تحت قبضة الرئيس.. لماذا يواصل قيس سعيد تطويع المؤسسات الإعلامية لصالحه؟

12

طباعة

مشاركة

يواصل نظام الرئيس التونسي قيس سعيّد، منذ "الانقلاب على المسار الديمقراطي" منتصف عام 2021، سياسة التضييق على حرية الصحافة ومحاولة تطويع المؤسسات الإعلامية لصالحه.

وخلال لقائه المديرة العامة للتلفزة التونسية، عواطف الدالي، في 4 أغسطس/ آب 2023، أثار حديث سعيد جدلا واسعا بين المواطنين، حيث هاجم برامج التلفزيون الرسمي ونشرة الأخبار، معتبرا أن ترتيب الأنباء داخل هذه النشرات "ليست بالبريئة إطلاقا"، متسائلاا عن سبب عدم بث برامج تتعلق بمطالب التونسيين.

هذه الحادثة التي عدتها نقابة الصحفيين التونسيين "سابقة خطيرة" لم يقدم عليها غير الرئيس الحالي، تأتي في سياق سياسة ممنهجة ورغبة في توجيه وتوظيف الإعلام في اتجاه واحد، خاصة وأن التلفزة التونسية بصفة خاصة دأبت منذ 25 يوليو 2021 على تبييض السلطة وتغييب الرأي المخالف أو الناقد لها وقدمت خدمات للسلطة لإرضائها.

توجيهات الرئيس

توقف الرئيس التونسي طويلا خلال لقائه بمديرة التلفزة الوطنية، الدالي، التي تم تعيينها أياما قليلة بعد انقلاب 25 يوليو 2023، لانتقاد برنامج تلفزيوني بعنوان "الزمن الجميل" واصفا إياه بـ"الزمن القبيح".

ولم يستطع سعيّد أن يستسيغ إطلاق "الزمن الجميل" التي عدها "تمجيدا" لحقبة زمنية كانت دون ذلك حسب رأيه، مشيرا ضمنيا إلى تواريخ بعينها لأحداث وقعت في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة (1957-1987).

وأتى سعيّد على أحداث دامية شهدتها البلاد خلال تلك الفترة، على غرار ما عرف بـ"الخميس الأسود" في 28 يناير/ كانون الثاني 1978، حين قمعت قوات الأمن إضرابا عاما عماليا بقيادة الاتحاد العام للشغل باستعمال القوة أسفر عن سقوط مئات القتلى والجرحى، وكذلك أحداث انتفاضة الخبز الدامية في يناير 1984.

وعد غريبا حجم الهجوم الذي وجهه سعيّد لفترة حكم بورقيبة، رغم أنه اعتمد في كثير من قراراته وخطاباته على شواهد من هذه الحقبة، كما حافظ سعيد على زيارة سنوية لضريح الرئيس الراحل في ذكرى وفاته، مشيدا بما يراه "دورا هاما" في بناء الدولة الحديثة في تونس.

ومخاطبا مديرة التلفزيون، قال سعيّد: "فلتنخرط مؤسسة التلفزة التونسية في مسار التاريخ، إذ ليس هذا بالخط التحريري.. هذا خط القوى المضادة للحرية ولمعركة التحرير الوطني التي يجب أن ننخرط فيها جميعا"، على حد تعبيره.

وتابع سعيّد وفق فيديو نشرته صفحة الرئاسة على فيسبوك في 4 أغسطس 2023، أن أشهر ديسمبر/ كانون الأول 2010، ويناير/كانون الثاني وفبراير/ شباط 2011، كانت "لحظة تاريخية يُراد التعتيم عليها"، وفق تصوره، داعيا للتذكير باغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ورجال المؤسسة الأمنية والعسكرية، على حد قوله.

وشدّد على أن "ما يتم بثه بهذه الطريقة من قبل مؤسسة وطنية لا يمكن أن يستمر، ويجب أن تكون المؤسسة الوطنية في خدمة التونسيين لا في خدمة اللوبيات التي تتخفى وراء الستار"، وفقه.

سيطرة تامة

ما ظهر عليه سعيّد في هذه المناسبة وفي مناسبات سابقة على أنه متابع جيّد لكل ما يتم بثه على القناة الرسمية، وخاصة نشرة الأخبار الرئيسة التي تبث على الساعة الثامنة مساء كل يوم وتعد أكثر البرامج مشاهدة في تونس، بحسب شركات الإحصاء.

وأثارت هذه النشرة حفيظة الرئيس، حيث وجه اتهاما مباشرا للقائمين عليها قائلا "نشرات الأخبار وترتيب الأنباء داخل هذه النشرات ليست بالبريئة إطلاقا".

ليست المرة الأولى التي يتوجه فيها سعيّد بانتقاد لنشرة الأخبار في التلفزيون الرسمي، فقبل يومين من انقلاب 25 يوليو 2021، اتهم وسائل الإعلام بـ"التعتيم على المجهودات التي يقوم بها" من أجل حلحلة الأزمة الصحية في البلاد، بسبب تفشي جائحة كورونا.

وقال سعيد حينها "العديد من المبادرات تم القيام بها وهذا يتم التعتيم عليه من قبل وسائل الإعلام، في شريط الأنباء  يتحدثون عن جلود الأضاحي قبل أن يتحدثوا عن مكالمات مع رؤساء دول شقيقة، كأن قضية جلود الأضاحي في تونس هي الأهم".

هذا الانتقاد تلاه مباشرة عدّة إجراءات وقرارات، فكانت ليلة 25 يوليو 2021 بداية منع حضور قادة وأعضاء الأحزاب المعارضة في الإعلام العمومي.

وتطوّرت الأمور في الأيام الموالية ليمنع ممثلا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والنقابة الوطنية للصحفيين من الحضور في برنامج حواري، وهي حادثة كانت بمثابة إعلان مبكّر عن عودة الصنصرة (الرقابة) والمنع في تونس بعد 10 سنوات من الثورة.

واكتفى التلفزيون الرسمي ببرنامج سياسي وحيد بمشاركة عدد من الإعلاميين جميعهم من مؤيدي سعيّد ومساره، وفي غياب كامل لكل الأصوات المعارضة والمنتقدة لسياسة السلطة.

واستعمل التلفزيون الرسمي في محاولات لمغالطة التونسيين، أو الترويج لروايات السلطة أو التحريض على خصومها.

ففي 6 فبراير/شباط 2022، بث التلفزيون الرسمي ندوة صحفية لما يعرف بهيئة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد، تضمن اتهامات مباشرة لعدد من القضاة بالتواطؤ مع المدانين في عملية الاغتيال وتبرئة عدد من المتهمين ممن تورطوا في عمليات إرهابية.

هذه الندوة جاءت مباشرة قبل قرار سعيّد حلّ المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وتعيين مجلس جديد وإعفاء 57 قاضيا من بينهم رئيس جمعية القضاة.

وفي محاولة للتغطية على الأزمات التي تعيشها البلاد، عمل التلفزيون الرسمي على الترويج لرواية السلطة بتحميل "المحتكرين والمضاربين" مسؤولية فقدان المواد الأساسية من الأسواق، رغم تأكيد جلّ الخبراء أن العجز في موازنة الدولة هو السبب الرئيس لغياب هذه المواد وندرتها.

وأثار بث نشرة الأخبار ليوم 9 يناير/كانون الثاني 2023 تقريرا حول مضار الحليبِ نصف الدسم في وقت تشهد فيه السوق التونسية نقصا في هذه المادة، سخرية واسعة بين المواطنين وانتقادات لأداء التلفزيون الرسمي.

مقاومة ضعيفة

هذه الإجراءات ورغم حجمها واعتبارها انحرافا خطيرا من قبل السلطة وارتدادا على كل المكتسبات التي تحققت منذ العام 2011، لم تقابل برد يتناسب مع حجمها من قبل المنظمات النقابية والحقوقية، حيث عد موقف نقابة الصحفيين التونسيين لم يرتق إلى مستوى الأحداث الحاصلة حسب كثير من المتابعين.

ففي بيانها الأخير إثر تصريحات سعيد رأت نقابة الصحفيين أن  "التدخل الذي قام به الرئيس يندرج في سياق كامل من الرقابة على الإعلام العمومي والصنصرة وضرب مبدأ التعدد والتنوع والموضوعية خاصة في التلفزة والإذاعة التونسيتين ووكالة الأنباء الرسمية".

ولم تعلن النقابة عن أي تحركات احتجاجية ردا على هذه التصريحات، واكتفت بدعوة الرئيس لاحترام استقلالية الإعلام والصحفيين بالدفاع عن استقلاليتهم.

من جهته، رأى رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، محمد ياسين الجلاصي، خلال تصريح صحفي في 7 أغسطس 2023، أن "تقديم سعيّد لتوجيهات للتلفزة، هو تمهيد لإطلاق السنة الانتخابية التي ستخوضها السلطة عبر توجيه الإعلام العمومي، والضغط على الفضاء العام ومحاولات تضييق هوامش الحرية".

وفي أكثر من مناسبة، أكّدت هيئة الانتخابات أن الاستحقاقات الرئاسية ستقام في موعدها المحدد نهاية العام 2024.

ورأى القيادي في "الحزب الجمهوري" المعارض، عيسى الخضري، أن " لا وجود لعلاقة بين الضغط على الإعلام العمومي وانتخابات 2024. لسبب بسيط وهو أن هذا النظام لن ينظم انتخابات حرة ونزيهة وعادلة يكون للإعلام دور فيها".

وأضاف في حديث لـ"لاستقلال" أن "الضغط على الإعلام العمومي هو خطوة سبقتها خطوات مع الإعلام الخاص ستليها خطوات أخرى في إطار رؤية شمولية للحكم وتوجه سلطوي أحادي يؤمن به سعيد وكرسه في دستوره".

ورأى الناشط السياسي المعارض أن "هذه الرؤية تقوم على شخصه كصاحب فكرة المشروع والمنفذ لأجندتها في الواقع، وترفض كل رأي مخالف ولا تريد أن تسمع سوى المديح".

وأكّد الخضري أن "النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين رغم تاريخ أعضائها النضالي والشريف إلا أنها سقطت في فخ التجاذب السياسي منذ 25 يوليو 2021، إذ تعرض العديد من الصحفيين المحسوبين على التيار الإسلامي أو المحافظين للتضييق ولم نسمع لهم موقف، مما أسقطها في ازدواجية أفقدتها جزءا من قوتها".

ورأى أن "وضع الصحفيين يضعهم أقرب للخضوع من رفض الإملاءات، حيث لا ننسى أن الصحفي في تونس يندرج ضمن التشغيل الهش، والصحفي رغم الحرية والحصانة التي تمتع بها خلال فترة الانتقال الديمقراطي أثبت أنه لا يتعامل مع مهنته كرسالة نبيلة أو مهمة وطنية وسلطة رابعة بل هو موظف تعليمات داخل المؤسسة التي يشتغل لحسابها". 

ورغم تحميل الكثيرين الصحفيين ونقابتهم مسؤولية الدفاع عن حريتهم والحقوق التي اكتسبوها خلال العشرية التي تلت ثورة العام 2011، إلا أن حجم الارتداد عن كل ما تحقق طال كل المجالات في البلاد.

ونجح سعيد في تحجيم دور الاتحاد العام التونسي للشغل بصفتها المنظمة النقابية الأكبر في البلاد، واستهداف الأحزاب السياسية واعتقال قياداتها وإغلاق مقرات بعض الأحزاب على غرار حركة "النهضة" و"حراك تونس الإرادة" و"جبهة الخلاص الوطني".