موسكو تستميت لتعليم اللغة الروسية في مدن النظام السوري.. ما أهدافها؟
تواصل موسكو توسيع حضورها الثقافي بسوريا عبر محاولات كسب المجتمع المحلي من خلال افتتاح فصول دراسية جديدة لتعليم اللغة الروسية بمناطق انتشار قواتها في هذا البلد.
وأولت موسكو التي تدخلت عسكريا عام 2015 لإنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط بعد ثورة شعبية تفجرت عام 2011، أهمية كبيرة لتعليم اللغة الروسية بمناطق النظام ونشر ثقافتها كذلك.
في بداية الأمر، ركزت موسكو في افتتاح صفوف لتعلم اللغة الروسية، على مناطق الساحل السوري الذي تقطنه الطائفة العلوية والتي تشكل الخزان البشري الكبير للضباط والعناصر من قوات الأسد.
وجاء ذلك استكمالا للقرار المفاجئ من وزارة التربية التابعة للنظام السوري، بإقرار تدريس اللغة الروسية ضمن المناهج التعليمية لطلاب المدارس ابتداء من عام 2014.
وبذلك أصبحت لغة اختيارية ثانية إلى جانب الفرنسية ليتعلمها الطالب ابتداء من الصف السابع، كما جرى افتتاح قسم للغة الروسية في جامعة دمشق في نفس العام المذكور.
توسيع الصفوف
لكن تمسك روسيا بوجودها العسكري في سوريا عقب غزو أوكرانيا، كونها أصبحت تمتلك حضورا على ساحل البحر المتوسط، بات يدفع موسكو لبعث إشارات ملموسة على أنها باقية في هذا البلد لمدة أطول.
ومن شواهد ذلك، عودة موسكو لتوسيع رقعة المناطق السورية التي تحتوي على منافذ لتعلم اللغة الروسية.
فقد شارك وفد برئاسة نائب رئيس دائرة العلاقات الاقتصادية والخارجية لمدينة موسكو إيغور تكاتش بتاريخ 8 يونيو/حزيران 2023 في رحلة عمل لمقر التنسيق الروسي لإعادة اللاجئين السوريين وتأهيل البنية التحتية بسوريا.
وفي إطار هذه الزيارة، حضر وفد موسكو مراسم افتتاح فصول اللغة الروسية في "مدرسة البطل باسل الأسد" في حمص و"مدرسة نذير نبعة" للمتفوقين في دمشق ومدرسة أكاديمية الإبداع" في السويداء ذات الغالبية الدرزية.
وفي خطوة عملية، جرى تجهيز الفصول بأجهزة مكتبية حديثة (السبورات التفاعلية وأجهزة العرض والكمبيوتر المحمولة والطابعات)، بالإضافة إلى مواد تعليمية عن اللغة الروسية والأدب الروسي.
أما المدرسة في السويداء فجرى تزويدها بالآلات الموسيقية ومعدات التقنية لافتتاح فصل موسيقي.
ويقتصر نفوذ النظام السوري في السويداء على مبان حكومية وقطع عسكرية بريفها، بينما أبقت روسيا علاقتها مع شيوخ عقل الطائفة الدرزية بشقيها المناهض لبشار الأسد والموالي له، على ذات المسافة من التقارب طيلة العقد الأخير، إذ قدمت نفسها كوسيط مقبول هناك.
ووقع الجانبان اتفاقيات جديدة خلال إجراء بشار الأسد في 14 مارس/آذار 2023، زيارة رسمية هي الرابعة له إلى موسكو منذ عام 2011، التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وعقب ذلك قال الأسد خلال لقاء مع الأسد أجرته وكالة "سبوتنيك" الروسية ونشرته في 16 مارس: "إن دمشق سترحب بأي مقترحات من روسيا لإقامة قواعد عسكرية جديدة أو زيادة عدد قواتها في سوريا".
وكان الأسد شخصيا من المرحبين بدفع عجلة تعليم اللغة الروسية في مناطق نفوذ قواته.
ففي أغسطس/آب 2019 وقع النائب في مجلس الدوما الروسي دميتري سابلين، مع إدارة محافظة طرطوس اتفاق تعاون ينص على تنفيذ الطرفين مشاريع في مجالات التجارة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والثقافة، وفي المجالين الإنساني والاجتماعي.
وخلال لقاء له مع سابلين، اقترح الأسد إنشاء مراكز لتعليم اللغة الروسية أو دورات لغوية لحل مشكلة عدم وجود مدرسين لهذه اللغة في سوريا، واقترح دراسة إنشاء مراكز لهذا الغرض في كل المحافظات السورية.
تسهيلات الأسد
لكن ما كان غريبا هو أن الأسد رأى أن افتتاح هذه المراكز "يسهم في حل واحدة من المشاكل المهمة في الدول العربية، ألا وهي التبعية للغرب أو الأفكار الإرهابية، بحيث يجسد تعليم اللغة الروسية بديلا ويسهم في عملية المصالحة"، وفق ما نقلت وكالة سبوتنيك في 30 أغسطس/آب 2019.
ومن هنا كانت موسكو تسير وفق تسهيلات كبيرة من نظام الأسد، ولهذا كان ظاهرا في الخطوة الجديدة لزيادة منافذ تعلم اللغة الروسية، أنها شملت مدارس المتفوقين بدمشق.
وجاء ذلك بينما ركزت روسيا خلال السنوات الماضية على تعليم لغتها لأبناء القتلى من عناصر النظام في قرى الساحل السوري.
وتأتي تلك التحركات الروسية بشأن لغتها، نتيجة لقاءات مكثفة مع وزراء في حكومة نظام الأسد لتمكين ذلك بشكل أكبر لاحقا.
إذ التقى وزير التربية في حكومة النظام دارم طباع، في 10 أبريل/نيسان 2022 برئيس وفد منظمة اتحاد العالم المسيحي في روسيا أليكسي تشركيزوف، وبحث معه "آليات النهوض في تدريس اللغة الروسية".
وحينها نقلت وكالة إعلام النظام "سانا" عن تشركيزوف تأكيده على "وجود العديد من الفعاليات لإنجازها في سوريا والتخطيط لمتابعة افتتاح شعب لتدريس اللغة الروسية (أونلاين)".
وأضاف تشركيزوف، أنهم يعملون حاليا على "تأليف كتابين باللغة الروسية، فضلا عن إقامة مخيمات للأطفال على الأراضي الروسية".
وكذلك متابعة إعداد مدرسي اللغة الروسية تربويا والتفكير بطرائق فعالة لتحقيق الأهداف المطلوبة، بحسب تعبيره.
وكان الموجه الأول لمادة اللغة الروسية في وزارة التربية التابعة للنظام، بسام الطويل، أكد أن إدراجها ضمن المناهج التربوية انطلق تجريبيا في العام الدراسي 2014 – 2015.
ووفق ما نقلت عنه وكالة أنباء النظام "سانا" في 23 فبراير/ِشباط 2021، بلغ عدد الطلاب الذين يتلقون الروسية 31 ألفا في 217 مدرسة موزعة على 12 محافظة، بكادر تدريسي يبلغ 190 معلما لهذه اللغة.
وأضاف الطويل أن "الوزارة تدرب الكوادر الموجودة لكونهم غير اختصاصيين بطرائق التدريس، وكيفية التعامل مع المنهاج".
كما تسعى إلى إعطائهم منحا للسفر إلى موسكو للتخصص بشكل أكبر في اللغة وطرق تدريسها، بالتعاون مع وزارة التربية الروسية، التي وضعت خطة سنوية لتدريب المدرسين والبحث عن حلول أخرى لرفد الكوادر التدريسية، وفق قوله.
استهداف الأطفال
وكان ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي أكد على هامش منتدى "روسيا – العالم الإسلامي" في مدينة قازان الروسية في 19 مايو/أيار 2023، أن الوزارة تبذل جهودا حثيثة لإلغاء تأشيرات الدخول مع عدد من بلدان العالم الإسلامي بينها سوريا.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أُعلن في مدينة حلب عن افتتاح أول روضة في سوريا تعلم اللغة الروسية للأطفال.
ووفق ما نقلت وسائل إعلام روسية، فإن "متحدثين أصليين للغة يدرسونها لطلاب الروضة في سن الخامسة"، زاعمة أن "هناك طلبا مرتفعا للغاية عليها".
ومن داخل أحد صفوف تلك المدارس الخاصة بحي الدعتور بمدينة اللاذقية، رأى أحد مدرسي اللغة الروسية في حديث لوكالة سبوتنيك في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أن الإقبال على تعلمها هو نتيجة "للمواقف المشرفة للأصدقاء الروس".
وفي سبتمبر/أيلول 2018 بدأت المجموعة الأولى من الأطفال السوريين السنة الدراسية الجديدة، في معهد قوات السكك الحديدية والاتصالات العسكرية، التابع للأكاديمية العسكرية للإمداد والنقل في سان بطرسبورغ.
وسعت روسيا مبكرا لتعويم نفسها في سوريا وخاصة بمدن وبلدات الساحل من خلال خطوات عديدة، كان آخرها افتتاح مركز "الفجر" لتعليم اللغة والثقافة الروسيتين، في مدينة جبلة بريف اللاذقية، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وفي هذا المركز، يمكن أن يتلقى ما يزيد عن 300 طفل سوري بمختلف أعمارهم دورات اللغة الروسية، وستتاح لهم كذلك فرصة لدراسة ثقافة وتقاليد وعادات شعوب روسيا.
وقال حينها دميتري بولغاكوف نائب وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إن هذه الخطوة تعد بمثابة التجربة الأولى من نوعها.
كما أنها تأتي تنفيذا لقرار وزير الدفاع البدء بتدريس الطلاب السوريين في كل المؤسسات التعليمية العسكرية اللغة الروسية، بما فيها تلك التي تتخصص في إعداد الضباط، وفق تعبيره.
ونوه في تصريح له 14 أكتوبر 2021 إلى أن تلك الفرصة ستتاح بالدرجة الأولى لأطفال قتلى ضباط وعناصر النظام السوري الذين قتلوا في المعارك، ومضى قائلا: "ربما سيرغب طفل ما من طلبة المركز مستقبلا بربط مصيره بروسيا"، حسب تعبيره.
من جهته بين الناطق باسم ممثلية المركز الروسي للعلوم والثقافة سابقا في سوريا نيقولاي سوخوف، أن مركز "الفجر" يخطط لتنظيم زيارات الطلاب لروسيا، للاطلاع على آثارها الحضارية والثقافية والمشاركة في مختلف الفعاليات الإبداعية والتواصل مع أقرانهم الروس.
ومن أبرز الوسائل التي تعتمد عليها المراكز الثقافية الروسية إقامة دورات لتعليم اللغة، وكذلك تعليم العزف على الآلات الموسيقية.
وأيضا الفن التشكيلي وتطوير الموارد البشرية والتصوير الضوئي والرقص الكلاسيكي، وكل هذا بما يضمن تغلغل الأبجدية الروسية داخل أدمغة الأطفال والشباب.
كسب المجتمع المحلي
ويؤكد مراقبون للشأن السوري، أن روسيا بعد منح جنودها إقامة دائمة في قواعدها العسكرية والبحرية بسوريا، وإطلاق مشاريع سياحية بالتعاون مع النظام على البحر المتوسط، تريد أن تبعث رسائل جديدة بأن لغتها تتمدد شيئا فشيئا على الأراضي السورية عبر استهداف شرائح جديدة في المجتمع.
ولذلك، وفق هؤلاء فإن موسكو بدأت في توسيع عدد المدارس التي تدرس اللغة الروسية في العاصمة دمشق وفي السويداء.
وهذا مرتبط بتقديم بعض الميزات لمن يتعلمها بالسفر لروسيا لحضور بعض النشاطات، وحتى متابعة دراسته عبر منح جامعية مجانية.
وبذلك، تستغل موسكو سوء الوضع الاقتصادي للسوريين، وتوفر لنفسها البيئة الخصبة لتمرير الغزو الثقافي بمساعدة نظام الأسد.
وفي السياق، يرى الكاتب والصحفي السوري حافظ قرقوط، أنه "من الطبيعي للدول أن تنشر لغتها وثقافتها في أي مجتمع آخر وهذا موجود منذ قدم التاريخ، لكن على ماذا تسند روسيا الآن بصفتهم دولة احتلال بسوريا ويمارسون شروطهم من خلال القوة وليس الثقافة؟".
وأضاف قرقوط لـ "الاستقلال": "وعلى ذلك فإن افتتاح مزيد من المدارس لتعليم اللغة الروسية يأتي من باب محاولة الروس إظهار حالة ثقافية في هذا البلد".
لكن في المقابل ما الذي يستفيده جيل كامل من تعلم اللغة الروسية؟، يتساءل الكاتب السوري، مضيفا: "في السابق كانت هناك بعثات إبان الاتحاد السوفيتي تذهب للدراسة هناك لأهمية بعض الدراسات في روسيا".
واستدرك قائلا: "لكن اليوم الروس دخلوا من الباب الخطأ لفرض لغتهم وليس من باب الصداقة، أما الآن الخيارات ضيقة على الناس بالإضافة إلى أن موسكو تريد أن تنشر جزءا من العمالة السورية بطريقة المرتزقة أكثر من العلاقات بين البلدين".
وخاصة أنه جرى ملاحظة تجنيد روسيا لشباب سوريين كمرتزقة في وظائف معينة تابعة لمجموعات فاغنر أو موظفين لدى الجيش الروسي في سوريا كمترجمين، بحسب قوله.
واعتبر قرقوط، أن "الروس يحاولون كسب المجتمع المحلي من خلال نشر مزيد من فصول تعلم اللغة الروسية، لكن مع ذلك هناك ابتعاد عاطفي عنها بسبب الواقع المزري الذي تشهده سوريا ولذلك فإن هذه المحاولات ستذهب للفشل".
ولفت إلى أنه "في السويداء هناك شعور بحالة من الغربة عن الروس بسبب الجرائم التي ارتكبت بحق (المواطنين) من قبل بعض عصابات الأمن العسكري التابع لنظام الأسد".
وخاصة أن كل وعود الروس لم تكن صادقة مع الأهالي رغم طلبهم التدخل لإبعاد تلك العصابات. ولذلك فإن محاولات فرض اللغة الروسية لن يكون لها أي بُعد خارج جدران المدرسة، وفق تقدير الكاتب السوري.
ولم تستطع روسيا تأمين وجودها الدائم على ساحل البحر المتوسط، إلا بعد توقيع عقدي استئجار طويلي الأجل عام 2017 لمدة 49 عاما قابلة للتمديد لمدة 25 سنة أخرى، لكل من قاعدة حميميم الجوية بريف اللاذقية وأخرى بحرية على ساحل طرطوس.
وبهذا فإن حلم روسيا بأن تصبح قوة حاضرة في المتوسط الذي كانت تخطط له منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، لإعادة إحياء مكانتها الدولية في النظام الدولي، تحقق على يد بشار الأسد.