عودة لسنوات الحرب الباردة.. لماذا تصاعد التجسس الروسي في ألمانيا؟

12

طباعة

مشاركة

عادت قضية التجسس الروسي في الخارج إلى الواجهة بعد اعتقال موظف ألماني يشتبه بتجسسه لموسكو، ضمن سلسلة حادثة تُذّكر بسنوات الحرب الباردة في برلين (1947-1991).

وأعلن الادعاء العام في مدينة كارلسروه أن موظفين من المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة ألقوا القبض في 9 أغسطس/آب 2023، على موظف يعمل لدى المكتب الاتحادي للمعدات وتكنولوجيا المعلومات والاستخدام بالجيش الألماني بشبهة تجسّسه لصالح روسيا.

ويُعْتَقَد أن "توماس هـ." توجه عدة مرات "بمحض إرادته" إلى القنصلية العامة الروسية في بون وسفارة موسكو في برلين منذ مايو/أيار 2023 وعرض تعاونه، ونقل في تلك الأثناء معلومات عن نشاطه المهني "بغرض نقلها إلى جهاز استخبارات روسي".

والمكتب الاتحادي للمعدات وتكنولوجيا المعلومات والاستخدام (BAAINBw) هو سلطة تتبع وزارة الدفاع الألمانية، كما أنه أكبر سلطة فنية في ألمانيا ومقره في مدينة كوبلنز بولاية راينلاند-بفالتس.

وتتمثل مهمته الرئيسة في تجهيز الجيش الألماني بمعدات قوية وآمنة. ويركز العمل على تطوير واختبار وشراء واستخدام إدارة المواد الدفاعية.

تسلل مستمر

وتقول صحيفة إلباييس الإسبانية إن هذه الحادثة تثير مخاوف من تسلل أوسع لأجهزة المخابرات التي يديرها الكرملين في ألمانيا.

وبينت أن برلين عندما كانت مقسمة بجدارها الشهير، اشتهرت بأنها عاصمة التجسس للكتلة الشيوعية في الشرق وأيضا عاصمة الغرب الديمقراطي والرأسمالي.

وبعد سقوط "الستار الحديدي" (عام 1989) الذي وضع حدا للحرب الباردة، بدا وكأن هذا الواقع محكوم عليه بالتلاشي، ليتحول إلى أسطورة. لكن المدينة، التي أصبحت عاصمة ألمانيا الموحدة، لم تفقد جاذبيتها للأجهزة السرية.

وتحديدا، قبل ثماني سنوات، جاء هانز جورج ماسن، رئيس المكتب الاتحادي لحماية الدستور، الجهة التي تشرف على خدمات مكافحة التجسس في البلاد، ليصف المدينة بأنها "عاصمة التجسس في أوروبا".

ونوهت الصحيفة بأن برلين مدينة حديثة ونشطة ومزدهرة تستمر في جذب العملاء، وغالبيتهم من روسيا.

وتحديدا، يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - الذي كان شابا ضابطا في الكيه جي بي، جهاز المخابرات السوفيتية، والناشط في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة - هو وحكومته لمعرفة كل شيء عن المساعدات التي تقدمها ألمانيا لأوكرانيا منذ الغزو الذي أمر به الكرملين في 24 فبراير/شباط 2022. 

وبالحديث عن الحادثة الأخيرة، تقول الصحيفة إن المعتقل بتهمة التجسس توماس هـ. يعد مؤيدا لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف والصديق المعلن لروسيا، ورصد عدة مرات أمام السفارة الروسية في برلين وفي محيطها. 

وفقا لمكتب المدعي العام الألماني، "في إحدى المرات، نقل توماس معلومات حصل عليها في سياق نشاطه المهني، بهدف تزويد جهاز مخابرات روسي بها".

توغل الجواسيس

في الأثناء، أثار اعتقاله موجة من ردود الأفعال بين السياسيين وأجهزة المخابرات الألمانية، حيث يسود يقين بأن التجسس الروسي قد توغّل في أماكن كثيرة من البلاد. 

وأشارت الصحيفة إلى أن هذا القلق وهذه المخاوف لم تأت من فراغ. فبعد أسابيع قليلة من بدء الهجوم على أوكرانيا، أعلنت حكومة ولاية برلين أن جواسيس من ثلاثة أجهزة استخبارات روسية على الأقل يعملون في السفارة الروسية الواقعة في شارع أونتر دن ليندن بالمدينة.

وتتمثل هذه الأجهزة في خليفة الكيه جي بي، جهاز الأمن الفيدرالي الروسي؛ وجهاز المخابرات الأجنبية، الذي تنكر عملاؤه في زي دبلوماسيين أو صحفيين؛ وكذلك جهاز المخابرات العسكرية. 

في هذا المعنى، قال مسؤول بوزارة الخارجية (الألمانية): "من المفترض أن يكون هناك أكثر من 100 جاسوس بغطاء دبلوماسي، وقبل عام كان هناك ما يعادل 150 جاسوسا"، مشيرا إلى أن وزارته طردت 40 عميلا أجنبيا في أبريل/نيسان/ 2022.

ويضيف المصدر ذاته: "مداخل سفارة روسيا في برلين وقنصلياتها العامة في بون وفرانكفورت وهامبورغ ولايبزيغ وميونيخ مراقبة على مدار 24 ساعة في اليوم بواسطة كاميرات من مكتب حماية الدستور، المسؤول عن مكافحة التجسس".

في ظل هذا الوضع، قالت وزيرة الداخلية، نانسي فيسر: "تُظهر قضية اعتقال توماس هـ. أن قواتنا الأمنية تراقب عن كثب التجسس الروسي في ألمانيا وتتخذ إجراءات متسقة ضده". وحذرت من أن "حملات التضليل والهجمات الإلكترونية اتخذت بعدا جديدا".

منذ بداية يونيو/حزيران، أعلن جهاز الخدمة العسكرية لمكافحة التجسس عن وجود هذا التهديد بالفعل، وحذر من زيادة اهتمام خدمات التجسس الروسية والصينية بالجيش الألماني.

وقالت وزارة الدفاع في تقريرها السنوي: "تعد أجهزة المخابرات في كلا البلدين من بين أكثر الفاعلين نشاطا في مجال التجسس".

وأشارت إلى أن الحرب في أوكرانيا تلعب دورا مركزيا في كثافة نشاط أجهزة المخابرات، خاصة أن برلين زودت كييف بالأسلحة والذخيرة والمعدات، كما تدرّب أعضاء القوات المسلحة الأوكرانية.

ازدياد الاهتمام

في هذا المعنى، أشارت رئيسة "جهاز الخدمة العسكرية لمكافحة التجسس"، مارتينا روزنبرغ، في تقرير نشرته هذه الوكالة الاستخباراتية، إلى زيادة اهتمام أجهزة الاستخبارات الأجنبية، وخاصة روسيا، بالأنشطة والنوايا والتدابير المعتمدة من قبل الجيش الألماني". 

وأرجعت ذلك إلى "تسليم المواد والأسلحة إلى أوكرانيا، وتدريب الجنود الأوكرانيين في ألمانيا، وزيادة الوجود العسكري على الجانب الشرقي من الناتو (حلف شمال الأطلسي)".

من جانبها، تحذر وزارة الدفاع الألمانية من أن "العدد الكبير من موظفي المخابرات الروسية المنتشرين في البلاد يؤكد القيمة البارزة لألمانيا".

وتؤكد أنه في مواجهة الحرب الروسية في أوكرانيا، "أصبح تعزيز مكافحة التجسس ومحاربته والاعتراض المحتمل أكثر إلحاحا من أي وقت مضى".

وأضافت الصحيفة أن اعتقال توماس هـ وصف بأنه "نجاح" من قبل وزير الدفاع، بوريس بيستوريوس. وأكد المسؤول قائلا: "نحن سريعون وفي حالة تأهب. يجب أن نواصل باستمرار تعزيز أفراد جهاز مكافحة التجسس العسكري".

وواصل أنه: "في زمن الحرب الأوكرانية، علينا التكيف مع التهديد الهجين المتزايد. هناك شيء واحد واضح: نحن يقضون للغاية وسنبذل قصارى جهدنا لمتابعة كل حالة بكل حزم". 

من جانبه، أكد رئيس لجنة المراقبة في أجهزة المخابرات في مجلس النواب الألماني، كونستانتين فون نوتس، أن "الاعتقال أظهر بشكل كبير كيف أصبحت ألمانيا تحت مجهر أجهزة الاستخبارات التابعة للأنظمة الاستبدادية مثل روسيا أو الصين".

وقال النائب: "لسنا في أحد أفلام جيمس بوند أو الحرب الباردة، لكن أصبحت هذه الوكالات أكثر أهمية من أي وقت مضى". 

ونوهت إلباييس بأن حادثة الاعتقال الأخيرة لم تكن الأولى من نوعها، ومن المرجح ألا تصبح الأخيرة.

وفي الحقيقة، تمتلك ألمانيا سجلا طويلا من الاعتقالات التي تطال مسؤولين في مؤسسات حساسة بتهمة أو شكوك حول التجسس لصالح روسيا، وفق تقديرها.