تراخي الدولة أم غياب القانون.. هل يستمر مسلسل إفلات الشرطة من العقاب في موريتانيا؟

تعيش موريتانيا على وقع احتجاج شعبي ومظاهر عنف، إثر مقتل شاب عقب اعتقاله من لدن الشرطة، ثم مقتل شاب ثان بالرصاص خلال مظاهرات احتجاجية على عنف رجال الأمن.
وفي الرواية الرسمية للوفاة الأولى، قالت الشرطة، عبر بيان على صفحتها بـ"فيسبوك" في 29 مايو/أيار 2023، إنه "في حدود منتصف الليل لاحظ شرطيان كانا يقومان بأعمال الدورية في مقاطعة السبخة بالعاصمة نواكشوط، مجموعة من الشبان في حالة تشاجر وعراك عنيف".
وأوضحت أنه "بالاقتراب من مكان الواقعة اتضح أن الأمر يتعلق بثلاثة أشخاص يقومون بالاعتداء على رفيقهم الرابع، وهو عمار جوب الذي كان وقتها في وضعية شبه فقدان كامل للوعي".
وذكرت أنه "تمكنَ الشرطيان من تخليصه، بينما فر الثلاثة الآخرون بسيارتهم قبل وصول الدعم الذي طلبه الشرطيان من المفوضية".
وقالت إنه بعد ذلك تمت مرافقة "جوب من طرف الشرطيين إلى المفوضية بالسبخة حيث تم توقيفه هناك بغرض التحقيق وكشف الملابسات، لكن المعني اشتكى في حدود الثانية فجرا من ضيق في التنفس ليتم نقله فورا إلى المستشفى الوطني حيث عاينه الطبيب المداوم وكتب له وصفة طبية".
وأوردت الشرطة، أنه "بعد فترة قصيرة بدأت حالته الصحية تتدهور وهو ما يزال في المستشفى، ورغم محاولات الإسعاف التي قام بها الطاقم الطبي المداوم إلا أن القضاء والقدر قد سبقا، وتوفي المعني أثناء محاولات إسعافه".
غضب واحتجاج
انتشار خبر وفاة "جوب" بعد اعتقاله من لدن الشرطة أدلى إلى موجة غضب واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحول إلى مظاهرات بمدن موريتانية عدة.
ووفق موقع "الصحراء" المحلي في 30 مايو 2023، خرج المحتجون في مدينة بوكي بولاية لبراكنه إلى الشوارع، وأشعلوا الإطارات؛ تعبيرا عن "رفضهم" لما حدث مع جوب، حيث طالبوا بمعاقبة الجناة.
وأوضح المصدر أن مدن كيهيدي وروصو ونواذيبو شهدت احتجاجات مماثلة، فيما تجددت الاحتجاجات على مستوى بعض مقاطعات العاصمة نواكشوط.
من جانبها، وصفت أحزاب المعارضة الأجهزة الأمنية في البلاد بأنها "أصبحت سيفا مسلطا على رقاب المواطنين، وسببا في زهق أرواحهم بدل أن تكون جهازا كفؤا وقادرا على حماية أمنهم والحفاظ على ممتلكاتهم".
ودعت الأحزاب المعارضة في بيان صادر عنها في 31 مايو 2023، السلطات القضائية والإدارية لإجراء تحقيق فوري، عادل ونزيه في ملابسات قضية مقتل المواطن عمر حمادي جوب، واتخاذ الإجراءات العقابية، الجنائية والإدارية بحق المتورطين في هذه الجريمة التي وصفتها بـ"البشعة".
وذكرت أن "هذا الحادث الأليم، يأتي ضمن عدد الحالات المشابهة التي راح ضحيتها مواطنون أبرياء، بفعل عنجهية وظلم الأجهزة الأمنية".
ووقعت على البيان أحزاب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، وتكتل القوى الديمقراطية، واتحاد قوى التقدم، و"الصواب"، والتحالف الشعبي التقدمي، والجبهة الجمهورية للوحدة والديمقراطية.
أزمة متصاعدة
في اليوم الموالي لمقتل جوب، قُتل الشاب محمد الأمين صمب، عقب إصابته برصاصة مباشرة على مستوى البطن، خلال مشاركته في مظاهرة بمدينة بوكي (300 كيلومتر جنوب نواكشوط).
وبحسب موقع "زهرة شنقيط" المحلي، في 30 مايو 2023، قدمت الحكومة رسميا تعازيها وتعازي رئيس الجمهورية لأسر الفقيدين جوب وصمب، خلال مؤتمر صحفي مشترك لوزيري الداخلية والتجهيز، بمقر الوكالة الموريتانية الرسمية للأنباء.
وقال وزير الداخلية، محمد أحمد ولد محمد الأمين، إن السلطات تجري تحقيقا أوليا في وفاة المرحوم محمد الأمين ولد صمب، الذي تعرض لإطلاق نار.
وأضاف الوزير خلال المؤتمر الصحفي بالعاصمة نواكشوط، أن المحتجين حاولوا اقتحام مفوضية الشرطة بمدينة بوكي، على غرار ما أسماه "أعمال الشغب" التي شهدتها المدينة، إثر حادث وفاة المواطن جوب.
وأكد أنه فيما يخص ظروف وفاة عمر جوب، فقد "تم توضيح حيثياتها وملابساتها في بيان الإدارة العامة للأمن الوطني"، وأن مجريات تحقيق قضائي بخصوص القضية متواصلة.
وأوضح الوزير أن نواكشوط ومدينة بوكي، عرفتا "أحداث شغب مدانة، كان أكثر مشاغبيها مجموعات من القصر، عملت على إتلاف الممتلكات العمومية والخاصة وزعزعة السكينة العامة".
من جانب آخر، عقد وكيل الجمهورية في ولاية نواكشوط الغربية، أحمد ولد عبد الله ولد المصطفى، مؤتمرا صحفيا في مقر المحكمة، قال فيه إن "نتائج التقرير النهائي لملابسات وفاة جوب سيتم إعلانها فور استكمال عناصره".
وجاء في البيان التوضيحي من النيابة العامة، في 30 مايو 2023، أن "النيابة بادرت مباشرة إلى فتح تحقيق في حادثة وفاة المرحوم جوب، بمجرد علمها به".
وأوضح أنه "في إطار هذا التحقيق، تم تشريح جثمان المرحوم لدى مصلحة الطب الشرعي بمركز الاستطباب الوطني بحضور ممثل ومحام عن العائلة".
وذكر أن الطبيب الشرعي قرر استكمال التشريح بتحليلات مخبرية لعينات من محتوى المعدة والدم والبول، وعلق تقريره النهائي على استكمال هذه التحليلات التي تقرر إجراؤها في مختبر أجنبي، وجار العمل على إنجازها في أسرع وقت ممكن.
وأوضح المسؤول القضائي أنه "تم الاستماع لأفراد الشرطة الذين كانوا في المفوضية ليلة حصول واقعة الوفاة، ويجرى تعقب أشخاص كانوا مع المتوفى في الشارع العام عند حضور الشرطة".
من جانبه، أصدر حزب "الإنصاف" الحاكم، بيانا واسى فيه أسر فقيدي الأحداث الأخيرة، مؤكدا في الوقت ذاته أنه يشد على يد الحكومة وقوات الأمن في عملها من أجل الحفاظ على أمن الوطن وسكينته.
وأكد الحزب في بيان 30 مايو 2023، ثقته في القضاء لـ"كشف الحقيقة والتعامل معها وفق ما يمليه القانون".
وأهاب الحزب بالسياسيين والحقوقيين والإعلاميين "من أجل التروي وتحري الصدق، خصوصا في الأمور التي تتعلق بأمن الوطن وسكينته، بصفتهما من مسؤولية كل مواطن مخلص، وعلى الجميع النأي بهما عن الحسابات السياسية الضيقة".
تراخي الدولة
وفي تحليله للأسباب المؤدية إلى هذه الحوادث، قال الأستاذ الجامعي نور الدين محمدو، إن سبب وفاة المرحوم جوب، وتكرار حوادث قتل الشرطة لمواطنين، "يرجع إلى التراخي الذي أصاب أجهزة الدولة بصفة عامة".
وأوضح محمدو لـ"الاستقلال"، أن "الجهاز الأمني تأثر بهذا التراخي وبالفساد الإداري، كما تأثر بضعف السياسة، وضعف النظام وترهله".
وشدد الأستاذ الجامعي على أن "هذا الواقع المؤلم تضرر منه جميع المواطنين، بصرف النظر عن لونهم أو انتمائهم"، معتبرا أن "قول غير ذلك مزايدة غير مقبولة".
ونبه محمدو إلى أن "ما وقع هو قتل خارج القانون، وإن كان يوصف بأنه قتل خطأ إلا أنه قد اتُخذت إجراءات تؤدي إليه، بمعنى أنه لم تُتخذ الإجراءات الرادعة عنه، ولم يتم تطبيق القانون".
وذكر المتحدث ذاته، أن "هذا الحادث هو مخرج من مخرجات غياب دولة الحق والقانون، دولة إحقاق الحق وإبطال الباطل".
وأضاف، ذلك أنه قبل فترة قُتل الناشط الحقوقي الصوفي ولد الشين في مفوضية للشرطة، وزهقت روحه بشكل مفجع ومفاجئ، وخلالها كذب جهاز الشرطة في حيثيات الواقعة، دون أن نصل إلى العدالة في مقتله إلى الآن.
واسترسل: "وقعت أخطاء قاتلة، إذ أن الجهاز التنفيذي لم يتخذ إجراءات زجرية، ولم يصدر أي قرار أو حكم على الفاعلين، ونحن نعلم حرمة زهق الأرواح في ديننا الإسلامي".
وأشار محمدو إلى أن "أخطاء الجهاز الأمني أو الشرطي يمكن أن تقع في كل الدول، بما فيها المتقدمة والأكثر ديمقراطية، لكن، إن تكررت تلك الأخطاء في زمن واحد، وفي نفس الظروف، تصبح مشكلة حقيقية".
وهذا التكرار، يقول الأستاذ الجامعي، هو ما نعيشه اليوم، "في ظل فشل النظام في حلها، بل ربما كان مساهما أو متواطئا في إبقائها أو تكرارها، بعدم محاسبة الفاعلين والمتورطين".
وعبر محمدو عن شجبه "محاولة ركوب الأمواج السياسية بسبب هذا الحادث، وإثارة النعرات العرقية والجهوية"، قائلا إنها "بضاعة كاسدة".
ودعا إلى "الوقوف في صف واحد ضد هذه الأصوات والدعوات، وفي نفس الوقت، عدم السكون أمام الأخطاء والاختلالات التي يرتكبها الجهاز الأمني والتنفيذي في حق المواطنين".
وفي هذا الإطار، دعت هيئة العلماء الموريتانيين، الخيرين وأصحاب العقول إلى إسناد الأمر إلى المعنيين به والابتعاد عن ركوب الأمواج، وأن يعلموا أن ما يقع من سفك للدماء وإفساد للأموال عليهم وزره وضمانه.
وقالت الهيئة عبر بيان مطلع يونيو/حزيران 2023، إن "ما يحدث من ركوب للأمواج واستغلال أصحابها للأحداث، يعتبر من الأفعال الخطيرة والمعاول الهادمة لوحدة المسلمين".
كما دعت الجميع إلى "الابتعاد عن الشحن والإخلال بالأمن، والخروج على السكينة، لما يترتب على ذلك من خطر يتحمل أصحابه مسؤولية ما يجرى".
دعوات للمحاسبة
شخصيات فاعلة في الأوساط الإعلامية والسياسية والثقافية الموريتانية دعت إلى تطبيق القانون، ومحاسبة كل المتورطين في إزهاق الروح، وتجنب العنف أو الفوضى.
وفي هذا الصدد، قال الإعلامي أحمدو الوديعة: "العنف مدان كله أيا يكن مقترفه وضحيته، والأمن مطلب الجميع".
وشدد الوديعة في تدوينة نشرها بحسابه على "فيسبوك" في 30 مايو 2023، على أن "بسط العدل، وإنفاذ القانون، ووقف الإفلات من العقاب، ووقوف الكل في وجه الظلم، والأخذ على أيدي الظلمة، هو الطريق الآمن الوحيد للمستقبل الذي نحلم به جميعا".
أما الناشط السياسي محمد محمود مماه، فقال: "حين يقف الجميع في وجه الظلم ويطالب برد المظالم دون البحث في لون الضحية وسوابقه ودون تخوين من يطالب بحقه ومن يناصرون المظلومين؛ حينها فقط يحق لنا أن نصف من يخرج على الإجماع ويختار التخريب بالمخرب".
واسترسل مماه في تدوينة على "فيسبوك" في 30 مايو 2030، "إما أن تنبشوا في ماضي كل متهم وضحية، وتلوموا من ناصره وتخونوه، فلا تلوموا إلا أنفسكم حين يصرخ المظلوم ويبطش ذووه، ويروكم أنهم قادرون على إلحاق الأذى بطريقة أبشع".
وأضاف: "هذا وإني ضد أي عنف أيا كان مصدره، وإني لا أثق في تقارير شرطتكم الوطنية، حتى تثبت من طرف محايد موثوق".
أما نائب رئيس مركز تكوين العلماء، الشيخ محفوظ إبراهيم فال، فقال في تدوينة على "فيسبوك" في 30 مايو 2023، "الفوضى لا تبقي ولا تذر، لا تنصر مظلوما ولا تنتصف من ظالم يجب الحذر منها".
وتابع: "كما يجب القضاء على أسبابها، وأول ذلك تحقيق العدل والابتعاد عن ريبة الظلم فضلا عن صريحه".
أما الشاعر والأديب شيخ نوح، فكتب عبر حسابه على "فيسبوك" في 30 مايو 2023، "رحم الله عمره جوب ومحمد الأمين، ويجب أن لا ننسى دماءهما مع الوقت، حتى تأخذ العدالة مجراها، وينزل بالقتلة العقوبة الرادعة".
وأكد أن "في الوسائل السلمية متسع لأخذ الحقوق كاملة، أما من يبررون قتل المواطنين ويشوهون سمعة الضحايا فذاهبون إلى مزبلة التاريخ كأسلافهم في المنهج والرذالة".
نظرة للمستقبل
لتلافي تكرار مثل هذه الأحداث المؤلمة، أكد الناشط الحقوقي والسياسي، والباحث في العلاقات الدولية، هدو ولد الداه، وجوب العمل على وضع حد لمثل هذه الجرائم.
ومما يجب القيام به، يقول ولد الداه لـ"الاستقلال"، العمل على "وجود آلية مراقبة فعالة على أفراد الأجهزة الأمنية، لضمان الالتزام بالقانون ومنع العنف والتعذيب، وأيضا لإثبات أي اعتداء قد يرتكب من قبلها".
ثانيا، يردف الناشط السياسي، "لا بد من تطبيق صارم للقانون، ومعاقبة كل من يثبت تورطه في جريمة عنف أو تعذيب، فلا بد من عدالة نافذة تردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على الناس".
وأضاف ولد الداه، "كذلك يجب كشف الحقائق بكل شفافية وصدق، وتحديد كل من يتحمل فيها مسؤولية وإنزال العقوبة الرادعة به".
ونبه إلى أن "من أخطر ما تسببه هذه الجرائم والتي زاد منها الإفلات من العقاب، هو فقدان الثقة في أجهزة الدولة، والتي تصبح عامل خوف له بدل أن تكون سبب أمنه".
واسترسل: "لذلك من أولى ما ينبغي على القوى الحية أمام مثل هذه الأحداث القيام به، هو الاصطفاف مع أهل الضحية والمطالبة بتحقيق العدالة بكل حزم".
وأكد ولد الداه، أن "من أهم ما يحافظ على السلم الاجتماعي هو حمل الجميع لِهمِّ كل مظلوم والوقوف معه، وكذلك التركيز على المسائل الجوهرية والأسباب الحقيقية التي تهدد اللحمة الوطنية، من ظلم وحيف وفساد وتمييز".
وقال المتحدث ذاته، إنه "لا بد من الجهر برفض هذه المهددات بكل صراحة، والنضال من أجل القضاء عليها بكل حزم".
أما الأستاذ الجامعي نورالدين محمدو، فيرى أن "ضمان عدم تكرار ما وقع، يتركز في تطبيق القوانين"، مشيرا إلى أن "وفرة القوانين والنظم الزاجرة ليس هو الإشكال".
وقال محمدو لـ"الاستقلال"، إن "الترسانة القانونية والإجرائية والجنائية وحتى الإدارية تعتبر متكاملة إلى حد كبير بموريتانيا".
وأضاف "لو طبقت القوانين، وأدين جميع الظلمة في الجهاز الأمني، وطبقت على الشعب وعلى السلطة لمرت الأمور بسلام".
وشدد محمدو على أن "تفعيل القوانين التي تتعلق بتجريم التعذيب، والالتزام بالإجراءات القانونية وخطوات الضبط والاعتقال والاحتجاز، كفيلة بالإحاطة بالإشكالات القائمة ومعالجتها من أصولها".
المصادر
- موريتانيا: احتجاجات في عدة مدن للمطالبة بالتحقيق في وفاة عمار جوب
- وزير الداخلية: الوضع عادي وتحت السيطرة التامة
- حزب الإنصاف يواسي أسر الفقيدين ويؤكد ثقته في القضاء لكشف الحقيقة
- أحزاب المعارضة: الأجهزة الأمنية أصبحت سيفا مسلطا على المواطنين
- النيابة العامة تصدر توضيحا بشان التحقيق في وفاة عمر جوب
- الحكومة تعزي ذوي الفقيدين عمر جوب ومحمد صمب