لماذا طرد وزراء أوروبا من شرق ليبيا؟ تحقيق في فخ سياسي محكم

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في سابقة دبلوماسية، وجد وفد لوزراء داخلية إيطاليا واليونان ومالطا ومفوض الاتحاد الأوروبي للهجرة، أنفسهم موضع طرد رسمي من مطار بنغازي شرقي ليبيا.

وذلك بعد أن تحولت زيارتهم المفترضة إلى مناقشات أمنية تتعلق بالهجرة غير النظامية، إلى ساحة مناورة سياسية نفذها الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، لانتزاع اعتراف غير مباشر بحكومة شرق ليبيا.

الوفد الأوروبي، الذي سبق أن التقى حكومة طرابلس المعترف بها دوليا بقيادة عبد الحميد الدبيبة، تفاجأ بترتيبات ميدانية تظهره أمام عدسات الكاميرا في استقبال رسمي من حكومة بنغازي غير المعترف بها. 

فما كان منه إلا أن رفض الدخول في مشهد يسوق دوليا كاختراق سياسي لحفتر، والنتيجة إعلانهم "أشخاصا غير مرغوب فيهم" و من ثم ترحيلهم.

ما بدا لحظة بروتوكولية مرتبكة، سرعان ما كشف عن أجندة مدروسة تقودها سلطات شرق ليبيا لإعادة تعريف "من يمثل الدولة"، في وقت يزداد فيه التعويل الأوروبي على ليبيا كحاجز صد للهجرة.

مناورة محسوبة

كان الوفد الأوروبي الرفيع الذي طردته حكومة بنغازي في زيارة رسمية لبحث ملفات أمنية، على رأسها الهجرة غير النظامية. 

وبحسب ما أفادت به مصادر دبلوماسية أوروبية، لوكالة “رويترز” في 8 يوليو/ تموز 2025، فإن الخطوة لم تكن ارتجالية أو ناتجة عن سوء فهم بروتوكولي كما حاولت بعض العواصم الأوروبية تصويرها. 

بل جاءت ضمن "مناورة محسوبة" دبرها المشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق ليبيا، بهدف جر الاتحاد الأوروبي إلى التعاطي الرسمي مع حكومته غير المعترف بها دوليا.

الوفد الذي ضم المفوض الأوروبي لشؤون الهجرة، ماغنوس برونر، إلى جانب وزراء داخلية من إيطاليا واليونان ومالطا، وكذلك سفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا نيكولا أورلاندو، كان قد بدأ جولته من طرابلس. 

وفيها التقى حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وهي الحكومة الوحيدة التي تعترف بها الأمم المتحدة رسميا كممثل للدولة الليبية.

ناقش الجانبان ملفات تتعلق بتعزيز التعاون في مراقبة الحدود، وتسيير دوريات مشتركة، وترحيل المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم الأصلية. وعشية توجههم إلى بنغازي، أعرب وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي عن ارتياحه للاتفاقات مع طرابلس. 

وأكد في منشور على منصة "إكس" أن "الهدف المشترك هو منع مغادرة المهاجرين، وتعطيل شبكات الاتجار بالبشر، وتطوير برامج أوروبية لمواجهة الجريمة المنظمة عبر الحدود".

استقبال مفخخ

في مطار بنغازي، بدا أن السلطات المحلية رتبت "استقبالا رسميا" للوفد الأوروبي، بحضور رئيس حكومة شرق ليبيا أسامة حماد ووزراء مدنيين، وتحت عدسات الكاميرات. 

ورغم أن الاتفاق الأولي كان يقضي باستقبال الوفد من قبل جهات أمنية أو عسكرية تابعة لحفتر فقط، تفاجأ الأوروبيون بوجود ممثلين سياسيين لحكومة لا تعترف بها بروكسل.

وفق مصادر مطلعة في بروكسل تحدثت إلى وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية، طلب السفير الأوروبي أورلاندو من المصورين الامتناع عن توثيق اللقاء، لما قد يترتب عليه من تداعيات دبلوماسية. 

خصوصا أن أي ظهور علني للوزراء الأوروبيين مع حكومة بنغازي يمكن استغلاله سياسيا كـ"اعتراف ضمني بشرعية حفتر وسلطته السياسية".

وبعد مفاوضات غير معلنة، رفض الأوروبيون الخضوع للترتيب الإعلامي، ما دفع الجانب الليبي إلى إعلانهم "أشخاصا غير مرغوب فيهم"، وإصدار بيان رسمي يتهمهم بـ"عدم احترام السيادة الوطنية" و"تنفيذ مهمة غير مصرح بها".

وبحسب مصادر أوروبية متعددة، فإن ما جرى لم يكن سوى "فخ سياسي محكم"، هدفه جر الاتحاد الأوروبي إلى مربع جديد من التفاعل مع الشرق الليبي. 

وتقول المصادر لـ "رويترز": إن هدف حفتر من الخطوة لم يكن فقط إحراج الأوروبيين، بل فرض أمر واقع جديد يجبر بروكسل على التعامل مع حكومة شرق ليبيا كندّ سياسي لحكومة طرابلس.

ويؤكد مصدر دبلوماسي، أن "حفتر هو من يقف خلف التصعيد"، وأن "هدفه من الحادثة هو إرغام أوروبا على إدراج بنغازي كطرف رسمي في أي مفاوضات أو ترتيبات تخص أمن المتوسط والهجرة".

بينما قال أحد المصادر داخل الوفد الأوروبي لـ"يورونيوز": إن الجانب الليبي أبلغهم صراحة عبر الهاتف: "هذه هي حكومة بنغازي، وعليكم أن تقبلوها، في الاجتماع مع حفتر، سيكون هناك الوزراء ورئيس الحكومة".

وعلى الرغم من محاولات الجانب الأوروبي تقديم اقتراح لعقد اجتماع مع ممثلين عسكريين فقط، أو إشراك ممثلين من طرابلس لتوازن الصورة، إلا أن الطرف الليبي أصر على الصيغة السياسية، قبل أن يصدر قرار الطرد.

هذا التصعيد لم يأت من فراغ، فحكومة بنغازي تشعر اليوم بثقة متزايدة بعد أن تعززت قدراتها العسكرية والمالية، لا سيما مع استمرار تدفق الأسلحة الروسية والدعم اللوجستي من القاهرة وأبو ظبي، حسب تقارير استخباراتية أوروبية. 

وبحسب مصدر لـ "يورونيوز" في بروكسل: "الشرق الليبي بات اليوم أقوى من أي وقت مضى، ولديه رغبة معلنة في إقصاء طرابلس من المعادلة".

ووفق المصدر ذاته، فإن حفتر يسعى لاستخدام ملف الهجرة كورقة ابتزاز، و"فرض نفسه كمفاوض رئيس مع أوروبا مقابل ضبط الحدود والموانئ".

ورغم التوتر، حاولت بعض العواصم الأوروبية احتواء الموقف، ووصفت الحادثة بأنها "سوء تفاهم بروتوكولي". 

فيما تحدث وزير الداخلية الإيطالي عن "إلغاء مفاجئ لاجتماع"، وليس "رفضا سياسيا"، لكنه استطرد ووصف ما وقع بـ "الحادث الخطير". 

 وكان حجم الصدمة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي قد بدا واضحا، خاصة بعد أن قررت اليونان تعليق طلبات اللجوء للقادمين من شمال إفريقيا كخطوة احترازية.

انتقادات لاذعة

وفي إيطاليا، لم تمر الحادثة دون ردود فعل سياسية داخلية، حيث سارع عدد من نواب المعارضة إلى توجيه انتقادات لاذعة لحكومة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني. 

معتبرين أن طرد وزير الداخلية ماتيو بيانتيدوسي من ليبيا شكل مفارقة ساخرة، لا سيما في ظل السياسات الصارمة التي تتبعها حكومته في ملف الهجرة.

أما النائب عن الحزب الديمقراطي، ماتيو أورفيني، علق عبر صفحته على فيسبوك قائلا: "أعيد بيانتيدوسي من ليبيا بتهمة الدخول غير القانوني، فكرت في كتابة تعليق ساخر، لكن يبدو أن الواقع قد قام بالمهمة كاملة."

هذا التفاعل يعكس كيف تحولت الحادثة إلى مادة سياسية داخلية في إيطاليا، تستخدم لتسليط الضوء على تناقضات خطاب الحكومة اليمينية بشأن الهجرة والاحترام الدولي.

وتفاعلا مع الحادث، قال الصحفي الليبي عمر الحاسي لـ"الاستقلال": إن الزيارة الأوروبية كانت مبرمجة في الأصل للقاء اللواء المتقاعد خليفة حفتر فقط، بهدف مناقشة ملف الهجرة غير النظامية". 

لكن المفاجأة بحسب الحاسي جاءت حين حاول حفتر فرض حضور رئيس الحكومة الموازية في الشرق أسامة حماد، ضمن اللقاء، في خطوة وصفها بـ"المدبرة" لإضفاء شرعية سياسية على حكومة غير معترف بها دوليا.

وأوضح الحاسي أن المفوض الأوروبي ماغنوس برونر رفض هذه الخطوة بشكل واضح، مؤكدا أن تفويضه يقتصر على الاجتماع مع حفتر فقط. 

وأضاف: بعد رفض الوفد الأوروبي للضغوط الليبية، ألغى حفتر اللقاء، ما دفع الوفد الأوروبي لاتخاذ قرار بالمغادرة.

ولفت الصحفي الليبي إلى أن "المشهد انقلب تماما حين سارعت حكومة حماد إلى إصدار بيان يزعم طرد الوفد دفاعا عن السيادة، في محاولة واضحة لصناعة نصر إعلامي وهمي". 

واصفا هذه الخطوة بأنها "مسرحية دبلوماسية مفضوحة"، وأشار إلى أن هذا الادعاء يتناقض مع موقف حفتر نفسه قبل 48 ساعة فقط، حين استقبل وزير الخارجية اليوناني في بنغازي دون أي جدل حول السيادة أو التنسيق.

وتساءل الصحفي الليبي: “كيف يعد استقبال وزير الداخلية اليوناني خرقا للسيادة بعد يومين فقط من لقاء وزير خارجية الدولة نفسها؟”

ويرى الحاسي أن "هذه التناقضات تعكس إما جهلا واضحا بأبجديات الدبلوماسية، أو محاولة يائسة لاستدراج اعتراف دولي بحكومة الشرق، وعندما فشلت، لجأ حفتر إلى اختلاق أزمة الطرد لتغطية الفشل وإعادة تسويقه كإنجاز وهمي".

وأكد أن موقف الاتحاد الأوروبي كان واضحا، بل حادا؛ إذ تعامل مع حفتر كأمر واقع ميداني، لكنه رفض منح أي شرعية سياسية لحكومة حماد. 

وهو ما تجلى بوضوح في منشور المفوض الأوروبي برونر على منصة “إكس”؛ حيث تجاهل ذكر بنغازي أو بيان الطرد بشكل كامل، فيما بدا كـ"رد دبلوماسي صامت"، بحسب الحاسي.

وختم بالتأكيد على أن "الحديث عن السيادة وتوريط الوفود الدولية في لقاءات مع أجسام موازية لا يكشف إلا عن عمق الأزمة السياسية التي يعيشها حفتر، وعن افتقار واضح للحس الدبلوماسي والإستراتيجي في التعامل مع المجتمع الدولي".