ظاهرة متنامية.. ما تأثير التحول السريع للتعامل بالدولار على اقتصاد لبنان المأزوم؟
ينهش الغلاء الفاحش جيوب اللبنانيين مع انهيار العملة الوطنية "الليرة" وتنامي ظاهرة التعامل بالدولار بدلا عنها سواء في رواتب بعض القطاعات الخاصة، أو ازدياد تعامل المحلات التجارية بالعملة الأميركية كخيار يبقيهم في دائرة الربح.
وأمام ذلك، حذر البنك الدولي من تنامي اقتصاد نقدي بالدولار في لبنان بعدما بات يقدر بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي ويبدد السياسة المالية ويزيد من عمليات غسل الأموال والتهرب الضريبي في هذا البلد الذي تجتاحه أزمة اقتصادية منذ عام 2019.
دولرة الاقتصاد
وأورد البنك الدولي في تقرير نشر في 17 مايو/أيار 2023، أن الاقتصاد اللبناني ما زال في حالة تراجع حاد، وهو بعيد كل البعد عن مسار الاستقرار، ناهيك عن التعافي.
وأوضح بالقول: "أدى فشل النظام المصرفي في لبنان وانهيار العملة إلى تنامي ودولرة اقتصاد نقدي يُقدر بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي في عام 2022".
ويقدر "الاقتصاد النقدي المدولر"، وفق التقرير، "بنحو 9,9 مليارات دولار أو 45,7 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي"، ما يعكس "تحولا سريعا نحو المعاملات النقدية بالعملات الصعبة في أعقاب فقدان كامل للثقة بالقطاع المصرفي الضعيف وبالعملة المحلية".
ويرى المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي جان كريستوف كاريه، أنه ما دام الاقتصاد في حالة انكماش وظروف الأزمة قائمة، سيزداد تراجع مستويات المعيشة، وستستمر معدلات الفقر في الارتفاع.
وأضاف أن "التأخير في تنفيذ خطة شاملة للإصلاح والتعافي سيؤدي إلى تفاقم الخسائر".
وشدد البنك الدولي على أن الاقتصاد النقدي يهدد بالمساس بفعالية السياسة المالية والنقدية، ويزيد من إمكانية غسل الأموال، فضلا عن زيادة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، والتشجيع على زيادة التهرب الضريبي.
وتعني "الدولرة" بيع كل السلع والخدمات بالدولار أو على سعر صرف السوق الموازية، مما يؤدي إلى ضرب القدرة الشرائية لـ90 بالمئة من السكان الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلية.
وحاليا، باتت المتاجر في لبنان تسعر بضائعها بالعملة الأميركية، كما تدفع شركات عدة رواتب موظفيها بالدولار النقدي جراء القيود المشددة التي تفرضها المصارف على عمليات السحب.
انهيار الليرة
ويعتمد لبنانيون كثر على أموال المغتربين من أقربائهم التي يستلمونها من شركات الحوالة بالدولار الأميركي، ومن الحركة السياحية في البلاد.
وسجلت الليرة اللبنانية في تعاملات الأسواق الموازية انهيارا غير مسبوق في تاريخها حيث تترنح منذ أبريل/نيسان 2023 إلى اليوم، بين 95 و98 ألف ليرة لكل دولار واحد.
ويرجع الخبراء سبب وجود السوق الموازية في لبنان إلى الشلل المؤسساتي وعجز الحكومة عن الإصلاحات، والمضاربة على سعر صرف الدولار.
وقد ضاقت سبل العيش بكثيرين بعدما ضعفت قدرتهم الشرائية وعدم استطاعتهم تلبية الاحتياجات اليومية أمام ارتفاع الأسعار مقارنة بالدخل الشهري الضعيف، جراء أزمة لبنان الاقتصادية التي صنفها البنك الدولي "من بين الأسوأ في العالم" منذ العام 1850.
لكن ظاهرة الدولرة بدأت تزحف شيئا فشيئا نحو مختلف جوانب حياة، ورغم أنها لم تكن جديدة على الشارع اللبناني، فما تزال مرفوضة.
وعدلت متاجر كبرى في بيروت وضواحيها منذ مارس/آذار 2023 أسعار بضائعها لتصبح جميعها بالدولار باستثناء الخضراوات والفاكهة غير المستوردة.
لكن رغم هذا فإن ذلك أمر مربك لمواطن لا يحمل الدولار وسوق مضطرب تتقلب فيه الأسعار بين ليلة وضحاها، لدرجة أن بعض المتاجر اضطرت لوضع شاشة تحدد سعر صرف العملة لديها لمن يرغب دفع مشترياته بالليرة.
كما تعتمد المحلات التجارية على السوق السوداء لتسعير بضائعها، مما يدفعها إلى تغيير الأسعار بشكل شبه يومي، حتى إن بعض المتاجر اعتمدت سعر صرف يفوق السوق السوداء لضمان أرباح إضافية.
ويأتي ذلك في وقت بلغ فيه معدل التضخم، وفق البنك الدولي، 171,2 بالمئة عام 2022 ليكون من "أعلى المعدلات على مستوى العالم".
عجز حكومي
كما يزيد الشلل السياسي الوضع سوءا، في ظل فراغ رئاسي منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022، وفشل البرلمان اللبناني 11 مرة في انتخاب رئيس جراء انقسامات سياسية عميقة.
علاوة على أن لبنان تديره حكومة تصريف أعمال برئاسة نجيب ميقاتي عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية، بينها إصلاحات يشترطها المجتمع الدولي لتقديم الدعم من أجل وقف النزيف الحاصل.
يقول جمال منصور وهو موظف حكومي في بيروت، إن "ظاهرة التعامل بالدولار في لبنان أصبحت شائعة في عمليات الشراء من البقالات والمحروقات وفي المطاعم والمشافي وحتى في الصيدليات التي تبيع الدواء بعد مراجعة سعر الصرف وتقلباته".
وبين منصور لـ "الاستقلال": "أن غياب الرقابة وانحلال الحكومة هو السبب الرئيس في ذلك والذي خلق عمليات احتكار تدفع المواطنين للتعامل بالدولار لتحصيل متطلباتها، ولذلك العوائل في صراع يومي مع قوتها ومعيشتها ولولا حوالات الخارج من الأبناء لتحول البلد إلى غابة".
وتساءل منصور قائلا، "كيف يمكن أن تكون هناك قيمة لليرة اللبنانية، مع الإفلاس في القطاع المصرفي وتجميد أموال المودعين، وعجز الدولة عن دفع الرواتب والأجور وكل النفقات المتوجبة عليها؟".
ومضى يقول: "اليوم الشباب في لبنان يهربون للخارج للعمل بالدولار وتحويله لأهلهم كي يستطيعوا تأمين احتياجاتهم الأساسية".
عملة تابعة
ويرى الخبراء أن تخلي لبنان عن عملته المحلية لصالح الدولار كما هو حاصل يعني ربط مصير العملة بالمصرف المركزي الأميركي، وما ينجم عن ذلك بالتحكم بمعدلات الفائدة وسواها.
لذلك وفق هؤلاء فإن الحل الأولي هو وقف تذبذب سعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية، ورفع رواتب الموظفين، والإسراع بتنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي المطلوبة لإقراض لبنان.
وما تزال القوى السياسية الحاكمة في لبنان تماطل في الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي لإقراضه قرضا ماليا بقيمة 3 مليارات دولار، علها تمنع من انهياره.
وتقضي الخطة المبرمة بين لبنان وصندوق النقد الدولي، بإبرام اتفاق مبدئي بينهما لمنح بيروت مساعدة بهذه القيمة على أربع سنوات.
ويعد توحيد أسعار الصرف المتعددة إحدى الخطوات العديدة التي طلبها صندوق النقد الدولي من لبنان لإبرام حزمة المساعدات تلك.
وتشير التقديرات الدولية إلى أن ثلاثة أرباع سكان لبنان البالغ عددهم 6 ملايين يعيشون في براثن الفقر.
وسبق أن أكدت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، في زيارة إلى بيروت، أنه لا بديل أمام تعافي لبنان الاقتصادي، سوى إحراز تقدم صوب إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وقالت ليف، في إفادة إعلامية بتاريخ 31 مارس 2023، إنها حثت مسؤولي لبنان على إحراز تقدم في الاتفاق بأكمله وإنهاء فراغ منصب الرئيس.
وحدث شغور في هذا المنصب منذ أن غادر قصر بعبدا رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في نهاية أكتوبر 2022.
اللائحة الرمادية
ويعاني لبنان تحديدا من النقص الحاد في السيولة من الدولار الأميركي لسداد موارده من الطاقة لتشغيل محطات الكهرباء، نتيجة عمليات الفساد ونهب أموال الدولة.
والأموال المنهوبة في لبنان قدرتها وزارة الخزانة الأمريكية بـ 800 مليار دولار كما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست".
ونهب تلك الأموال 90 بالمئة من الذين حكموا البلاد بحسب ما نقلت وكالة الأناضول عن صحيفة "وول ستريت جورنال"، في قرير لها بتاريخ 25 أكتوبر 2021.
وسبق أن تعهد ميشال عون خلال كلمة متلفزة له في 24 أكتوبر 2021، بإنشاء "محكمة خاصة بالجرائم على المال العام واسترداد الأموال المنهوبة ورفع الحصانة ورفع السرية المصرفية عن الرؤساء والوزراء والنواب وكل من يتعاطى بالمال العام الحاليين والسابقين"، لكن ذلك لم يحصل.
وفي ظل ذلك الواقع الاقتصادي المتهاوي ودخول لبنان في مرحلة "الدولرة"، يلاحق هذا خطر الإدراج على اللائحة الرمادية، والتي تسبق اللائحة السوداء.
إذ كشفت تقاير إعلامية لبنانية، أن لبنان منح فترة سماح لسنة لإتمام معالجات مالية ونقدية ومصرفية لتفادي وضع اسمه على اللائحة الرمادية بصفته دولة غير متعاونة.
وبحسب صحيفة "النهار" اللبنانية، وضعت مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال نقطتين أساسيتين على لبنان التعجيل في معالجتهما.
إحداهما تتعلق بالإجراءات القضائية التي عدتها المجموعة بطيئة في حق المشتبه بهم بتبييض الأموال الذين تضع أسماءهم هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان أو المصارف.
وفي السياق، رأى الخبير الاقتصادي اللبناني عماد عكوش، أن "إدراج لبنان على اللائحة الرمادية هو بمثابة الإنذار الأخير قبل عزله مصرفيا وماليا عن العالم".
إذ لم يتخذ لبنان حتى اليوم أي خطوة لإصلاح القطاع المصرفي، وإعادة تفعيله لوقف الانحدار الكبير نحو اقتصاد الكاش مع ما يعنيه ذلك من عدم القدرة على مراقبة حركة المدفوعات والتحويلات من وإلى لبنان من جهة، إضافة إلى حركة النقد داخليا، وفق ما قال عكوش لوكالة "سبوتنيك" في 27 مايو 2023.
وأضاف: "لبنان لم يجر منذ ثلاث سنوات أو أكثر أي إصلاح حقيقي يمنع هذا الانحدار، بل إن الطبقة السياسية الحاكمة زادت من الأزمة عبر عرقلة إقرار القوانين كي تستطيع تهريب ما أمكنها من مال إلى الخارج أو بالحد الأدنى سحب ما أمكنها من البنوك باستخدام نفوذها السياسي".
وفيما يتعلق بالحلول المطلوبة، لفت الخبير الاقتصادي، إلى ضرورة اجتماع المجلس النيابي لإقرار القوانين اللازمة وخاصة قانون "الكابيتال كونترول" (نظام ضبط رأس المال) وإعادة هيكلة القطاع المصرفي بالحد الأدنى، "حتى لا نذهب إلى الأسوأ".