"عندما تحكم الأقليات تضعف الدولة".. اليمن وسوريا نموذجا
كان الأديب الأميركي الشهير مارك توين (1835- 1910) مفتونا بالعاصمة السورية، ووصفها في كتابه "أبرياء على سفر"، قائلا: "عاشت دمشق كل ما حدث على الأرض، وما تزال تحيا.. لقد أطلت على العظام النخرة لآلاف الإمبراطوريات".
وأضاف: "ستطل على قبور آلاف أخرى توشك على الموت، ورغم أن سواها يزعم حيازة اللقب، فإن دمشق تظل، بحق، هي المدينة الخالدة".
أما اليمن فعندما تحققت وحدته عام 1990 احتفى به العرب، وكتب السيناريست والأديب المصري أسامة أنور عكاشة عن تلك الوحدة، وقال: "إن الشعب اليمني استطاع في زمن الشتات والفرقة أن يفرض إرادته ويحقق بوحدته إحدى المعجزات المعاصرة".
وأورد: "الوحدة اليمنية في مناسبتها تستحق أن يحتفى بها على مستوى الوطن العربي كافة وكما يقال في المثل (وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر) والبدر المفتقد هنا هو الوحدة العربية الشاملة".
مضت السنوات وهوت هاتان الأمتان في براثن أزمات طاحنة عصفت بوحدتيهما، وأحالت تاريخهما العريق إلى أطلال، على وقع حروب طاحنة وتدخلات أجنبية وفشل لمفهوم الدولة والمؤسسة.
وبات السؤال: كيف وصل الحال بدولتين من أهم الدول العربية وأكثرها عراقة إلى ذلك الحال؟
الحوثيون والأسد
بالنظر تلقائيا إلى مركز الحكم، تأتي المسؤولية على الذين تولوا وأسهموا في وصول صنعاء ودمشق إلى حافة الهاوية، على الأقل خلال العقد الأخير أو فيما يعرف بمرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؟
في تلك المرحلة هنا برز في اليمن وسوريا "حكم الأقليات" فالحوثيون (من الشيعة الزيدية)، هم الذين استولوا على حكم العاصمة اليمنية، وتحكموا في مساحات شاسعة من البلاد، وباتت لهم الكلمة العليا بدعم إيراني.
وفي سوريا يحكم آل الأسد (العلويون) منذ أن أصبح حافظ رئيسا للبلاد عام 1971، ثم خلفه ابنه بشار.
وأنشأ آل الأسد منظومة حكم شمولية، تعتمد نظام الحزب الواحد، حيث تربع حزب البعث على رأس الهرم السياسي.
لكن الأبرز في الحالة السورية أن الطائفة العلوية باتت صاحبة الأمر والنهي والحظوة في كل مفاصل الدولة على حساب الأغلبية السنية.
وعندما بدأت الثورة السورية عام 2011 عصفت تلك الطائفة بخصومها، وضربت الدولة كمؤسسة وككيان مستقل، وأحضروا الروس والإيرانيين وحزب الله اللبناني، ليقودوا الدفة ويعصموا العلويين من غضب الشعب السوري.
الأمن القومي اليمني
لكن الأخطر في مسألة حكم الأقليات ما يتعلق بالأمن القومي للدولة. وبالنظر في نموذج اليمن، فإنه يتعرض منذ 13 يناير/كانون الثاني 2024 إلى قصف أميركي بريطاني ضد مليشيا الحوثي على وقع استهداف السفن في منطقة البحر الأحمر.
ورغم أن الحوثيين استولوا على حكم أجزاء واسعة من اليمن عام 2014 بانقلاب عسكري، ودخلوا في صراعات داخلية وخارجية متعددة، فقد تسببوا في إضعاف الدولة بإحلال مؤسساتها على رأسها الجيش.
وفي 20 يناير 2024 كتب المحلل العسكري اليمني "علي الذهب" لموقع "الإصلاح" المحلي، يتحدث عن خطر الحوثيين على الأمن القومي للبلاد في ظل التطورات المتصاعدة.
وقال: "إن خطر جماعة الحوثي على الأمن القومي اليمني بات أمرا واقعا، وسيتطور مستقبلا في الأبعاد المختلفة للأمن، ومن ذلك البعد السياسي؛ حيث قوض النظام الجمهوري وأصبح هذا النظام شكليا".
وأضاف: "زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي يتحكم بالقرار من منطلق اتجاه جديد وهو نظام الولاية، فهو في المقابل مع إيران يمثل مرشد الثورة علي خامنئي".
وأتبع: "فضلا عن أن المؤسسات الدستورية كالبرلمان شبه معطلة، وهناك مجلس شورى تحاول جماعة الحوثي إحلالها محل المجلس التشريعي وفي أي لحظة قد نشهد ذلك".
فالنظام الجمهوري الذي أرست دعائمه ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 أصبح مجرد شكل، وهذا يمثل خطرا على الأمن السياسي للدولة، وفق تقديره.
وأشار المحلل اليمني إلى بعد الأمن العسكري، وأورد أنه "لم يعد للحوثيين جيش احترافي أو مهني، هناك قوات اسمها اللجان الشعبية، وأيضا تشكيلات عقدية الموالية لرأس الجماعة، ومن ذلك الألوية ذات البعد العقدي، مثل لواء الإمام الهادي وكتائب الحسين، وأيضا الألوية والكتائب القبلية التي يتزعمها بعض المشايخ".
وأردف: "جرى الإطاحة بالمؤسسة العسكرية واستبدالها بمليشيا، بمعنى نظام يشبه الحرس الثوري، واستنساخ للتجربة الإيرانية عسكريا وسياسيا وفكريا، وإنشاء أجهزة قمع بوليسية توظف لحماية الجماعة وأركانها ومؤسساتها، وليس لحماية الدولة ومؤسساتها الدستورية المعروفة".
المسار السوري
وبالانتقال إلى سوريا، يعلق الأكاديمي السوري إبراهيم زار في حديثه لـ"الاستقلال"، على مسألة حكم الأقليات فيها كنموذج.
وقال: "عندما قامت الدول القومية في منطقة الشرق الأوسط، ارتبط غالبية المجتمع بقيم الدولة الجديدة بوصفها امتدادا للنظام الذي سبق".
وذلك مثل مصر التي كانت امتدادا لحكم أبناء محمد علي إلى إعلان الجمهورية، وكذلك سوريا في جمهوريتها الأولى، مبينا أن "العجب أن القومية العربية وإرهاصات الدولة القومية ولدت من الأساس في الشام".
وأتبع: "لكن مع صعود الطغمة العسكرية إلى كراسي الحكم، وسحق الديمقراطيات والانتخابات، تفككت الدولة القومية رويدا رويدا وحلت محلها الأنظمة البوليسية الاستخباراتية المستبدة".
وواصل: "وابتليت سوريا بأزمة مركبة مع الوقت، الأولى حكم العسكريين وسحق الدستور، والثانية حكم الأقليات بصعود حافظ الأسد، الذي مكن الطائفة العلوية، وأصبحوا هم كبار الضباط والمسؤولين ورجال الأعمال".
وأضاف: "الأسد استبعد أكفأ رجال الدولة من سياسيين وعسكريين لحساب طائفته، وأدخل البلاد في مسار حزب البعث الاشتراكي".
فقضى على الاقتصاد والإصلاح والسياسة، ثم ارتكب مجزرة حماة عام 1982، ودمر الإسلاميين.
وبعد 4 عقود قضى ابنه بشار على البقية الباقية من سوريا، حتى غدت دولة شبه مقسمة، تتجول فيها ألوية الحرس الثوري الإيراني كما تشاء، وفق زار.
واستطرد الأكاديمي السوري أن بلاده أصبحت تمثل النموذج الأوقع لمخططات حدود الدم التي رسمها الاستعمار، وكلها قامت على حكم الأقليات والطوائف.
حدود الدم
وعند الحديث عن حكم الأقليات، يمكن استحضار خريطة نشرت في مجلة القوات الأميركية تحت عنوان "حدود الدم: كيف يمكن للشرق الأوسط أن يبدو بشكل أفضل؟"
ونشر الخريطة في يونيو/حزيران 2006 الكولونيل الأميركي رالف بيترز، وكان ما يميزها أنها تناولت تقسيم العالم العربي على أساس عرقي (أيديولوجي).
وكشفت الخطة تفاصيل مفزعة عن تقسيم محتمل للدول ترسمه بعناية الدوائر العسكرية الأميركية.
العقيد (متقاعد) رالف بيترز، هو أحد منظري العسكرية الأميركية، وقد طرح في خريطته رسما دقيقا لحدود الشرق الأوسط على "أسس عرقية وطائفية وقبلية".
وتحدث عن مجموعات كالأكراد، والبلوش، والعرب، والشيعة، ومسيحيي المنطقة، والبهائيين، والإسماعيليين، والنقشبندية، وغيرهم.
خريطة "بيترز"، هدفت إلى إنشاء 7 دول جديدة على أنقاض الدول الحالية، وهي دول: "كردستان الكبرى"، و"الشيعية العربية"، و"سوريا الكبرى"، و"لبنان الكبير"، و"الأردن الكبرى"، و"بلوشستان الحرة"، ودولة "قومية فارسية".
والدولة "الشيعية العربية" حسب "بيترز"، مركزها جنوب العراق، وتضم الأهواز أو عربستان وتجمع الشيعة العرب (جنوب غرب إيران)، كما تضم الجزء الشرقي من السعودية، حيث الأقلية الشيعية.
دولتا "سوريا الكبرى"، و"لبنان الكبير"، تنتجان، عبر تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام: كردي بالشمال، وشيعي بالجنوب، وسني بالوسط.
وذلك على أن يلحق الجزء السني بسوريا، ومقابله يجرى اقتطاع جزء من سوريا لضمه إلى لبنان الكبير لإعادة إحياء "فينيقيا" التاريخية.
أما "الأردن الكبرى" فيقترح أن تضم جزءا من شمال غرب السعودية، لتكون دولة لفلسطينيي الشتات، مع بقاء إسرائيل كما ينصح "بيترز" داخل حدود ما قبل 1967.
ثم دعا لاقتطاع أجزاء من إيران لتشكيل دولة "كردستان الكبرى" والدولة "الشيعية العربية" ودولة "بلوشستان الحرة" بأفغانستان وباكستان.
وذلك مقابل منحها جزءا من أفغانستان لتأسيس دولة "قومية فارسية" محل الجمهورية الإيرانية.
إضافة إلى تقسيم السعودية 5 أقسام، الأول الشرقي الساحلي -الأقلية الشيعية- يتم إلحاقه بالدولة العربية الشيعية، والثاني شمال غرب وشرق المملكة، ويجرى إلحاقه بالأردن.
والثالث يضم مكة والمدينة لتشكيل دولة دينية يحكمها مجمع ديني لمختلف الطوائف والمذاهب يشبه الفاتيكان، والرابع جنوبي بضم جزء من جنوب السعودية لليمن، وما تبقى تقام فيه دولة سياسية لا دينية يحكمها آل سعود.
ويبدو أنه بعد مرور أكثر من قرن على اتفاقية "سايكس- بيكو" التي وقعت عام 1916 بين القوى الاستعمارية، مازال الحديث يتردد عن تقسيم الدول العربية في الأروقة البحثية والعسكرية والمخابراتية الغربية، خاصة مع عمل العالم الغربي على حماية وجود إسرائيل أمنيا وجغرافيا.
صعود الأقليات
وذكر الباحث العراقي مهند علام، أن: "الغرب استغل الخوف والبحث عن الحماية لدى أقليات الشرق المسلم وبدأ بضخ دعم سياسي وعسكري واجتماعي لرفع حكم الأقليات في الشرق الأوسط".
وأضاف في دراسة نشرها عن "صعود حكم الأقليات في العالم العربي" في 2 يناير/كانون الثاني 2024، عبر "المؤسسة الوطنية للدراسات والبحوث" ومقرها إسطنبول: "تراوح أشكال هذا الدعم بين الاقتصاد والثقافة والسياسة وحتى الدين".
فعندما كانت قوى الغرب الاستعماري الأوروبي تسعى للتوسع والسيطرة على الموارد والتجارة، انشغلت الأقليات بخدمة الاحتلال الاستعماري لبلدان الشرق الأوسط، وهو ما سبب تغييرات هائلة في هياكل المجتمع والاقتصاد والثقافة للشعوب المتأثرة.
وأورد أن "الأقليات كانت سببا أساسيا في تشكيل حدود الدول الحديثة، كما في العراق وسوريا ولبنان".
إذ شهدت المنطقة تأثيرا كبيرا للقوى الكبرى في الغرب عندما وضعوا حدود الدول الحديثة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، والتي قد لا تكون مطابقة للواقع القومي والثقافي والديني في المنطقة، لكنها راعت الأقليات التي استطاعت ضمانة الهيمنة الاقتصادية والسياسية للغرب، وفق قوله.
وذكر أن "هذه التحولات لم تكن سلسة وشهدت تحديات وصراعات بسبب تبوأ الأقليات قيادة الحركات السياسية ومراكز الحكم، وذهبت إلى تحقيق المصالح الخاصة بها، وحمايتها بشكل أساسي كما فعل العلويين في سوريا واليهود في فلسطين والأرمن والشيعة في العراق".
ما ذكره الباحث العراقي عن علاقة حكم الأقليات في العالم العربي بالاستعمار القديم والهيمنة الغربية، يثير تساؤلات عن وضع الأقليات في الغرب وأين هم من السلطة؟
وبالتطرق إلى النموذج البريطاني فإن المادة الثالثة من قانون التسوية البريطاني، تنص على أنه ينبغي على كل شخص يتولى الملك أن يكون من رعايا كنيسة إنجلترا.
وكذلك الدستور اليوناني حيث تنص المادة 47 على أن كل من يعتلي الحكم يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
ويحدث ذلك مع أن اليونان بها الملايين من المسيحيين الذين يتبعون الملة الكاثوليكية حيث تبلغ نسبتهم قرابة 25 بالمئة وكذلك البروتستانتية تمثل 5 بالمئة، بل ويوجد مئات الآلاف من المسلمين الأتراك، ولم يعترض أحد على المادة 47 من الدستور اليوناني.
وفي إسبانيا تنص المادة السابعة من الدستور على أنه يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية، بصفتها المذهب الرسمي للبلاد، وغيرها من الدول.
ولم تحاول تلك الأقليات الوصول إلى الحكم أو الاستيلاء عليه كما يحدث في الشرق الأوسط.