"عام على الطوفان".. لماذا تفتح إسرائيل جبهة عسكرية بالضفة الغربية؟
استشهد 18 فلسطينيا في غارة استهدفت مقهى شعبيا بمخيم طولكرم
مع مرور عام على العدوان الإسرائيلي في غزة، يخوض جيش الاحتلال حربا خفية أخرى تزداد ضراوتها شيئا فشيئا بالضفة الغربية المحتلة.
فرغم انشغاله بالقتال في غزة ولبنان، والتهديدات المتواصلة بينه وبين إيران، صعّد الاحتلال عدوانه العسكري بالضفة بشكل غير مسبوق.
حرب خفية
كان من آخر مشاهد التصعيد، شن مقاتلة إسرائيلية في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2024، غارة هي الأولى من نوعها بالضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية عام 2000.
واستشهد 18 فلسطينيا وأصيب آخرون، في الغارة التي استهدفت مقهى شعبيا في مخيم طولكرم شمال الضفة، وكان من بينهم عائلة كاملة مكونة من 4 أفراد.
وقبل 7 أكتوبر 2023 تاريخ تنفيذ عملية طوفان الأقصى، تعرض مخيم طولكرم لقصف إسرائيلي بطائرات مسيرة وعمليات عسكرية مصحوبة بجرافات.
لكن ذلك لم يتوقف، فبعد العملية، دمر جيش الاحتلال شوارع المخيم وبنيته التحتية، وخلف دمارا كبيرا في مئات المنازل التي باتت غير صالحة للسكن.
وبموازاة إبادة يرتكبها بغزة منذ 7 أكتوبر، صعّد جيش الاحتلال عملياته فيما ضاعف المستوطنون اعتداءاتهم بالضفة الغربية بما فيها شرق القدس.
وهو ما أدى حتى الآن إلى استشهاد أكثر من 740 فلسطينيا، بينهم 160 طفلا، وإصابة ما يزيد على 6250 واعتقال حوالي 11 ألفا، وفق مصادر رسمية.
وقالت وكالة الأنباء الفلسطينية وفا في 6 أكتوبر 2024: “لم يكن جيش الاحتلال وحده من ينفذ عمليات القتل، فالمستعمرون الذين يمثّلون ذراع بطش إسرائيلية لا تنالها المساءلة، شاركوا بدورهم في ارتكاب جرائم إرهابية أراقت دماء عشرات المواطنين".
وخلال الفترة بين 7 أكتوبر 2023، و30 سبتمبر/أيلول 2024، رصدت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان (حكومية) أكثر من 2700 اعتداء نفذها المستعمرون.
تراوحت الاعتداءات بين القتل والضرب وإطلاق النار، وإقامة البؤر والاستيلاء على المباني وتجريف الأراضي، والاعتداء على الممتلكات بالتكسير والحرق، وقص الأشجار وتخريب المزروعات وسرقة المواشي والمعدات وكتابة الشعارات العنصرية.
وتضمنت تلك الاعتداءات إقدام المستعمرين على إقامة 29 بؤرة استيطانية، معظمها بطابع رعوي زراعي، فيما تمكن الإرهاب الذي مارسوه من تهجير سكان 28 تجمعا بدويا في الضفة الغربية المحتلة، وفق الهيئة.
وإضافة إلى ذلك، سُجلت قرابة 13 ألف عملية اقتحام في الضفة الغربية وشرق القدس منذ 7 أكتوبر، بحسب “وفا”.
ومع الانشغال الدولي بغزة، بات ما يجرى في الضفة أشبه بحرب خفية لا تلقى اهتماما كبيرا ولا تغطية إعلامية منصفة.
إذ يعمل الاحتلال على تحويل الضفة إلى غزة جديدة عبر تصعيد القصف والاقتحامات وملاحقة المقاومة وتدمير البنية التحتية، مع إطلاق يد المستوطنين وتسليحهم لالتهام المزيد من الأراضي هناك.
وتفيد إحصائيات منسوبة لوزارة جيش الاحتلال، بأن المستعمرين حصلوا على 130 ألف تصريح لحمل السلاح، من أصل 320 ألف طلب قُدمت لذلك بعد 7 أكتوبر 2023.
ومن شواهد التصعيد في الضفة بعد 7 أكتوبر، إطباق الحصار على العديد من المدن والقرى الفلسطينية والإمعان في عزلها عن بعضها وتكثيف الحواجز الدائمة والمؤقتة.
فقد أحكمت إسرائيل بعد طوفان الأقصى، عملية التنقل بين المحافظات وزادت من التحكم بالحركة والتنقل وقطعت أوصالها.
قصف بالطيران
وكان من أبرز شواهد تحويل الضفة الغربية إلى غزة جديدة، إدخال جيش الاحتلال سلاح الطيران في عملياته ضد المقاومين.
وهو أمر لم يكن معهودا منذ سنوات بفعل انتشار الحواجز العسكرية وسهولة تنفيذ الاقتحامات والاغتيالات، مقارنة بقطاع غزة الذي انسحبت منه قوات الاحتلال بشكل كامل عام 2005.
فعلى سبيل المثال، اغتال الاحتلال فلسطينييْن بعد قصف مركبتهما المدنية عبر طائرة مسيرة وسط مدينة جنين شمال الضفة.
وكثفت قوات الاحتلال استخدام الطيران الحربي والمسير في قصف منازل وارتكاب جرائم اغتيال في الضفة خلال الأشهر الأخيرة ما أدى إلى ارتقاء العديد من الشهداء.
وشن جيش الاحتلال في 18 مايو/ أيار 2024، غارة جوية على منزل في مخيم جنين شمال الضفة، أسفرت عن استشهاد إسلام خمايسة القيادي في كتيبة جنين التابعة لـ"سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي وإصابة 8 آخرين.
وقالت صحيفة يديعوت أحرونوت إن الغارة الجوية الإسرائيلية “غير اعتيادية”، في إشارة إلى أن هذا النوع من الاغتيالات نادر الحدوث منذ سنوات.
ومنذ 7 أكتوبر، نفذ جيش الاحتلال عدة غارات أخرى بالطائرات المروحية والمسيرة استهدفت سيارات لمقاومين ومساجد ومنازل.
وتشير إحصائيات لمركز "معطى" المحلي إلى أن جيش الاحتلال شن أكثر من 110 هجمات من الجو في محافظات الضفة الغربية، منذ 7 أكتوبر.
هذه الغارات التي كان بعضها باستخدام الطائرات الحربية، خلفت 188 شهيدا، بينهم 32 طفلا و4 نساء، حسب "مرصد شيرين أبو عاقلة" للتوثيق.
واستهدفت عمليات القصف الجوي بشكل أساسي، مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس وبلاطة ووادي برقين.
وسبق ذلك إعلان جيش الاحتلال في 21 يونيو/حزيران 2023، اغتيال خلية مقاومة بعد قصف مركبة بواسطة طائرة مسيرة شمال جنين.
وكانت هذه هي المرة الأولى منذ عام 2006 التي يستخدم فيها الاحتلال الطائرات لتنفيذ هذا النوع من العمليات، فيما يؤشر لواقع جديد.
وقبل هذه التطورات، كانت آخر عملية اغتيال بطائرة مروحية من نوع “أباتشي” نفذها الاحتلال في صباح 9 أغسطس/آب 2006 عبر إطلاق 3 صواريخ على منزل كان يوجد فيه المقاومان من سرايا القدس أمجد عجمي ومحمد عتيق، ما أدى إلى استشهادهما.
وسبق ذلك تنفيذ الاحتلال عدة عمليات اغتيال بالطائرات خلال فترة الانتفاضة الثانية (2000 - 2005).
مستقبل متغير
وعادت الاغتيالات بالطائرات في الضفة بعد أن انتشر خلال السنوات القليلة الأخيرة، العديد من المجموعات العسكرية التابعة لحركتي المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى.
وتنفذ مجموعات تلك الفصائل بين حين وآخر عمليات تفجير عبوات وإطلاق نار تجاه قوات الاحتلال ومستوطناته.
وهو ما صعب من تنفيذ اقتحامات واسعة في المناطق الأكثر خطرا على قوات الاحتلال مثل مخيمات اللاجئين ودفعها لاستخدام سلاح الطيران بديلا.
وشكل نمو المقاومة في شمال الضفة الغربية المحتلة ومنها على سبيل المثال، ظهور كتيبة جنين وعرين الأسود منذ عام 2021، سببا مباشرا لإطلاق إستراتيجية “جز العشب” الإسرائيلية، والتي سبق أن استخدمت مع المقاومة في غزة وفشلت.
وتقوم هذه الإستراتيجية على استنزاف المقاومة ومنعها من التقاط أنفاسها من خلال عمليات عسكرية متكررة.
إذ تشير التقديرات الأمنية في إسرائيل إلى أن المقاومة هناك قد تتمكن من امتلاك صواريخ متطورة خلال سنوات معدودة.
وفي مقابل ذلك، لا يتوقف العدوان الإسرائيلي على المخيمات لقتل أي فرصة لتطوير القدرات العسكرية في مهدها.
ويقول الكاتب الفلسطيني علي حبيب الله إن استهداف مركبة تُقل فلسطينيين بواسطة سلاح جوي غير مأهول، يُنذر بالشكل الذي سيكون عليه شكل الاحتلال في الضفة الغربية مستقبلا.
وأوضح في مقال نشره موقع “عرب 48” المحلي في 23 يونيو/حزيران 2023: “يبيّن لنا هذا التطور اللئيم شكل تطور مقاومة الاحتلال في شمال الضفة الغربية وتحديدًا في نابلس وجنين رغم محدودية إمكانياتها وتواضعها، خصوصًا، مع مواجهة المقاومين لاجتياحات الجيش”.
وأعلن جيش الاحتلال في 28 سبتمبر 2024، أنه قرر الدفع بثلاث كتائب احتياط في الضفة الغربية لتنفيذ مهام "عملياتية" وتحقيق أهداف "دفاعية"، استنادا لتقييم أمني أجرته ما تسمى بقيادة منطقة المركز في الجيش.
وسبق ذلك بشهر أن صنف الاحتلال الضفة الغربية "ساحة قتال ثانية" بعد قطاع غزة، عقب إطلاقه أوسع عدوان على المدن والبلدات والمخيمات، منذ ما اصطلح على تسميتها إسرائيليا بعملية “السور الواقي” عام 2002، والتي شهدت اجتياحا بريا للمحافظات الشمالية كافة.
وقالت صحيفة "إسرائيل اليوم" مطلع سبتمبر، إن "الأحداث الأخيرة أدت إلى تحول سياسي كبير في نهج إسرائيل تجاه الضفة، فبعد أن تم تصنيفها منذ بداية الحرب بعدها ساحة ثانوية، فإن الهجمات الأخيرة أقنعت كبار المسؤولين بأن هذا الموقف لم يعد قابلاً للاستمرار".
ونقلت عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين، لم تسمهم، أن عملية “المخيمات الصيفية” شمال الضفة (بدأت أواخر أغسطس/آب) ليست سوى البداية، وتعد الأكثر شمولاً التي تنفذها قوات الجيش منذ السور الواقي عام 2002".
واقتحم الاحتلال فجر الثامن والعشرين من أغسطس بهجوم متزامن محافظات جنين وطولكرم وطوباس ونابلس ومخيماتها وعددا من بلداتها، بمشاركة قوات نخبة وألوية مشاة ووحدات مظليين ومستعربين ومروحيات مقاتلة ومسيّرات وآليات مدرعة وجرافات.
ورغم أن جيش الاحتلال أنهى بعد 10 أيام تواجد قواته المكثف داخل المناطق التي شملها عدوانه، مخلفا أكثر من 50 شهيدا وعشرات الجرحى، إلا أنه لم يعلن نهايتها وأبقى الباب مفتوحا على مزيد من الجرائم.
ما الأسباب؟
وأوضح الكاتب علي حبيب الله أنه “في السياق العملياتي أولًا، يمكننا قراءة تحول الاحتلال القذر نحو الاستهداف عبر السماء في مناطق شمالي الضفة الغربية، إذ بات الاشتباك المباشر من على الأرض مكلفا بالنسبة له”.
وتابع: حسب تقارير عسكرية وأمنية نشرتها صحف ومواقع إعلام إسرائيلية نقلا عن قيادات في جيش الاحتلال، لم يعد ممكنا فرض قوة الردع والاستقرار في شمالي الضفة عبر الاجتياحات المباشرة على الأرض فقط، مما بات يتطلب اللجوء إلى السماء أيضا”.
ورأى أن “سياسة الاحتلال باتت واضحة بكل ما يعنيه الأمر من وضوح، استيطان وتهويد سينال كل شبر أرض في الضفة الغربية، وعدوانية عسكرية متعطشة للدماء حتى لو استدعى الأمر اللجوء للسماء”.
وبدوه، يقول المحلل السياسي إبراهيم المدهون إن أطماع الاحتلال متركزة أكثر بالضفة الغربية، فهو لديه خطة ضم وتهجير معلنة وكان يعد لها.
وتابع في حديث لـ"الاستقلال": “ربما تكون 7 أكتوبر عملية استباقية من أجل خلط أوراق الاحتلال الذي كان ينوي الضم وأعلن واتخذ خطوات عملية لتهجير أهل الضفة وكان ينتظر الإدارة الأميركية الجديدة لتنفيذ مخططه”.
ولفت إلى أن ما يجرى هي سياسة عدوانية تعود إلى ما قبل 7 أكتوبر لكن وتيرتها ازدادت بعد ذلك خصوصا أن الاحتلال كسر القواعد والمعادلات التي كانت تحكم المشهد ويبادر اليوم لشن حرب على كل الساحات.
وذكر هنا أن الاحتلال أجرى خلال عام 2022 مناورة كبرى أطلق عليها اسم “عربات النار”، كانت تهدف إلى القتال على عدة جبهات، ومن بينها الضفة الغربية التي يركز عليها ويحاول التصعيد فيها مستغلا الظروف في غزة.
وأشار إلى أن الاحتلال لا يأبه بالسلطة الفلسطينية التي كان يعتمد عليها أمنيا، وبات اليوم يستغل الفرصة لتنفيذ أكبر عمليات اعتقال واغتيال وتدمير تمهيدا لتوسيع عمليات التوحش وصولا إلى ضم الضفة وتهجير الشعب الفلسطيني منها.
وذكرت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أن دولة الاحتلال نفذت عمليات استيلاء ممنهجة للأرض الفلسطينية في العام 2023، طالت 52 ألف دونم من أراضي الفلسطينيين.
كما درست جهاتها التخطيطية بعد 7 أكتوبر، ما مجموعه 182 مخططا هيكليا لغرض بناء ما مجموعه 23267 وحدة استعمارية على مساحة 14 ألف دونم جرت عملية المصادقة على 6300 وحدة منها، في حين تم إيداع 17 ألف وحدة استعمارية جديدة.
وكشف تقرير حديث للاتحاد الأوروبي أن إسرائيل بنت 30 ألفا و680 وحدة استيطانية بالضفة الغربية وشرق القدس، منذ تولي بنيامين نتنياهو قيادة الحكومة الحالية.
إضافة إلى ذلك، هدمت إسرائيل بين 7 أكتوبر 2023 و30 سبتمبر 2024، نحو 1768 منشأة فلسطينية أو استولت عليها أو أجبرت أصحابها على هدمها بالضفة وشرق القدس، ما أدى إلى تهجير أكثر من 4555 مواطنا، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية "أوتشا".
ويستبعد المدهون أن يكون كل ذلك مجرد رد فعل على عملية 7 أكتوبر لأن مخططات الاحتلال بضم أراضي الضفة، كانت معلنة قبل “طوفان الأقصى”.
ويتفق مع ذات الرأي، رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان مؤيد شعبان، قائلا إن مجمل السياسات والإجراءات الاستعمارية التي تنتهجها دولة الاحتلال هي محض خطوات مخطط لها مسبقا.
وفي تصريح نقلته وكالة الأنباء الفلسطينية في 6 أكتوبر، أكد أنه “جرى التستر بستار الحرب وبالحالة الأمنية من أجل تنفيذ السياسات وحسمها، من خلال حاضنة تشريعية يتم إنجازها للمشروع الاستعماري، وتظهر نية الاحتلال الحقيقية بقتل إمكانية قيام دولة فلسطينية في المستقبل”.
ومن جملة القرارات والقوانين التي تخدم هدف إسرائيل الإستراتيجي آنف الذكر، مصادقة الهيئة العامة لـ"الكنيست" (البرلمان الإسرائيلي) بالقراءة التمهيدية في مايو 2024 على مشروع قانون ينص على "ضم أراض في الضفة الغربية إلى إسرائيل، وعدّ منطقة جنوب الخليل جزءا من النقب".
وكذلك المصادقة في يوليو/تموز من نفس العام، على قرار يرفض "قيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن، بعدّها خطرا وجوديا على إسرائيل ويؤدي إلى تمديد النزاع وزعزعة استقرار المنطقة".