حجاب الطالبات في قبرص التركية.. أزمة قانونية عابرة أم صراع على الهوية؟

التمييز ضد المحجبات في مدارس شمال قبرص أعاد إلى الذاكرة مرحلة مظلمة من تاريخها
أعاد قرار المحكمة العليا في شمال قبرص التركية يوم 25 سبتمبر/أيلول 2025، والقاضي بإلغاء قانون السماح بارتداء الحجاب في المدارس العامة، الجدل مجددا إلى الواجهة.
فالخطوة تعيد إلى الأذهان سنوات طويلة من الحظر الذي عاشته تركيا وقبرص التركية معًا، حين رُفعت شعارات "العلمانية" والاتكاء على الإرث الأتاتوركي لتبرير قمع الفتيات والنساء المحجبات.
والمفارقة أن تركيا نفسها تجاوزت هذه المرحلة منذ عقدين، بعدما فتحت جامعاتها ومؤسساتها أمام المحجبات، بينما تسعى اليوم نقابة معلمي التعليم الثانوي في قبرص التركية (كتيوس) لإعادة إنتاج الماضي، متجاهلة التحولات السياسية والاجتماعية التي فرضها الواقع.
فلماذا يصر البعض على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في مجتمع صغير مثل شمال قبرص التركية، في وقت تدفع فيه تركيا نحو تعزيز الحريات الدينية بصفتها جزءا من الهوية الوطنية؟
وهل الأمر مجرد صراع على الزي المدرسي، أم هناك معركة هوية تفرض فيها الوصاية الأيديولوجية على الأجيال الجديدة؟
هذه الأسئلة أصبحت ملحة مع تدخل شخصيات سياسية مؤثرة على رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي حذر من المساس بحجاب الطالبات في جمهورية شمال قبرص التركية.
حكم صادم
وعلى وقع ما أصدرته المحكمة العليا في شمال قبرص من حكم يقضي بإلغاء القانون، عادة إياه غير دستوري، مستجيبة للدعوى التي رفعتها نقابة معلمي التعليم الثانوي (كتيوس) المناهضة لحجاب الطالبات، فقد أعادت الوضع القانوني إلى ما قبل 9 أبريل/ نيسان 2025.
إذ كانت تمنع الفتيات من ارتداء الحجاب والرموز الدينية داخل المدارس الحكومية، قبل أن يصدر قرار من قبل مجلس الوزراء بقيادة رئيس وزراء قبرص الشمالية أونال أوستل يسمح لهن بالدخول إلى المدارس وأداء الامتحانات بالحجاب.
وهي الخطوة التي باركها أولياء الأمور، قبل أن يتسبب إلغاؤها في موجة غضب واستياء عارم بين قطاعات واسعة من المجتمع القبرصي المسلم.
وباركت زعيمة نقابة معلمي التعليم الثانوي، سلمى إيليم، القرار ولم تخف فرحتها به، إذ شكرت المحكمة على ما زعمت أنه حماية للفتيات، على حد وصفها.
ووجهت تحية للمعلمين وأنصارهم الذين تظاهروا بالآلاف ضد قرار الحكومة الذي سمح للطالبات بالحجاب منذ الربيع الماضي، خاصة وأن النقابة هي التي صدرت نفسها في هذه المعركة.
وكشفت كلمات إيليم وموقف “كتيوس” عن محاولة التيار العلماني المتشدد في قبرص التركية فرض وصاية على المجتمع، عبر إحياء النموذج القديم الذي تجاوزته تركيا ذاتها قبل سنوات حين رفعت الحظر عن الحجاب في الجامعات والمدارس وأماكن العمل الحكومية.
فيما ذهب ممثل النقابة المحامي أونسيل بوليلي إلى أبعد من ذلك حين اتهم الائتلاف الحاكم ورئاسة الوزراء بعدم الاعتراف بدستور الجمهورية، مقدرا أن ما جرى بإقرار الحجاب للطالبات سابقا، يمثل محاولة لـ "قلب النظام الدستوري".
المفارقة أن النقابة التي ترفع شعار الدفاع عن الدستور، تتعامل مع الحريات الدينية بوصفها تهديدا لاحقا أصيلا.

احتجاجات متنوعة
ولم تصدر الحكومة موقفا بشأن الأزمة، لكن جاءت أشد ردود الفعل الرسمية المعترضة على قرار المحكمة، من وزير الأشغال العامة والنقل، إرهان اريكلي، الذي وجه انتقادا لاذعا.
وقال اريكلي: “إن السماح بارتداء الحجاب في جنوب قبرص ذي الأغلبية المسيحية، مقابل حظره في شمال الجزيرة المسلم، أمر غير منطقي ولا يمكن قبوله”.
وقد وصف الوضع بالتناقض الصارخ الذي يثير تساؤلات حول معايير العدالة والمساواة. وتابع في كلمة لوسائل الإعلام المحلية: “هل يعقل أن يكون مثل هذا الهراء؟! نحاول تفسير ذلك”.
لكن القضية لم تقتصر على أروقة المحاكم والمؤسسات الرسمية، بل امتدت إلى الشارع والصفوف الدراسية.
فمنذ مطلع العام 2025، خرج آلاف القبارصة الأتراك في نيقوسيا ومدن أخرى في ثلاث مناسبات كبرى، بالإضافة إلى احتجاجات صغيرة متفرقة، بسبب منع الطالبات من الدخول إلى المدارس والامتحانات بالحجاب.
المدارس نفسها تحولت إلى ساحات مواجهة، مثل مدرسة "بيكيرباشا" الثانوية في تريكومو، حيث وصلت مطلع أبريل/ نيسان 2025 فتاة مرتدية عباءة سوداء وصبي يرتدي طاقية صغيرة، ليتم منعهما من دخول الصفوف.
بينما دخل المعلمون في إضراب جزئي، ما أدى إلى تعطيل الامتحانات وإغلاق المدرسة مؤقتا.
وزارة التعليم بدورها صعدت الموقف، وفتحت تحقيقات بحق المعلمين الذين رفضوا تدريس الطلاب بالحجاب، في مشهد يعكس التناقض الصارخ بين حقوق الإنسان المعلنة وبين الممارسات على الأرض.

قانون الحجاب
وبالعودة إلى تفاصيل القانون الذي نقضته المحكمة ضمن معركة الحجاب والهوية الدائرة، فإنه في 9 أبريل 2025، أقر مجلس الوزراء في جمهورية شمال قبرص التركية تعديلات على اللائحة التأديبية الخاصة بالزي المدرسي في المدارس الثانوية.
وقد سمحت التعديلات للطالبات بارتداء الحجاب داخل الصفوف الدراسية، في خطوة عدت تاريخية من قبل أنصار الحرية الدينية، لكنها في الوقت ذاته فجرت غضب التيارات العلمانية في الجزيرة.
ردود الفعل لم تتأخر، إذ خرجت تصريحات ومواقف وصفت القرار بأنه تراجع عن مبادئ العلمانية، بل وصل الأمر إلى حد اتهام تركيا، التي دعمت الخطوة، بأنها قوة احتلال تسعى لفرض أجندتها الدينية على شمال قبرص، وهو تصريح صدر عن نقيبة معلمي الثانوي سلمى إيليم.
صحيفة "ستار" التركية نشرت مقالا في 7 مايو/أيار 2025، للكاتب أنجين أوزيكينجي، انتقد فيه ما عده خطابات مثيرة للجدل في قبرص التركية، تتبنى معاداة الحجاب وتصور تركيا كقوة غريبة عن الجزيرة.
ورأى أوزيكينجي أن هذه الأصوات لا تمثل التيار العام بين القبارصة الأتراك، وإنما جماعات هامشية مرتبطة بأجندات خارجية تستهدف تشويه الوجود التركي.
هذه الحملة، بحسب الكاتب، لا تقتصر على تشويه الوقائع التاريخية، بل تتجاوزها إلى محاولة ضرب شرعية الدور التركي في المنطقة.
خاصة أن تركيا تدخلت عسكريا في قبرص عام 1974 ضمن عملية "السلام" لحماية القبارصة الأتراك من تهديدات التطهير العرقي، مستندة إلى اتفاقيتي زيورخ ولندن كدولة ضامنة.

أبعد من الحجاب
اللافت أن هذه الخطابات ظهرت في توقيت تشهد فيه العلاقات بين أنقرة ونيقوسيا التركية زخما متزايدا، سواء من خلال الاستثمارات التركية أو الإستراتيجيات الإقليمية لحماية مصالح تركيا في شرق المتوسط.
وكان الرئيس أردوغان حاسما في رده على هذه الحملات ضد الحجاب والهوية الدينية، والنيل من التقارب بين الإدارتين في تركيا وقبرص الشمالية، خلال وجوده في الأخيرة في 3 مايو 2025، عندما شارك في مهرجان “تكنوفست” للتكنولوجيا والدفاع والطيران.
إذ أكد أن "رغم اختلاف أسمائنا، إلا أن لقبنا واحد حين يتعلق الأمر بقضية قبرص، وهو قبرص التركية".
وأضاف بلهجة حاسمة أن "من يحاولون إفساد أخوتنا وزرع بذور الكراهية لن ينجحوا"، مشددا على أن أنقرة ستواصل دعمها الثابت للقبارصة الأتراك.
ولم يقتصر موقف أردوغان على الدفاع عن الوجود التركي، بل امتد إلى قضية الحجاب نفسها، عندما قال محذرا: "من يحاول مضايقة فتياتنا بسبب الحجاب في شمال قبرص، سيجدنا أمامه".
وهو تصريح يؤكد أن أنقرة تنظر إلى المسألة بصفتها معركة هوية لا تقل أهمية عن معارك الجغرافيا والسيادة.
لكن التمييز ضد المحجبات في مدارس شمال قبرص أعاد إلى الذاكرة التركية مرحلة مظلمة من تاريخها القريب.
وتحديدا فترة 28 فبراير/ شباط 1997، حين فرضت قيود مشددة على المحجبات، منعن خلالها من دخول الجامعات، وانتشرت آنذاك ما عرف بـ"غرف الإقناع"، التي مارست ضغوطا نفسية على الطالبات لخلع الحجاب.
واليوم، حين يمنع دخول طالبة إلى مدرسة في نيقوسيا أو تريكومو، فإن المشهد يبدو كنسخة معادة من الماضي، رغم أن تركيا تجاوزت هذه الحقبة منذ سنوات وفتحت المجال أمام الحرية الدينية.
وبحسب تقرير صحيفة "هابر لار" التركية في 17 مارس/ آذار 2025، فإن قضية الحجاب في شمال قبرص لم تعد شأنا داخليا صرفا، بل ارتبطت بالمشروع التركي الأوسع الذي يصفه أردوغان بـ"تركيا الكبرى والقوية".
فأنقرة ترى في قبرص الشمالية شريكا لا غنى عنه في معادلة التوازن الإقليمي، سواء من زاوية الطاقة، أو النفوذ البحري، أو التحولات الجيوسياسية في شرق المتوسط.
وبالتالي، فإن أي حملة تستهدف الحجاب أو تحاول إقصاء الرموز الدينية لا تقرأ بمعزل عن مساعي قوى خارجية لتقويض الشراكة التركية القبرصية، وإضعاف وحدة الصف الداخلي.

أزمة مراكز القرآن
وليس هذا الصدام الأول المتعلق بالحريات الدينية بين أنقرة وجهات ومؤسسات داخل قبرص، تحاول أن تفرض نهجا معينا على الجزيرة.
ففي 16 أبريل/ نيسان 2021 اندلع جدل واسع في جمهورية شمال قبرص التركية عقب قرار أصدرته المحكمة الدستورية يقضي بتقييد عمل مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وترى أن أنشطتها تتعارض مع علمانية الدولة.
القرار نص على أن جميع الدورات الدينية، بما في ذلك دورات تحفيظ القرآن، يجب أن تدار حصرا عبر وزارة التعليم لا من خلال الهيئات الدينية المستقلة، وهو ما عد خطوة مثيرة للجدل أثارت غضبا واسعا في الأوساط التركية.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان أول من رد على هذا التطور، معبرا عن رفضه القاطع للقرار.
ففي تصريحات للصحفيين شدد على أن "المحكمة الدستورية في قبرص التركية بحاجة لأن تتعلم العلمانية أولا".
مضيفا بلهجة حاسمة: “جمهورية شمال قبرص ليست فرنسا، ويجب عليهم تصحيح هذا الخطأ سريعا، وإلا فستكون خطواتنا التالية مختلفة”.
أردوغان لم يكتف بذلك، بل وجه انتقادا صريحا إلى بعض النقابات والجماعات التي وصفها بـ"المعادية للدين"، مؤكدا أن أنقرة لا يمكن أن تقبل بتضييق يمس الحريات الدينية في الجزيرة.

مؤامرة أوسع
وقال الباحث في مركز "سيتا" التركي عبد اللطيف باي، إن أزمة الحجاب في شمال قبرص تكشف عن طبقات متعددة من الصراع، فهي من جهة صراع ثقافي حول الحريات الفردية.
ومن جهة ثانية معركة سياسية حول هوية المجتمع القبرصي التركي، ومن جهة ثالثة جزء من لعبة إقليمية أكبر تستهدف تقليص النفوذ التركي في شرق المتوسط.
وأضاف باي في حديث لـ"الاستقلال" أن "الثابت هو أن أنقرة، بشقيها الشعبي والرسمي، لن تسمح بعودة ممارسات الماضي، ولن تتهاون في الدفاع عن حق الفتيات المحجبات في مقاعد الدراسة، بوصفه امتدادا لمعركة أوسع من أجل الحرية والكرامة والسيادة".
وتابع قائلا: “من المؤسف أن تكون عقلية القائمين على نقابة التعليم وبعض قضاة المحكمة الدستورية القبرصية بهذه الطريقة”.
"فبدلا من فتح المجال للحريات الدينية ومناقشة قضايا تطوير التعليم والارتقاء بعقلية الطلاب، يجرون البلاد إلى معارك انتهت منذ سنوات طويلة، ويعيدون إنتاج صراعات تم تجاوزها حتى في بعض الدول الغربية".
وأشار باي إلى أن “الأمر لا يخلو من شبهة مؤامرة تحيكها قوى خارجية تريد فصل الجزيرة عن تركيا وإضعافها، وهو هدف قديم متجدد تسعى إليه اليونان بطبيعة الحال، إضافة إلى إسرائيل ودول غربية كبرى على رأسها فرنسا وألمانيا وهولندا”.
وأكد أنه "لطالما أرادت تلك الدول إحداث هذا الفصل سواء سياسيا أو عبر ضرب هوية المجتمع وعلاقته بالدين".
وختم الباحث في "سيتا" تصريحه بالتأكيد على أن أقوى رابط بين جمهورية شمال قبرص وتركيا هو رابط الدين والهوية الإسلامية.
وهو السبب ذاته الذي دفع رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان لإطلاق عملية "السلام" عام 1974، حين أرسل الجيش التركي لإنقاذ المسلمين في الجزيرة من المليشيات المسيحية المدعومة من اليونان، والتي كانت تخطط آنذاك للقضاء عليهم وإبادتهم عرقيا.
المصادر
- Türkiye'nin milli davası: Kıbrıs
- في قبرص الشمالية، ألغت المحكمة الدستورية اللائحة التي سمحت بارتداء الحجاب في المدارس الثانوية
- شمال قبرص التركية تسمح بارتداء الحجاب في المدارس الثانوية https://ilkha.com/arabi/id=451433
- أردوغان يُحذِّر قبرص التركية بسبب قرار يخص دورات تحفيظ القرآن.. دعاها إلى التراجع “سريعاً”
- المحكمة العليا في قبرص الشمالية تلغي قانون السماح بارتداء الحجاب في المدارس العامة
- KKTC'de başörtüsü nedeniyle okula alınmayan kızın annesi: Kızımın iradesi çok sağlam
- Son dakika... KKTC'den tarihi başörtüsü hamlesi: Kılık kıyafet yönetmeliği değişiyor
- KKTC’de Anayasa Mahkemesi’nden “başörtüsü yasağı" kararı