتراطات الجديدة، لذلك خرجت من البحيرة، وكذلك فعل مئات الصيادين، الذين توقفت أرزاقهم". 

جهاز مستقبل مصر

ويأتي السؤال الذي يطرح نفسه، عمن كان يملك إدارة بحيرة البردويل؟ وما هو جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة الذي انتقلت له إدارتها؟

وتخضع البحيرات المصرية عموما لإشراف جهاز حماية البحيرات وتنمية الثروة السمكية الذي أنشئ بنص القانون رقم 146 لسنة 2021 كهيئة عامة اقتصادية تتبع رئيس الوزراء.

ويعد هذا الجهاز كيانا مطورا وأوسع اختصاصا من الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية التي كانت تتبع وزارة الزراعة منذ إنشائها عام 1983.

وقد جرى تشكيل مجلس إدارة للجهاز برئاسة صلاح الدين مصيلحي، واختيار اللواء الحسين فرحات مديرا تنفيذيا للجهاز، الذي كانت البردويل تابعة له. 

بعد ذلك، انتقلت البحيرة بقرار مجلس الوزراء إلى جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة". 

وظهر اسم الجهاز للمرة الأولى في مايو/أيار 2022، عندما أصدر السيسي قرارا رقم 591، بإنشائه كمؤسسة تابعة للقوات الجوية وتعمل تحت إشرافها.

وفي الفترة التالية برز اسم العقيد بهاء الغنام الذي تولى منصب المدير التنفيذي للجهاز، وهو رجل عسكري ينتمي للقوات الجوية وأحد الضباط المقربين بشدة من السيسي، وبرز دوره في الفترة الأخيرة في اللقاءات والاجتماعات العامة والخاصة.

وقد ظهر لأول مرة للرأي العام عام 2017، عندما عهد إليه بالعرض التقديمي المطول عن مشروع مستقبل مصر للزراعة المستدامة، بحضور السيسي.

وكان لافتا وقتها أن من يقدم المشروع ليس وزير الزراعة ولا وزير الموارد المائية والري ولا وزير التموين، ولا رئيس الوزراء، وإنما قدمه ضابط طيار يدعى بهاء الغنام، كان يشغل رتبة "مقدم" حينها، ثم ترقى ليصبح "عقيدا".

وشغل الغنام في ذلك الوقت بصفة رسمية منصب "المدير العام المسؤول عن مشروع مستقبل مصر". وكان يظهر مرتديا زيه العسكري الدال على طياري سلاح الجو، خلال جميع اللقاءات التي جمعته بالسيسي.

وأصبح حينها مشرفا على مشروعات زراعية عملاقة لصالح الجيش والقوات الجوية تحديدا، مثل مشروعات الصُّوب الزراعية في المنيا وبني سويف والفيوم.

توسع الجهاز

وبدأ نشاط الجهاز تحت إشراف القوات الجوية المصرية بغرض المساهمة في مشاريع استصلاح الأراضي الجديدة بالصحراء الغربية والصحراء الشرقية شمال وجنوب مصر، وذلك رغم وجود كيانات حكومية أخرى تعمل في ذات المجال، منها وزارة الزراعة.

وبحسب صفحة الجهاز على موقع " لينكد إن" فإن من أهدافه الرئيسة توفير منتجات زراعية للمواطنين وسد الفجوة في السوق المحلية ما بين الإنتاج والاستيراد.

وأصبح للجهاز مشروعات بارزة في السوق المصري، منها مشروع الدلتا الجديدة، ويتخصص في استصلاح أراضٍ بالصحراء الغربية بمساحة مستهدفة 2.2 مليون فدان، وتمتد في نطاق 4 محافظات هي الجيزة ومطروح والبحيرة والفيوم.

كذلك مشروع "سنابل سونو" لاستصلاح الأراضي بالصحراء الغربية جنوب مصر (شرق وغرب الطريق الصحراوي الغربي)، باستخدام المياه الجوفية بمساحة 650 ألف فدان.

ومشروع المنيا وبني سويف، لاستصلاح مساحة حوالي 62 ألف فدان، ومشروع قطاع السادات، لاستصلاح مساحة حوالي 41 ألف فدان.

كما يمتلك الجهاز مشروع الداخلة العوينات، لاستصلاح أراضٍ جديدة بالصحراء الغربية، بمساحة 660 ألف فدان.

ويشرف على مشروع الكفرة، لاستصلاح أراضٍ بالصحراء الغربية، بمساحة 600 ألف فدان، ومشروع سيناء لاستصلاح أراضٍ بالصحراء الشرقية، بمساحة 450 ألف فدان.

إضافة إلى امتلاكه مشروع الصوب الزراعية بمحور الضبعة، بمساحة حوالي 4500 فدان، مع مشروع الصوب الزراعية بمنطقة اللاهون بمحافظة الفيوم، بمساحة حوالي 12 ألف فدان، وذلك لزارعة محاصيل الخضراوات ونباتات طبية وعطرية وزراعات الفاكهة وزهور القطف.

كما يستحوذ الجهاز على نصيب كبير من قرارات السيسي الخاصة بمنح أراضٍ للقوات المسلحة، وأجهزتها النافذة.

ففي 9 أكتوبر 2024، وافق مجلس الوزراء على تخصيص قطعتي أرض بمساحة 46.7 ألف فدان، والثانية بمساحة 714.19 فدان، بمحافظة شمال سيناء لصالح الجهاز، لاستخدامهما في أنشطة الاستصلاح والاستزراع.

وفي 18 سبتمبر/ أيلول 2024، نشرت الجريدة الرسمية قرارين للسيسي بتخصيص مساحة 138 فدانا و3580 فدانا من الأراضى المملوكة للدولة ملكية خاصة ناحية محافظة البحيرة لصالح جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة.

وفي 22 يوليو 2024، أصدر السيسي قرارا بتخصيص 173 ألف فدان للجهاز ناحية محافظات بني سويف والمنيا وأسوان.

كما خصص السيسي للجهاز في 17 أبريل من نفس العام، جزءا من المساحات المملوكة للدولة ملكية خاصة ناحية شبه جزيرة سيناء.

أكذوبة تخارج الجيش 

ورأى الباحث السياسي المصري محمد ماهر، أن وجود "جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة" بهذا الشكل في الاقتصاد، يؤكد أكذوبة تخارج الجيش وتقليل نفوذه. 

ورأى ماهر في حديث لـ"الاستقلال" أن قرار نقل تبعية البحيرة للجهاز غير مفهوم، خاصة مع غياب معلومات عن كيفية التطوير، والمقومات التي تمتلكها القوات الجوية للقيام بتلك المهمة. 

فهي مؤسسة عسكرية غير متخصصة، ليس لديها كوادر مدربة ولها معدات، وحتى ذلك الجهاز الاقتصادي المستجد عمره لا يتجاوز عامين، وبالتالي لا يمتلك سابق خبرة في إدارة البحيرات أو تطويرها.

وأردف ماهر: "لو أعطيت إدارة البحيرات للقوات البحرية، لكان مفهوما في سياق الأمن القومي، كونها منطقة بحرية، وكَعِلَّةٍ تستخدم دائما عندما يريد الجيش الاستحواذ على أراضٍ أو مناطق بعينها".

وكانت صحفية "فايننشال تايمز" البريطانية، قد نشرت تقريرا في 11 يناير/ كانون الثاني 2023، قالت فيه إن “مصر التزمت بتقليص دور الجيش في الاقتصاد كجزء من حزمة الإنقاذ التي قدمها صندوق النقد الدولي”.

ويأتي ذلك في الوقت الذي تكافح فيه مصر لمواجهة أزمة نقص العملة الأجنبية، وضعف الجنيه، وارتفاع معدلات التضخم.

وذكرت الصحيفة أن “اقتصاديين ورجال أعمال مصريين اشتكوا من أن دور الجيش في الاقتصاد يزاحم القطاع الخاص ويخيف المستثمرين الأجانب”.