بعد مذكرة "الإنتربول".. هل يهرب محافظ المصرف المركزي في لبنان إلى الإمارات؟

12

طباعة

مشاركة

يكتنف الغموض مصير محافظ المصرف المركزي في لبنان، رياض سلامة، بعد إصدار القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية بحقه في 16 مايو/ أيار، وتعميمها عبر منظمة الشرطة الجنائية الدولية "الإنتربول"، تلاها أيضا مذكرة توقيف صادرة عن القضاء الألماني. 

ومن المتوقع صدور مذكرات أخرى من قبل القضاء في الدول الأوروبية التي تتشارك مع السلطات الألمانية والفرنسية بالتحقيق مع سلامة وشقيقه "رجا"، للاشتباه في استيلائهما على أموال عامة تقدر بنحو 300 مليون دولار. 

وتتضارب المعلومات حول هذا المصير، من تقارير تشير إلى أنه سيغادر إلى إمارة الشارقة في الإمارات، وصولا إلى معلومات تؤكد أنه سيكمل ولايته حتى نهايتها في يوليو/ تموز 2023، في ظل حماية سياسية له. 

ويجرى الحديث عن ترتيب صفقة سياسية تفضي بخروج آمن لسلامة، الذي وجه تهديدات مبطنة إلى السياسيين في إطلالته الإعلامية الأخيرة. 

وذلك نظرا لكونه "خازن" أسرارهم المالية وصفقاتهم السرية لأكثر من ثلاثة عقود قضاها على رأس السلطة المالية في لبنان.

ملاحقات أوروبية

القاضية الفرنسية أود بوريزي، المكلفة بالتحقيق في أموال وممتلكات حاكم مصرف لبنان المركزي، أصدرت مذكرة التوقيف الدولية بحق سلامة بعد تغيبه عن جلسة الاستجواب المحددة بالعاصمة باريس في 16 مايو 2023. 

وذكرت وكالة "رويترز" البريطانية أنه "حسب وثائق قضائية يعتزم مسؤولو الادعاء في فرنسا توجيه اتهامات مبدئية بالاحتيال إلى رياض سلامة". 

لكن الأخير سارع لرفض قرار القاضية الفرنسية، ورأى في بيان صادر عنه أنها "لم تراع المهل القانونية المنصوص عنها في القوانين الفرنسية والدولية"، وأنه "سيعمد للطعن في قرار القاضية". 

ولم تكد السلطات اللبنانية تتسلم رسميا النشرة الحمراء الصادرة عن "الإنتربول" بحق سلامة في 19 مايو 2023، حتى صدرت مذكرة توقيف ألمانية بحقه أيضا. 

وكشفت المحققة العدلية في النيابة العامة في ألمانيا، رنا اسكندر، خلال حديث لمحطة "الجديد" المحلية في 23 مايو 2023، أن المذكرة "صدرت عن النيابة العامة التمييزية الألمانية، وشملت 5 أشخاص بينهم سلامة". 

وأضافت: "التهم الموجودة بحق سلامة هي اختلاس مبلغ 330 مليون دولار، وقد وضع القضاء الألماني يده على 5 عقارات تابعة له". 

اللافت أن تغيب سلامة كان بذريعة عدم تبلغه بوجوب المثول أمام القضاء الفرنسي، وفق ما أوضح محاميه، بيار أوليفيه سور، لـ"وكالة الصحافة الفرنسية". 

وأفادت الوكالة نقلا عن مصادر قانونية لبنانية أن "السلطات اللبنانية فشلت في إخطار سلامة بالاستدعاء، رغم محاولة الشرطة أربع مرات تسليمه الإخطار بمقر عمله الذي يمضي فيه أغلب وقته". 

ولم يعد سلامة يظهر بشكل علني وسط حديث عن إقامة شبه دائمة له في مكتبه المحصن بحراسة أمنية مشددة.

وذلك نتيجة الملاحقات القضائية المستمرة ضده، ومحاولة القاضية اللبنانية غادة عون المقربة من رئيس الجمهورية الأسبق ميشال عون عدة مرات اعتقاله عبر أمن الدولة. 

وهذا ما حدا بالرأي العام الناقم على سلامة، ولا سيما عشرات المودعين الذين فقدوا مدخراتهم الى اتهام السلطة السياسية بالتواطؤ مع الحاكم وحمايته. 

ولا يكاد يمر أسبوع دون تنظيم تظاهرة اعتراضية أمام المصرف المركزي بشارع "الحمرا" الشهير في العاصمة بيروت، إنما دون فائدة. 

ومع مذكرات التوقيف المتتالية اضطرت السلطات اللبنانية للتحرك، حيث حدد المحامي العام التمييزي القاضي عماد قبلان موعدا لاستجواب سلامة في 24 مايو 2023. 

وذلك بعد إعلان الحكومة على لسان وزير العدل هنري خوري أن" قرار توقيف سلامة يعود للقضاء اللبناني فقط"، وأنه "لن يتدخل في هذا الملف بل سيترك الأمر للقضاة المعنيين". 

اللافت أن قبلان تمكن من تبليغ الحاكم الذي حضر الجلسة، وخرج بعدها حرا طليقا. 

ونقلت وكالة "فرانس براس" عن مصدر قضائي لبناني رفيع المستوى أن القاضي قبلان قرر "ترك سلامة رهن التحقيق ومنعه من السفر وحجز جوازي سفره اللبناني والفرنسي". 

أعقبها إرسال قبلان تقريرا تضمن محضر الجلسة إلى فرنسا طالبا من القاضية الفرنسية أود بوريزي "تزويده بملف التحقيق الفرنسي"، وفق الوكالة نفسها. 

حماية الحاكم

وتحت عنوان "حماية واسعة تمنع إقالة سلامة" كتبت الصحفية رلى إبراهيم بصحيفة "الأخبار" المحلية في 25 مايو 2023، تقول: "يتعامل المعنيون داخل الحكم وخارجه مع سلامة كإمبراطور لا يمكن المساس به". 

وأشارت الى أن سلامة حظي بامتيازات خاصة "إغلاق أبواب قصر العدل، الإبقاء على الموظفين محتجزين في مكاتبهم رغم انتهاء دوامهم، وقف كل المصاعد، ونشر عناصر من الدرك (الشرطة) على المداخل". 

وأضافت "سُمح له بالدخول من باب خلفي خلافا لكل المواطنين ضمانا لراحته النفسية، واستراح لنحو ساعة في مكتب القاضي قبل أن يغادره مكرما". 

ولفتت إبراهيم إلى أن "مطالبة القضاء اللبناني للفرنسيين باسترداد ملف سلامة يعني قبولهم محاكمته في لبنان وهو أمر مستبعد". 

وخلصت إلى أن "الملف سيبقى معلقا حتى إشعار آخر". واستندت إبراهيم على موقف وزير المالية يوسف الخليل الذي أعلن فيه رفضه إقالة سلامة. 

وكذلك خلو جدول أعمال الجلسة الحكومية من بند الإقالة للتأكيد على الحماية السياسية التي يتمتع بها. 

 ورغم "الخطاب" الذي وجهه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إلى رئيسها نجيب ميقاتي للمطالبة بإقالة سلامة، نظرا لـ"خطورة الشبهات والاتهامات الموجهة إليه وارتداداتها السلبية على السياسة النقدية والقطاع المصرفي. 

وأشار أيضا إلى تأثير ذلك على "مصداقية الحكومة وكل الأشخاص المولجين بعملية الإصلاح والتفاوض مع المؤسسات الدولية".

في حين نقلت الصحفية فرح منصور عن حاكم مصرف لبنان أن مطلبه الوحيد المحامي العام التمييزي أثناء جلسة الاستماع لأقواله هو: "حاكموني في لبنان، لا تسلموني للقضاء الفرنسي". 

وأشارت منصور في مقالة لها بصحيفة "المدن" الإلكترونية في 25 مايو/ أيار 2023 الى أن الحاكم "يثق بالقضاء اللبناني لأنه يعلم جيدا أنه لن يعاقبه بقسوة أو كما يستحق". 

وتساءلت: "لماذا لم تتمكن الأجهزة الأمنية اللبنانية من تبليغه بموعد جلسته الفرنسية؟"، لتضيف "الجواب صار واضحا: الحاكم لا يريد المثول أمام القضاء الفرنسي مخافة توقيفه".

ونقلت منصور عن مصادر قضائية لم تسمها توقعها بأن "عدد مذكرات التوقيف بحق الحاكم وصلت إلى أكثر من 11، لا سيما أن أكثر من 12 دولة تحقق في ملف حاكم مصرف لبنان وفي عقاراته المتوزعة في أوروبا". 

وكان سلامة قبل مثوله أمام القضاء اللبناني قد مرر رسالة للسلطة السياسية أثناء مقابلته مع قناة "الحدث" العربية في 18 مايو/ أيار 2023، التي تمكنت من العثور عليه داخل مقر المصرف المركزي. 

وذلك حينما نصح القضاء بـ"البدء بالسياسيين وليس بحاكم المصرف المركزي". 

الأمر الذي عُد من قبل ناشطين ومراقبين أنه مؤشر على صدام محتمل بين سلامة والسلطة السياسية في حال تخليها عنه وعدم حمايته، وأن الأول يهددها بالإفصاح عما يختزنه من أسرار.

صندوق أسرار

وفي السياق نفسه، تطرق الصحفي المتخصص بالشؤون الاقتصادية، عبادة اللدن، إلى تغير موقف حزب الله من سلامة،

وفي مقال بموقع "أساس ميديا" في 24 مايو 2023 تحت عنوان "لماذا تخلى العونيون والحزب عن إقالة سلامة؟"، قال اللدن: "بعدما كان حزب الله رأس حربة الهجوم على المنظومة المالية، تحول الإعلام القريب منه إلى صمت مطبق منذ بدء الملاحقات الأوروبية، وذاك هو حال نوابه ووزرائه". 

وعزا رفض سلامة بشكل واضح في مقابلته مع قناة "الحدث" أي "إدانة للعمل المصرفي غير القانوني الذي تمارسه (جمعية القرض الحسن) إلى عمق العلاقة التي تربطه بحزب الله". 

وهذه الجمعية تعد الذراع المالي لحزب الله ومصرفه الحقيقي، وهي غير خاضعة للقوانين اللبنانية، وسبق أن وضعتها وزارة الخزانة الأميركية على لائحة العقوبات. 

وأشار اللدن الى "هذا ليس إلا رأس جبل التعاون بين الحاكم والحزب. فبينهما ما هو أعمق، بدءاً من تسهيل الالتفاف على العقوبات الأميركية على الحزب. 

مروراً برفض سلامة الانخراط في أي جهد للتضيق على مصادر تمويله الخارجي. 

وانتهاء بامتثال سلامة لطلب الحزب الدخول في منظومة شراء الدولارات من السوق لصالحه عن طريق شركة حسن مقلد الخاضع للعقوبات الأميركية".

في المقابل، نقل الصحفي طوني بولس عن مصدر مقرب من سلامة (لم يسمه) بأن الأخير "لن يصمت عن محاولة تحويله الى كبش فداء نيابة عن السياسيين اللبنانيين". 

وأضاف بولس في مقالته بصحيفة "إندبندنت أرابيا" في 20 مايو/ أيار2023 نقلا عن المصدر نفسه بأن سلامة "صندوق أسرار حقبة امتدت أكثر من 30 عاماً، وهو قادر على إحداث زلزال من الفضائح". 

وأكد المصدر لبولس بأن سلامة "سيبدأ بتسريب بعض الفضائح التي تطال السياسيين في المرحلة المقبلة". 

وكذلك سيكشف عن "بعض الإثباتات على عمليات ابتزاز تعرض لها من قبل سياسيين لإرغامه على اتخاذ بعض القرارات. 

ويذكر منها "قرار دعم عدد من السلع لمدة عامين، والذي استنزف نحو 20 مليار دولار من احتياطات البنك المركزي". 

من هذا المنطلق ثمة تقارير وتسريبات إعلامية تشير الى أن القوى السياسية اللبنانية التي تقبض على السلطة تسعى لإبرام صفقة سياسية مع أميركا لتأمين خروج آمن لرياض سلامة من منصبه ومن لبنان بأسره. 

الأمر الذي يجنبه المحاكمات، ويمنع افتضاح الذين شاركوا سلامة في الصفقات المشبوهة، والذين أمنوا له الدعم والغطاء السياسيين.

الخروج الآمن

لطالما اشتهر سلامة بكونه "رجل أميركا الأول" في لبنان، وهو الذي كان يعمل في شركة "ميريل لنش" قبل تعيينه في منصبه، وهي شركة خدمات تمويلية عالمية ومقرها في نيويورك. 

والدعم الأميركي لسلامة هو الذي حال دائما دون إقصائه من منصبه أو محاكمته محليا، وهو الذي يقف حائلا أمام تسليمه للأوروبيين. 

وفي هذا الإطار، كتب الصحفي محمد بركات على حسابه عبر "تويتر" تغريدة قال فيها: "قبل شهر فرضت أميركا عقوبات على الأخوين رحمة، وضربت صفقة فرنسا بقوة، معترضة على ترشيح سليمان فرنجية صديق آل رحمة لرئاسة الجمهورية". 

وآل رحمة من العائلات التي تملك نفوذا ماليا وازنا في عدد من القطاعات مثل النفط والكهرباء، وفرضت أميركا على ريمون وتيدي رحمة عقوبات في 4 أبريل/ نيسان 2023.

وأضاف بركات "ردت فرنسا بمذكرة توقيف حاكم مصرف لبنان". 

هذا المصرف أسسته أميركا قبل نصف قرن لأهداف أبرزها فك ارتباط الليرة السورية واللبنانية بالفرنك الفرنسي.، وربطها بالدولار ضمن مخطط إنشاء مصارف مركزية ترث نفوذ فرنسا في الشرق الأوسط". 

وخلص بركات إلى أن "حاكم المصرف الذي تعده أميركا أهم من رئيس الجمهورية في لبنان"، بحسب السفير الأميركي الأسبق في لبنان ديفيد هيل، هو كرة "بينغ بونغ" في صراع أميركي – فرنسي يتوسع في ديارنا ويتناسل من أموالنا ومصائرنا من الصين الى بيروت".

في حين يقول الكاتب السياسي أحمد الأيوبي أنه "من المفترض في نهاية يوليو/ تموز 2023 نهاية الولايات الطويلة لرياض سلامة، أن يكون قد غادر لبنان في السر إلى الشارقة موطئ قدمه في المرحلة المقبلة". 

ويضيف في حديث لـ"الاستقلال"، أنه "بين تركيا والإمارات، اختار سلامة الثانية كي يستقر ويبدأ رحلة جديدة". 

ولفت الأيوبي إلى أن قوة سلامة هي في "أسراره ووثائقه المخفية في مكان ما على أنها بوليصة حياته". 

وبيّن أن اختياره للشارقة عائد إلى أنه "لا معاهدات ولا اتفاقات مطلوبين بينها وبين الاتحاد الأوروبي، ولا بينها وبين أميركا". 

وفي الاتجاه عينه سار الصحفي روني ألفا الذي أكد أن سلامة سيغادر إلى الإمارات ما إن تنتهي ولايته، حيث حضرت له الإدارة الأميركية بنية تحتية تساعده على استكمال أعماله من هناك، وعلى حمايته وأفراد أسرته من أي خطر قد يهدد حياته". 

وأضاف ألفا في حديث لـ"الاستقلال" بأن "الأميركيين اتخذوا قرارا بحماية سلامة والأسرار الإستراتيجية الموجودة في حوزته". 

وأشار الى أن هذه الأسرار "إذا أفشيت قد تفجر البلد وتورط الكثيرين، والغالب في هكذا ظروف هو التخلص من الشخص للتخلص من أسراره".