بعد فشل المبادرة الفرنسية.. هل يخرق "الخيار الثالث" جدار أزمة الرئاسة في لبنان؟
بات جليا أن صفحة المبادرة الفرنسية لدفع القوى السياسية اللبنانية للتوافق على اسم واحد لرئاسة الجمهورية لملء الفراغ بهذا المنصب المستمر منذ نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022، جرى طيها بعد تأكد "فشلها".
وهذا الأمر فتح الباب على مصراعيه أمام تفكير القوى اللبنانية بـ"الخيار الثالث" الذي تعول عليه اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان والتي تضم ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، لإنهاء الشغور الرئاسي.
الخيار الثالث
وفي ظل ذلك، دعا الموفد الفرنسي الخاص إلى لبنان، جان إيف لودريان، المسؤولين اللبنانيين إلى إيجاد "خيار ثالث كحل وسط" لأزمة انتخابات الرئاسة بعد نحو 11 شهرا من الشغور، في وقت لا يملك فيه أي فريق أكثرية برلمانية تخول له إيصال مرشح لسدة الحكم.
وفي مقابلة مع وكالة "فرانس برس" في 26 سبتمبر/أيلول 2023، قال لودريان إن "المؤشرات الحيوية للدولة اللبنانية تشي بأنها في دائرة الخطر الشديد"، مضيفا: "ليس بإمكان أي منهما الفوز، ولا يمكن لأي من الخيارين أن ينجح".
وينظر المهتمون في الشأن اللبناني إلى أن المبادرة الفرنسية حكمت على نفسها بـ"الفشل" عقب ميل لودريان الذي عينته باريس في 8 مايو/أيار 2023، بشكل علني إلى خيار رئيس مجلس النواب وقائد حركة أمل، نبيه بري، حول دفع ملف الشغور الرئاسي للحل.
فقد دعا بري في 31 أغسطس/آب 2023 الكتل النيابية والفرقاء السياسيين لإجراء حوار لمدة 7 أيام في سبتمبر من العام ذاته، وعقد جلسات مفتوحة تمهيدا لانتخاب رئيس للجمهورية.
لكن خطوة بري عُدت "مناورة واضحة" لحصر ملف الرئاسة بالمرشح سليمان فرنجية وهو مرشح الثنائي الشيعي (حزب الله - حركة أمل)، والذي ترفضه بقية القوى كونه يعد المرشح "المطمئن للمقاومة" كما وصفه زعيم حزب الله، حسن نصر الله.
وسبق أن أعطى النواب رأيهم القاطع حول مرشح "الثنائي الشيعي" خلال الجلسة الأخيرة للبرلمان للتصويت على انتخاب الرئيس والتي خلصت لحصول المرشح جهاد أزعور (مدعوم من الفريق المناهض لحزب الله) على 59 صوتا مقابل 51 صوتا لفرنجية.
ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2022، فشل البرلمان 12 مرة في انتخاب رئيس على وقع انقسام سياسي يزداد حدة بين حزب الله، القوة السياسية والعسكرية الأبرز في البلاد والمدعوم من إيران، وخصومه.
وعقب فشل المبادرة الفرنسية بدأت تطفو على السطح أسماء جديدة لتولي الرئاسة في لبنان، والتي ستدور حولها التوافقات القادمة بين الأطراف اللبنانية، والتي يؤكد المراقبون أن واحدا من بين هذه الأسماء سيدخل قصر بعبدا الرئاسي في بيروت.
وأبرز تلك الأسماء، قائد الجيش جوزيف عون، ومدير عام الأمن العام بالإنابة اللواء إلياس البيسري، والنائب البرلماني نعمة افرام، ووزير الداخلية السابق زياد بارود.
ويتردد بوتيرة متزايدة اسم جوزيف عون كمرشح بديل غير محسوب مباشرة على أي فريق سياسي.
وعلى ضوء ذلك الاستعصاء اللبناني بقيت جهود لودريان الذي زار لبنان ثلاث مرات منذ تكليفه من قبل قصر الإليزيه بإنهاء الأزمة السياسية في البلد العربي، "صفر اليدين".
سيناريو التسوية
لكن الموفد الفرنسي الخاص، حسب المراقبين، كان مضطرا للاستدارة أخيرا نحو أحد مفاتيح الحل للملف الرئاسي اللبناني.
ولهذا طار لودريان إلى الرياض في 27 سبتمبر 2023 والتقى وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بحضور المستشار نزار العلولا وسفير المملكة لدى لبنان وليد بخاري.
وضمن هذا السياق، نقلت صحيفة "الأخبار" اللبنانية عن مصادر لم تسمها أن الاجتماع مع لودريان استمر حوالي الساعة، وتناول محطات المبادرة الفرنسية وما وصلت إليه.
وبحسب "الأخبار" فإن الجانب السعودي أعرب عن "ارتياحه وسروره لجهة أن باريس اقتنعت بوجهة نظر المملكة فيما يتعلق بالأزمة اللبنانية، وعادت لتتبنى طروحات الرياض التي تقول بوجوب انتخاب رئيس لا ينتمي إلى أي جهة".
#الرياض | سمو وزير الخارجية الأمير #فيصل_بن_فرحان @FaisalbinFarhan يستقبل المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي إلى لبنان السيد جان إيف لودريان. pic.twitter.com/9VybZgcbVm
— وزارة الخارجية ���� (@KSAMOFA) September 27, 2023
وقالت المصادر ذاتها، إن "المجتمعين أكدوا على طي صفحة المبادرة الفرنسية بالشكل الذي كانت عليه، والذهاب إلى طرح صيغ توافقية بالتنسيق مع الدول الخمس، استنادا إلى نتائج الاجتماع الخماسي الأول في باريس والثاني في الدوحة، وأن لقاء الرياض وفر مناخا جديدا وتجاوزا للتباينات التي ظهرت في اجتماع نيويورك الأخير".
ولفتت المصادر إلى أن "باريس ليست مرتاحة لفكرة أن تتولى قطر دور الوساطة بدلا منها، وأن الفرنسيين يريدون غطاء السعودية لاستكمال المهمة بالتنسيق مع الدول الخمس، كون فرنسا تريد أن تحافظ على دورها في المنطقة من خلال لبنان".
وفي السياق، رأى الصحفي نبيل بو منصف، أن "أقوى عنصرين مؤثرين في لبنان حاليا حول ملف الرئاسة هما السعودية وإيران وليس فرنسا والولايات المتحدة، بينما قطر تلعب دور الوسيط بين هؤلاء ولديها حضور في الدور اللبناني".
وأضاف بو منصف في حديث لقناة "الجديد" المحلية في 28 سبتمبر 2023 أن "الوضع في لبنان حول ملف الرئاسية عالق راهنا بين العنصر الإقليمي وليس الدولي، وبالتالي فإن فرنسا جربت حظها في لبنان على مدار سنة ووصلت إلى إخفاق مطلق، بعدما غيروا قواعد اللعبة وانحازوا لطرف على حساب آخر في ملف الرئاسة".
ومضى موضحا أن "انقلاب العلاقة إيجابا بين طهران والرياض في مارس/آذار 2023 وضع لبنان أمام معادلة وهي أن إيران والسعودية لم يتفقا بعد على الملف الرئاسي وهما غير مستعدين لخلق اشتباك حول هذا الملف في لبنان، "مما يعني أن لبنان عالق بين هاتين النقطتين".
واستدرك قائلا: "إن الخروج من هذه الحالة التي تلعبها إيران والسعودية هي عبر جعل الملف الرئاسي لبنانيا بشكل خالص، لكن هذه المعادلة هي صفر وما قد يغيرها هو حادث أمني كبير أو انهيار مالي جديد أفدح من الذي حدث عام 2019".
ورأى بو منصف أن "طريقة إدارة الثنائي الشيعي لمعركة انتخاب رئيس الجمهورية باسم سليمان فرنجية لم تترك هامشا لحدوث تسوية؛ لأن حزب الله إلى اليوم متمسك بمرشحه فرنجية، ويدعو لاستسلام بقية القوى اللبنانية إلى مرشحه مما يعني أن لا حوار قائم".
ومضى يقول: "إن تمسك نبيه بري بسليمان فرنجية كمرشح رئاسي كسرت الثقة مع فريق المعارضة؛ أي لم يعد محايدا في ملف الرئاسي، خاصة أن الثنائي الشيعي كان مسندا ظهره بوساطة الفرنسية أدى ذلك لإسقاط المعارضة المبادرة الفرنسية وهم الذين كانوا بالأمس حلفاء تقليديين لباريس".
وذهب بو منصف للقول: "أمام ذلك هناك طرح قطري بالذهاب للخيار الثالث حول رئاسة لبنان رغم رفض الثنائي الشيعي، وببدو أن هذا الاتجاه سيتعاظم في الفترة المقبلة حتى من قبل اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان وهو الذي سيقود إلى حل ملف الرئاسة وتمخضها عن تنصيب رئيس للبنان كون أن الأمر يعني أن الملف عبر هذا الخيار الثالث ذاهب نحو تسوية بين القوى اللبنانية".
وختم بو منصف بالقول: "أعتقد أنه الآن يجرى التحضير لآلية تسمح بنجاح التسوية في لبنان بين الأطراف اللبنانية بحيث يلعب الدور الأكبر اللجنة الخماسية، والتسويق لها داخل الأوساط اللبنانية عبر طرح أسماء جديدة للترشح للرئاسة للخروج بتسوية داخلية نهائية عبر الخماسية تراعي الموافقة السعودية والإيرانية".
الفرصة الأخيرة
مع وصول ملف الرئاسة في لبنان إلى مرحلة الانسداد الكامل، أصبحت مسألة تخلي "الثنائي الشيعي" عن ترشيح فرنجية أمرا أساسيا، ودفع هذا الثنائي إلى التفكير بـ "الخيار الثالث".
إذ أكدت وكالة "الأناضول" التركية الرسمية في 25 سبتمبر 2023 أن الموفد القطري إلى لبنان، جاسم بن فهد آل ثاني، يواصل اتصالاته ولقاءاته في العاصمة بيروت بعيدا عن الإعلام، بحثا عن المخارج المحتملة لأزمة انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية.
كما أفادت قناة "الجديد" بأن "الموفد القطري قام بجولة على عدد من القوى السياسية، بعدما أوكلت اللجنة الخماسية لقطر مهمة إيجاد مخرج للأزمة الرئاسية".
ويتوقع المعنيون في لبنان، حصول موجة ضغوط جديدة من قبل أطراف اللجنة الخماسية على حزب الله الذي يريد تطمينات من الرئيس القادم بعدم طرح مسألة "نزع سلاحه" الذي يهيمن به على المشهد الداخلي.
وحول هذه النقطة، يبين الكاتب اللبناني ألان سركيس في مقالة له نشرها موقع "نداء الوطن" المحلي في 29 سبتمبر 2023، أنه "حسب المعارضة اللبنانية فإن الرئيس الذي يحمي ظهر حزب الله هو الذي يجعل القوى الأمنية والعسكرية تصرف النظر عن نقل السلاح عبر الحدود وداخل الأراضي اللبنانية".
وكذلك "يترك الجمارك متفلتة لتسمح بتهريب البضائع لمصلحة حزب الله وأصدقائه ومموليه، وكذلك يضرب القطاع المصرفي ليجعل الاقتصاد اقتصاداً نقديا غير مراقب يكثر فيه نقل الأموال بطريقة غير مشروعة"، وفق سركيس.
وتابع "يتيح أيضا لحلفاء حزب الله نهب المؤسسات العامة، خاصة الخدماتية للاستمرار في دعمه والتغطية عليه، ما كلف المواطنين أكثر من 48 مليار دولار في العقد الماضي، ذهب نصفها هدرا على الكهرباء، وكذلك يغض النظر عن تجارة الكبتاغون ويبقي الحدود مفتوحة على مصراعيها".
وراح سركيس يقول: "أما إستراتيجيا، فترى المعارضة أن رئيسا وفق مواصفات حزب الله يضمن لإيران ممرا إلى البحر الأبيض المتوسط يكمل المعبر الممتد عبر العراق وسوريا والذي يمنع عبور أي خطوط تجارية أو نفطية إلا بقرار من إيران".
وأمام هذه المعطيات، يبقى الرهان في المرحلة المقبلة على تحقيق خرق جديد في ملف الرئاسة من قبل اللجنة الخماسية والخروج من دائرة "مرشح التحدي"، ولا سيما أن التحالفات الجديدة وضعت الكتل المسيحية في مواجهة حامية أمام "الثنائي الشيعي".
ويزيد الشغور الرئاسي في لبنان الوضع الاقتصادي سوءا في وقت تشهد البلاد منذ 2019 انهيارا اقتصاديا تسبب في إلقاء نحو 80 بالمئة من المواطنين في براثن الفقر وانهيار تام لليرة حيث صنف البنك الدولي هذه الأزمة من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850.
ولهذا فإن لودريان قال لوكالة "فرانس برس" في 26 سبتمبر 2023 إن "الدول الخمس (اللجنة الخماسية) موحدة تماما، ومنزعجة للغاية، وتتساءل عن جدوى استمرار تمويلها للبنان، في وقت يتمادى المسؤولون السياسيون في عدم تحمل المسؤولية".
ولا يزال احتمال فرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين الذين يعرقلون إنهاء الأزمة مطروحا، وقد ألمح لودريان في هذا الصدد بالقول: "من الواضح أنها فرضية مطروحة، في موازاة إصرار على أن الاستفاقة لا تزال ممكنة".
وفي هذا السياق، قال الكاتب والمحلل السياسي، يوسف دياب، إن "الوفد القطري يزور لبنان وفي جعبته اقتراحات وأسماء مرشحين لرئاسة الجمهورية، وهو ينقل إلى الأطراف مسألة إسقاط ترشيح فرنجية وأزعور ويحمل معه 4 أسماء بديلة عنها، جوزيف عون، إلياس البيسري، والنائب نعمة الله افرام والوزير السابق زياد بارود".
وذكر دياب لوكالة "سبوتنيك" الروسية في 25 سبتمبر 2023 أن "الوفد القطري يحمل جديدا في هذا الموضوع، وهذا الموقف يعبر عن وجهة نظر فريقين أساسيين في اللجنة الخماسية، الفريق الأميركي وحتى بدعم من الدولة السعودية، وبالتالي أتصور أن ما يحمله يفترض أن يشكل خرقا في جدار الأزمة الرئاسية المقفلة".