ضغط أوروبي.. ماذا وراء إلغاء ألمانيا تمويل منظمات إنقاذ المهاجرين بالمتوسط؟
على مضض سارت ألمانيا مع رغبات بعض الدول داخل الاتحاد الأوروبي، لقطع الدعم المالي عن المتطوعين الذين يتولون مهمة إنقاذ أرواح المهاجرين غير النظاميين الذين يركبون البحر المتوسط أملا في الوصول للشواطئ الأوروبية.
وفي خطوة متوقعة ضمن سعي الأوربيين لبناء هيكلية جديدة لظاهرة الهجرة، أفادت صحيفة "بيلد" الألمانية، بأن الحكومة الألمانية تعتزم وقف تمويل منظمات الإنقاذ الخيرية للمهاجرين غير النظاميين في البحر المتوسط بعد أن انتقدتها إيطاليا بشأن هذه القضية.
وقف التمويل
وذكرت الصحيفة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن ميزانية ألمانيا لعام 2023 خصصت مليوني يورو لتمويل جمعيات الإنقاذ البحري الخيرية، ولا يوجد ذكر لها في مشروع الميزانية لعام 2024.
في دلالة واضحة على استجابة برلين للضغط الأوروبي لوقف تمويل تلك الجمعيات التي تسهم في إنقاذ غرق قوارب اللاجئين المتهالكة.
وبحسب "بيلد" فإن عدم إقرار ميزانية عام 2024 لم يكن سهوا من لجنة الميزانية في البرلمان الألماني، لكون المستشارية ووزارة الخارجية تؤيدان إلغاء التمويل.
وقد قدمت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني شكوى عبر رسالة بعثت بها في 23 سبتمبر/أيلول 2023 إلى المستشار الألماني أولاف شولتس للتعبير عن "دهشتها" من تمويل برلين للجمعيات الخيرية التي تساعد المهاجرين غير النظاميين على الوصول إلى بلادها.
إلا أنه في مؤتمر صحفي بعد محادثات مع نظيرها الإيطالي خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023 دافعت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك عن دعم برلين لمهام الإنقاذ.
وقالت بيربوك إن "متطوعي الإنقاذ البحري يؤدون مهمة منقذة للأرواح في البحر المتوسط".
وتقدم برلين ما بين 400 ألف يورو و800 ألف يورو لمشروعين يتعلقان بالمهاجرين، وهذه الأموال المعنية متواضعة نسبيا في الوقت الحاضر وفقا لمعايير الإنفاق الحكومي الرئيس بألمانيا.
علما أن جهود جمعيات الإنقاذ البحري تعد محدودة جدا، في بحر تتعدد منصات الانطلاق من شواطئه نحو أوروبا، إذ تعمل جمعيتان في هذا المجال، واحدة على الأرض والأخرى في البحر.
في 22 سبتمبر، أعرب مكتب ميلوني عن "دهشته الكبيرة" للأخبار التي أوردتها وكالة الأنباء الإيطالية (ANSA)، والتي تفيد بأن المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية قد أعلن عن تمويل وشيك للمنظمات غير الحكومية لمشروع لمساعدة المهاجرين على الأراضي الإيطالية ومشروع يتضمن عمليات الإنقاذ بحرا.
وأصبح معروفا أن إحدى المنظمات غير الحكومية التي تلقت التمويل هي منظمة SOS Humanity، التي تدير سفن الإنقاذ في وسط البحر المتوسط. وقالت المنظمة غير الحكومية نفسها إنها خصصت لها 790 ألف يورو لذلك.
وبشكل منفصل، قالت جمعية سانت إيجيديو الخيرية الكاثوليكية في 25 سبتمبر إنها وقعت اتفاقا جديدا مع برلين لتمويل أنشطة المهاجرين في إيطاليا كجزء من علاقة مستمرة منذ سنوات.
وتعد إيطاليا نقطة الهبوط الأكثر شيوعا للأشخاص الذين يحاولون عبور البحر المتوسط والوصول إلى شواطئ أوروبا، كما تعد اليونان وإسبانيا وقبرص نقاط وصول متكررة أيضا.
وفي الفترة من يناير إلى أكتوبر 2023، وصل حوالي 194 ألف مهاجر ولاجئ إلى إسبانيا وإيطاليا ومالطا واليونان وقبرص عن طريق القوارب، مقارنة بـ112 ألفا في الفترة نفسها من عام 2022، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة.
وقد انطلقت الأغلبية من تونس، حيث وقعت ميلوني ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في يوليو/ تموز 2023 على اتفاق مثير للجدل لوقف الهجرة غير النظامية.
وأقرت حكومة ميلوني الإيطالية، التي تتخذ موقفا متشددا ضد الهجرة غير الشرعية، القواعد الجديدة للقضاء على سفن الإنقاذ في فبراير/شباط 2023، ولا تزال تكافح لوقف تدفق المهاجرين من إفريقيا.
"ضبط الهجرة"
اللافت، أن المستشار الألماني شولتس تبنى نبرة مختلفة خلال قمة الاتحاد الأوروبي في غرناطة الإسبانية في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث أجاب ردا على سؤال حول دعم جمعيات الإنقاذ البحري بالقول: إن البرلمان هو من أقرها وليس الحكومة".
وبين شولتس في مؤتمر صحفي أنه لم يقدم "الاقتراح"، لكن عندما سئل عن رأيه الشخصي في هذا الشأن، أضاف: "هذا هو رأيي، إنني لم أقدم الاقتراح".
ويعد التبرع بالأموال للجمعيات الخيرية لإنقاذ المهاجرين التي بدأت عملياتها في البحر المتوسط في عام 2015، أمرا مثيرا للجدل في بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على خط المواجهة، والتي تقول إن وجود القوارب يشجع مهربي البشر على الشروع في الرحلة المحفوفة بالمخاطر.
لكن تنفي الجمعيات الخيرية ذلك، قائلة إن المهاجرين يبحرون بغض النظر عن ذلك وتدلل على ذلك بكثرة عمليات غرق القوارب وعدم الاستجابة لنداءات الإنقاذ.
إذ مات آلاف اللاجئين وتحول البحر إلى مقبرة لهم، ممن فروا من الحروب والصراع والصعوبات الاقتصادية، أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط.
ورغم ذلك فإن أوروبا تسير في "نهج تقييدي" بالفعل تجاه الهجرة إليها، والذي يتعرض لانتقادات من جماعات حقوق الإنسان.
وبحسب المختصين بشؤون اللاجئين، فإن ألمانيا تسعى للتماشي مع قانون إصلاح نظام الهجرة الجديد الذي يعمل عليه الاتحاد الأوروبي.
إذ تسعى دول التكتل لتقليل أعداد الواصلين إليها، الأمر الذي يستدعي تقليل التمويل عن منظمات الإنقاذ البحري في البحر المتوسط.
وما يزال يخيم الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي بين دول تدعم مبادرات بروكسل التي تركز على توزيع المهاجرين بين الأعضاء في عمل تضامني، وتلك الدول، مثل المجر أو بولندا، التي تعد حكوماتهما اليمينية المتطرفة أن تدفق الغرباء يشكل تهديدا عليها.
بل إن إيطاليا تتجه خارج الاتحاد الأوروبي لإقامة روابط مع المملكة المتحدة للقضاء على الوافدين غير المرغوب فيهم.
ويدور الخلاف حول اتفاق الهجرة الجديد والذي إذا أصبح سياسة، فسوف يتضمن إنشاء مراكز معالجة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي لفحص الأشخاص عند وصولهم.
والاتفاق، الذي وافقت عليه أغلبية وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي، سيذهب الآن إلى البرلمان الأوروبي، حيث سيجرى المزيد من المفاوضات قبل أن يصبح ملزما.
لكن مع ذلك، فإن هناك من ينظر إلى أن خطوة برلين لن تغير من واقع الهجرة شيئا؛ لكون وجود مراكز لتنسيق الإنقاذ البحري غير حكومية في إيطاليا وإسبانيا واليونان وغيرها.
لكن ما تخشاه بعض دول أوروبا هو أن تشرع ألمانيا في الموافقة على تمويل المزيد من المنظمات الخيرية للإنقاذ البحري ابتداء من عام 2024.
ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن وجود سفن المنظمات غير الحكومية ليس له تأثير يذكر على معدل عبور المهاجرين.
ويؤكد المراقبون أن أكثر ما يقلق بعض دول أوروبا هو تقاسم أعباء اللجوء وأن يكون هناك توزيع عادل للمهاجرين بعد وصولهم على دول الاتحاد طبقا لإمكانات واقتصاد كل دولة.
"لا تأثير"
وهناك من يرى أنه لا ينبغي لألمانيا استخدام أموال الضرائب لغرض تمويل جمعيات الإنقاذ البحري بل ينبغي للحكومة الفيدرالية بدلا من ذلك أن تكرس طاقتها السياسية للتوصل إلى اتفاقيات مع دول شمال إفريقيا.
وأمام ذلك يتصاعد التقاذف في الداخل الألماني بين من يرى أن تمويل جمعيات الإنقاذ البحري يشكل عوامل جذب للوصول لألمانيا والحصول على المزايا الاجتماعية.
ويرد البعض على هؤلاء بالقول: إن سبب فرار اللاجئين من بلدانهم ليست لتلك المزايا بل لأسباب أخرى في إشارة للحروب والعوامل الاقتصادية.
وتتضارب وجهات النظر حول دعم مهمات جمعيات الإنقاذ البحري ذات "الطابع الإنساني" حيث تتلقى المنظمات المدنية إعانات مالية من الحكومة الفيدرالية.
فهذه المديرة العامة الجديدة لمنظمة الهجرة التابعة للأمم المتحدة، إيمي بوب، التي تولت مهامها في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2023 تدعو إلى تشجيع رجال الإنقاذ البحري الخاصين.
وأشادت بوب بعملية الإنقاذ البحري التي قامت بها منظمات الإغاثة الخاصة في البحر الأبيض المتوسط. وقالت: "نحن نرحب بعمل كل من يساعد المهاجرين المحتاجين".
ومضت تقول: "هؤلاء هم الأشخاص أولا وقبل كل شيء، قبل أن نصفهم بالمهاجرين أو طالبي اللجوء".
بينما يرى توماي، المدير العام البرلماني للحزب الديمقراطي الحر بألمانيا، أن الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي يجب أن تكون محمية بشكل أفضل.
وراح يقول: "هذا يشمل أيضا في المستقبل أن تتولى الحكومة مهمة الإنقاذ البحري في البحر الأبيض المتوسط.. إن إنزال أولئك الذين تم إنقاذهم في بلدان ثالثة بموجب اتفاقيات الهجرة يجب أن يصبح هو القاعدة".
وفي ظل هذه التجاذبات، تحتج دراسة صدرت في مجلة "التقارير العلمية" الصادرة عن مجلة "نيتشر" في أغسطس/آب 2023 على منتقدي عمليات الإنقاذ البحري.
إذ خلصت الدراسة المذكور إلى أن عمليات الإنقاذ البحري "لا تشجع على الهجرة".
وتؤكد الدراسة عدم وجود علاقة بين الإجراءات المنقذة للحياة في البحر المتوسط وعدد الأشخاص الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا بهذه الطريقة.
وتقول: "نحن ننقذ اللاجئين من القوارب الخردة المكتظة وغير الصالحة للإبحار ونستقبلهم. في بعض الأحيان بعد فوات الأوان".
وتنقل الدراسة عن بعض موظفي جمعيات الإنقاذ قوله: "نقضي أياما ذهابا وإيابا في المياه الدولية مع طفل ميت يبلغ من العمر عامين في الثلاجة لأنه لم ترغب أي دولة أوروبية في إنقاذه عندما استطاعت ذلك ثم منعونا من الميناء".
وكانت والدته وفق المتحدث "على متن الطائرة معنا، وهي على قيد الحياة. ماذا أقول لامرأة مصدومة وطفلها يرقد في الثلاجة الخاصة بي عن الاتحاد الأوروبي؟".