يحشد المصريين فيصوتون ضده.. ما دلالات انقلاب النقابات على نظام السيسي؟
بعدما شاع استعمال السلطة في مصر، للرشوة المالية في حشد المصريين للتصويت لأنصارها في الانتخابات العامة، بدأ مواطنون يتحايلون عليها، فأصبحوا يأخذون المال لكنهم يصوتون لصالح منافس من يقدم لهم الرشوة.
بسبب ذلك انتشرت "حيلة" قطع العملة المالية الورقية نصفين وإعطاء نصفها لمن سيشارك في التصويت، ومطالبته بتصوير ورقته الانتخابية بالموبيل كإثبات على تصويته لمرشحي السلطة، كي يحصل على نصف الورقة المالية الأخرى!
وفي انتخابات النقابات المصرية بالشهور الأخيرة جرى استخدام وسيلة أخرى لتزوير الانتخابات، حيث تقوم السلطة بحشد صحفيي الصحف الحكومية والخاصة الموالية، أو مهندسي الشركات الحكومية في حافلات لضمان تصويتهم وفق رغبتها.
لكن المفارقة في انتخابات النقابات، أن من حشدتهم السلطة بالإكراه، صوتوا "عقابيا" ضدها واختاروا معارضيها، ما أثار حالة من الغضب الشديد لدى الأجهزة الأمنية، حسب مصادر نقابية تحدثت لـ"الاستقلال".
حدث هذا في التصويت الأخير بالجمعية العمومية لنقابة المهندسين في يونيو/ حزيران 2023 وقبله في نقابات الصحفيين والمحامين.
فما دلالات هذا التطور؟ وهل مجرد تصويت عقابي؟ أم غضب من أنصار نظام عبد الفتاح السيسي في ظل تدهور أحوالهم المالية مثل بقية الشعب؟ أم مؤشر لما هو آت ورغبة الشعب في التغيير؟
حشدوهم فصوتوا ضدهم!
كانت مفارقة حين تجمع صحفيون في مقهى نقابة الصحفيين بالطابق الثامن وسط القاهرة، عقب معركة انتخابات النقابة في مارس/ آذار 2023، وهم يضحكون، ويقول أحدهم "يستاهلوا" ويرد الآخر "عشان يتعلموا ألا يحضرونا بالتعليمات".
كان هؤلاء الصحفيون، الذين يعملون في صحيفة حكومية، يؤكدون، وهم غاضبون، أن إدارة الصحيفة أمرتهم بالذهاب للتصويت لصالح مرشحين حكوميين لرئاسة النقابة ومجلسها، ما أغضبهم بسبب الاستخفاف بهم فصوتوا ضد مرشحي السلطة.
صحفي قال لـ"الاستقلال" إنه وكثيرا من زملائه كانت تبلغهم إدارة الجريدة يوم انتخابات النقابة، بطريقة الأوامر، أن عليهم الذهاب للنقابة وانتخاب المرشح الذي تسانده السلطة وتوزيع قوائم أسماء بعينها عليهم، ويصل الأمر لمتابعتهم في النقابة.
أضاف: "سئمنا من هذه الأوامر خصوصا أن المرشح الحكومي لا يقدم لمهنة الصحافة أي دعم ويسير على طريق السلطة في تكميم الصحفيين، كما أننا غاضبون بسبب السياسات التي تتبعها السلطة لإفقار المصريين ونحن منهم، فصوتنا ضد رغبة السلطة".
صحفي آخر قال إنه فوجئ في الانتخابات الأخيرة لنقابة الصحفيين، ليس فقط بمدير التحرير يتصل به ويشدد عليه أن ينتخب "الصحفي الحكومي"، بل ويتصل به أيضا رئيس ناديه الرياضي الذي ينتمي لعضويته ليبلغه أنه يصوت للمرشح الحكومي، ما أثار غضبه وجعله لا يشعر بأي استقلالية، فصوت عقابيا ضد مرشحي السلطة.
أوضح أن الصحفيين اعتادوا على حزمة "رشاوي حكومية" للصحفيين في كل انتخابات تتمثل في زيادة "البدل المالي الشهري" الذي تصرفه النقابة لأعضائها لمعاونتهم في شراء مستلزمات عملهم، حتى أصبحت روتينية سواء فاز مرشح السلطة أو المعارضة.
وقال صحفيون ينتمون للمؤسسات المملوكة للدولة كصحف الأهرام والأخبار والجمهورية وروزاليوسف، إن عمليات الحشد التي نظمها المسؤولون في هذه المؤسسات لمرشح السلطة فشلت بسبب حجم الغضب من تردي الأوضاع المهنية.
مهندس يعمل في شركة مقاولات حكومية يشرف على إدارتها عسكريون، أبلغ "الاستقلال" أيضا أنه في اليوم المخصص لتصويت الجمعية العمومية ضد نقيب المهندسين في 2 يونيو 2023، تم حشدهم في حافلات الشركة بطريقة غير لائقة، للتصويت ضد النقيب.
قال إنهم وعدوهم بوجبة مجانية في أحد المطاعم الشهيرة عقب التصويت، ضد النقيب المستقل الذي ترغب السلطة في إسقاطه، واحتساب يوم التصويت "يوم عمل براتب"، لكنه وزملاءه صوتوا ضد رغبة السلطة ثم ذهبوا لتناول وجبتها.
قال إنه لهذا جن جنون من حشدوا المهندسين للتصويت ضد النقيب حين وجدوا أن نتائج الصناديق الـ 20 لصالحه بنسبة تقارب 90 بالمائة، وشعورهم أن بعض من حشدوهم خدعوهم وصوتوا عقابيا ضدهم، وهو ما يفسر أعمال البلطجة التي حدثت.
لكنه رأى أن ما حدث في انتخابات عدة نقابات من فوز تيار الاستقلال وهزيمة مرشحي السلطة، "مؤشر على بدء الوعي للنقابات وعودة السياسة في مصر، بعدما سعى النظام لتجميد وإلغاء الحريات النقابية والسياسية على مدار 10 سنوات.
وحملت نتائج التصويت سواء في انتخابات نقابة الصحفيين أم الجمعية العمومية غير العادية لنقابة المهندسين، دلالات سياسية وتفسيرات مختلفة.
حيث شهدت عودة نظام السيسي لممارسات النظام السابق في عهد حسني مبارك، سواء باستخدام "الرشاوي الانتخابية" أم "البلطجية"، في ظل غياب تام لأجهزة الأمن، التي اختفت فجأة من المشهد.
وأسهم في ذلك أن النقابات المهنية، تاريخيا، لديها هامش من حرية التصويت والعمل السياسي، حتى في ظل أسوأ الأوضاع الديكتاتورية سابقا، وتصاعد الغضب النقابي من سعي السلطة بعد انقلاب 2013 لتدمير كل أشكال المجتمع المدني في مصر، ومن ضمنها النقابات.
أول شرارة
إذا كانت مظاهر التمرد على السلطة في النقابات المهنية وعودة الروح لها اقتصرت على التصويت ضد مرشحيها وانتخاب معارضين أو مستقلين، فقد كانت رسالة تمرد المحامين أكثر خطورة حين تظاهروا عدة مرات، وأثاروا قلق السلطة من "شرارة غضب"
ففي ديسمبر/ كانون الأول 2022 قام المحامون بمظاهرات أمام نقابة المحامين بوسط القاهرة، ضد "الفاتورة الإلكترونية" التي فرضتها عليهم السلطة كنوع من جباية ضرائب عن أعمالهم، وكانت هذه مظاهرات نادرة في ظل منع التظاهر ونظام قمعي.
وفي يناير/ كانون الثاني 2023 توحد المحامون مجددا وتظاهروا ضد السلطة بعد الحكم على ستة منهم بدعوى تشاجرهم مع موظفي محكمة، وشكلوا شرارة أخرى أدت لتراجع نظام السيسي.
كانت وقفتهم القوية ضد النظام بمثابة أول هزة حقيقية دفعته للتراجع، لأن صدامهم مع السلطة جاء في ظل تصاعد الغضب الشعبي من تدهور الأحوال المعيشية، وتخوف السلطة أن تؤدي أي شرارة لاشتعاله.
وتعاملت السلطة بسرعة مع الأزمة، وأطلقت سراح المحامين المحبوسين، وسعت لحل وسط بالمصالحة بين الطرفين، ما عده مراقبون بمثابة "انحناء للريح" في وقت تعصف فيه الأزمات بمصر.
وقبل هذا سيطر مرشحو التيار الخدمي والمستقلون على نقابة الأطباء عقب عزوف مرشحي الإخوان عن الترشح، وأظهرت آخر انتخابات أجريت بالنقابة يوم 8 أكتوبر 2021 فوز مرشحي «تيار المستقبل»، و"قائمة الأمل" وهما قائمتان خدميتان.
حيث فاز "تيار المستقبل" غير المحسوب على أي من التيارات السياسية، بـ 10 مقاعد من 12 مقعدا للنقابة العامة، وبالغالبية العظمى من مقاعد النقابات الفرعية.
وكان أبرز الفائزين هو الدكتور أحمد حسين، منسق "جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية للصحة النفسية" في مواجهة سعي الجيش للاستحواذ على أرضها.
وسبق أن أظهرت أزمة مقتل طبيب بنقابة الأطباء تعذيبا في قسم شرطة مدينة "جمصة" بمحافظة الدقهلية، يوم 6 مارس/ آذار 2023، ومطالبة النقابة بالتحقيق مع مأمور القسم وضباطه، ثم تراجعها حجم تدخل الأمن في النقابات.
وحينها، أعلن عضو مجلس نقابة الأطباء الدكتور أحمد حسين أول أبريل/نيسان 2023 استقالته، احتجاجا على حذف النقابة بيانا سبق أن طالبت فيه بالتحقيق مع ضباط وأفراد قسم شرطة جمصة الذي شهد وفاة الطبيب المحتجز فيه.
أيضا دخلت نقابة الصيادلة، الواقعة تحت حراسة قضائية منذ سنوات، على خط الزخم الحاصل في العمل النقابي، وشكل عدد من أعضائها ما يسمى بـ "اتحاد أمل صيادلة مصر" للضغط من أجل إنهاء الحراسة وإجراء انتخابات عامة بها.
وعقد الاتحاد الوليد أول اجتماعاته، 3 يونيو 2023 وطالب الحكومة بوضع ملف رفع الحراسة عن نقابة الصيادلة على طاولة اهتمامها، مشددا على أهمية إدراج هذه القضية ضمن النقاشات الدائرة في الحوار الوطني.
وناشد أعضاء مجلسي النواب والشيوخ (البرلمان) من الصيادلة تقديم طلبات إحاطة لمناقشة قضية رفع الحراسة.
وتؤشر تحركات أعضاء الصيادلة على المستوى السياسي، والتي سبقتها تحركات قضائية مماثلة لم يتم البت فيها بعد، على أن نقابة الصيادلة التي تضم أكثر من 300 ألف عضو قد تكون حاضرة في الحراك النقابي الجديد الفترة المقبلة.
مؤشر لما هو قادم
ويمنح خفوت نجم الأحزاب السياسية في مصر وتراجع حضور الجمعيات والمنظمات الحقوقية، تحركات النقابات، اهتماما غير مسبوق من قبل الرأي العام المصري، وفق صحيفة "العرب" الصادرة في بريطانيا 5 يونيو/حزيران 2023.
وكانت السيطرة على النقابات الكبرى، القوية سياسيا، في مصر، هي أحد أبرز أهداف السيسي عقب سيطرته على الحكم عام 2013، لأنها ضمن بنود سياسته الخاصة بتجفيف ينابيع السياسة، وقتل الحياة السياسية.
"كانت سيطرة نظام السيسي على النقابات، ووضع مؤيديه على رأسها، بعد استقالة المسؤولين النقابيين الإخوان أو اعتقالهم، أحد أبرز هزائم ثورة يناير 2011"، حسبما يرى عضو سابق بمجلس إحدى النقابات فضل عدم ذكر اسمه لـ "الاستقلال".
لهذا يعد "انعتاق" النقابات التدريجي من هيمنة نظام السيسي وسقوط أغلب الموالين لنظامه في انتخاباتها المتتالية، أمام معارضين أو مستقلين نسبيا، بمثابة رسالة للسلطة أن النقابات بدأت تمتلك إرادتها وتتحرر من قبضة النظام، وفق قوله.
توالي هزيمة الموالين للسلطة في نقابات المهندسين مارس/آذار 2022 (نقيب مستقل ومجلس موال للسلطة)، ثم المحامين سبتمبر/أيلول 2022 (نقيب ومجلس مستقلين نسبيا).
ثم تحرر نقابة الكلمة (الصحفيين) مارس/آذار 2023 (نقيب ومجلس معارض)، شكل صدمة للنظام لأنه كشف خروجها من يده وهيمنته.
الانتصار الثاني الذي تحقق في نقابة المهندسين على حزب مستقبل وطن (شبه الحاكم) يوم 30 مايو/ أيار 2023 خلال التصويت لإزاحة النقيب المستقل طارق النبراوي، ضاعف جراح السلطة، لذا تعاملت معه بعنف لفشلهم في التخلص منه.
ما أزعج السلطة أن هذا "الحراك النقابي" والتحرر من قبضة السلطة، خاصة في نقابة الصحفيين، هو اعتبار ذلك مؤشرا على المزاج العام والموقف من السلطة الحاكمة، والذي يُعتقد أنه سينعكس على الانتخابات العامة مثل انتخابات الرئاسة 2024.
ووصف يحيى قلاش، نقيب الصحفيين المصريين الأسبق انتخابات نقابة الصحفيين بأنها "تمثل بوصلة لما هو قادم، ولا تقتصر دلالتها على أوضاع النقابة"، حسب ما قال لصحيفة "القدس العربي" في 29 مارس 2023.
ربما يفسر هذا ضمنا سعي السيسي لتبكير انتخابات الرئاسة بحيث تكون في يناير 2024 لا مارس وأبريل كما هو مقرر تحسبا لقرارات ستغضب المصريين، وفق موقع "إفريقيا إنتليجنس" الاستخباري الفرنسي في 5 يونيو 2023.
قال إن عبد الفتاح السيسي يرغب في تقديم موعد انتخابات الرئاسة بحيث تجرى في شهر يناير 2024، أي قبل 3 أشهر تقريبا من الموعد الذي كان مقررا لها "لأنه سيصدر قرارات اقتصادية مؤلمة ربما يكون لها رد فعل شعبي كبير".
ونقلت صحيفة "العربي الجديد" مطلع يونيو 2023 عن عضو بمجلس الأمناء في الحوار الوطني تأكيده أن "التصويت المتكرر في النقابات برفض ممثلي الحكومة أو النظام، هو تصويت على سياسات النظام الحاكم نفسه، ورغبة حقيقية في التغيير".
أكد أن "التغير في الموقف من قطاعات كانت داعمة بقوة لعبد الفتاح السيسي ونظام حكمه، بعد عشر سنوات، هو بمثابة تصويت لا بد أن يلتفت إليه، ويدرك جيدا أن الشعب منحه الفرصة لمدة 10 سنوات وهي كافية تماما".
وشدد على "ضرورة فتح المجال العام، والسماح بتغيير سلمي، وهو الأمر الذي يجب أن تدركه المؤسسات الحاكمة في مصر جيدا، حتى لا يحدث ما يريده الجميع بانفجار شعبي أو ثورة جديدة تطيح بكل شيء".