"المال مقابل التصنيف العلمي".. كيف تحتال جامعات سعودية لرفع رصيدها الأكاديمي؟

12

طباعة

مشاركة

انتشرت في العالم العربي عمليات "احتيال أكاديمي" بداية من ادعاء أشخاص، حصولهم على شهادة "الدكتوراه" وربط أسمائهم بلقب "دكتور"، إلى تزوير ونقل أبحاث كتبها آخرون، وحتى رفع تصنيف جامعات، كما حدث في السعودية بالتزوير.

وبحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، يُقصد بـ"الاحتيال الأكاديمي" تزوير الشهادات، والغش في بيانات الاعتماد وفي الامتحانات، وسوء السلوك الأكاديمي، والشهادات العليا المزورة.

وظهرت أخيرا أشكال جديدة مختلفة من هذا الاحتيال الأكاديمي، مثل مجلات تدعي أنها علمية، تطلب مقابلا ماليا على كل بحث منشور، ما يدفعه البعض للنشر فيها بمقابل مالي ليقال عنه أنه باحث وخبير أكاديمي في المجال الذي ينشر عنه.

وتزعم هذه المجلات، أن ذلك المبلغ يذهب إلى جيوب المحكّمين حتى يسرعوا في إنجاز مهمتهم، مع أنها لا تُخضِع الأبحاث للتحكيم، ليصطادوا به المتعطشين إلى إثراء سيرتهم العلمية من أجل الترقيات، وفق صحيفة "الشروق" الجزائرية في 19 مارس/آذار 2023.

وأحدث وسائل "الاحتيال الأكاديمي" حاليا هي احتيال وتزييف في النشر الأكاديمي باستخدام "الذكاء الاصطناعي"، حسبما تبين صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية في 11 مايو/أيار 2023.

مكانة اجتماعية

مذيع مصري روى لـ"الاستقلال" واقعة حقيقية، حيث استضاف مسئولا إعلاميا شهيرا في أحد برامجه، ومعه صحفي آخر، وكان المذيع والضيف يعلمان أن الإعلامي الشهير، الذي يطلق على نفسه لقب "دكتور"، لا يحمل هذه الشهادة الأكاديمية.

قال: "لأن الإعلامي الشهير ضيف للبرنامج وأنا والضيف الصحفي درسنا في نفس الكلية معه، ونعلم أنه لم يحصل على درجة الدكتوراه، فقد سئلت قبل البرنامج: كيف ترغب في ذكر تعريفك على الهواء: دكتور أم أستاذ؟"

وتابع: "فأسقط في يده، واضطر أن يقول أستاذ لا دكتور وكنت أسأله بصفته الأستاذ فلان، لكنه خرج غاضبا لأن الإعلام اعتاد على ربط اسمه بلقب الدكتور". 

هذه الواقعة، تتكرر في برامج مصرية لمن ينتحلون ألقابا علمية على غير الحقيقة ومنهم صحفيون وإعلاميون يسبقون أسماءهم بلقب "دكتور" كنوع من اكتساب مكانة اجتماعية، دون أن يكونوا قد حصلوا على الدرجة العلمية.

نوع ثان من "الاحتيال الأكاديمي"، هو بيع وشراء شهادات علمية (ماجستير ودكتوراه).

وروى أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة لـ"الاستقلال" أنه عاصر قيام طلاب، بعضهم من دول الخليج، من الأثرياء، بشراء شهادات علمية مكتوبة جاهزة من طلاب متفوقين مقابل المال.

وقال إن بعض خريجي الجامعات المتفوقين الذين لا يجدون عملا مناسبا، أو المعيدين بالكليات، يتعاقدون على كتابة رسائل علمية شبه جاهزة مقابل مبالغ مالية، ليقوم من دفعوا الأموال بوضع أسمائهم عليها وينالوا شهادات علمية.

الأغرب، الذي كشفته صحيفة "فاينانشال تايمز" في 11 مايو 2023 هو أن هناك أبحاثا مزيفة باتت تنتجها ما يُسمى "مصانع الأوراق البحثية".

وهي منظمات تنتج وتبيع مقالات وأوراق أكاديمية ملفقة أو تم التلاعب بها "للباحثين اليائسين الراغبين في تعزيز حياتهم المهنية"، وفق تعبيرها.

أما الأخطر، فهو كشف مجلة "Nature" البريطانية، أشهر مجلة علمية في العالم، فضيحة احتيال بعض الجامعات السعودية، من خلال تقديم الأموال لباحثين أجانب، لإغرائهم بتسجيل أسمائهم ضمن أستاذتها، لتزوير تصنيفها ضمن الجامعات العالمية.

شركات التزوير 

"من بين كل خمسة مقالات أكاديمية منشورة في المجلات، واحدة قائمة على بيانات مزيفة"، هكذا كشفت دراسة أجراها باحثون ألمان، استخدموا تقنيات جديدة للتحذير من الاحتيال العلمي، وفق "فاينانشيال تايمز".

الصحيفة البريطانية أوضحت أن هذه الأبحاث المزيفة تنتجها "مصانع الأوراق البحثية"، وهي منظمات تنتج وتبيع مقالات وأوراق أكاديمية ملفقة أو تم التلاعب بها للباحثين اليائسين لتعزيز حياتهم المهنية.

الفريق الألماني فوجئ أن عدد الأوراق العلمية المزيفة ارتفع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وخاصة في الصين، حيث تطلب بعض المستشفيات والسلطات الصحية الصينية من الأطباء أن يعدوا أوراقا أكاديمية بحثية بشكل مستمر، فيزيفها بعضهم.

وكانت المفاجأة أن "مصانع الأبحاث" التي تتراوح إيراداتها السنوية بين 3 مليارات و4 مليارات دولار، تلجأ أحيانا إلى نصوص من الذكاء الاصطناعي وبيعها للباحثين الذين يحتاجونها.

وخلصت الدراسة، التي أنجزها فريق ألماني بقيادة البروفيسور برنارد سابيل، الذي يرأس معهد علم النفس الطبي في جامعة "أوتو فون غيريكه ماغديبورغ"، إلى أن "غالبية الأبحاث المزيفة تأتي من الصين".

الفريق الألماني قام بالتحقق من الأبحاث المنشورة عبر خطوات بسيطة، مثل الانتباه إلى عناوين البريد المرفقة، وإن كان المؤلف ينتمي إلى مستشفى بدلا من الجامعة، وقارن عينة من المنتجات المقلدة المعروفة بأوراق تعد أصلية.

وفق الدراسة، ارتفع عدد الأوراق المزيفة في الطب الحيوي من 16 بالمئة عام 2010 إلى 20 بالمئة عام 2020، مع زيادة كبيرة في مجال علم الأعصاب مقارنة بالطب السريري.

وتحدث تقرير نشرته "فاينانشيال تايمز" 28 مارس/آذار 2023 عن "صناعة العلوم المزيفة في الصين" وكيف تهدد "مصانع الأوراق البحثية"، و"الدراسات الاحتيالية" التي تنتجها الصين بغزارة، التقدم العلمي والأكاديمي في العالم.

وأكدت الصحيفة أنه على مدار عقدين ماضيين، أصبح الباحثون الصينيون من أكثر ناشري الأوراق العلمية إنتاجا في العالم، حسب معهد "المعلومات العلمية"، وهو منظمة تحليل أبحاث مقرها الولايات المتحدة.

وبين أن الصين أنتجت 3.7 ملايين ورقة بحثية  عام 2021 أي 23 بالمئة من الناتج العالمي، وأقل بقليل من 4.4 ملايين ورقة بحثية من الولايات المتحدة، ولكن الكثير من الأوراق الصينية يعتمد على إعادة تدوير نفس مجموعات البيانات.

ونقلت "فاينانشيال تايمز" عن خبراء قولهم إن الناتج المثير للإعجاب لأوراق الصين البحثية "يخفي أوجه قصور منهجية، وبعضه يشكل أساس البحوث الاحتيالية منخفضة الجودة التي يلجأ إليه أكاديميون يسعون للحصول على مناصب مرموقة في الجامعات".

وقالت الصحيفة إن تقديرات حجم الإنتاج العلمي المزيف يشكل 2 إلى 20 بالمئة أو أكثر من الأوراق المنشورة.

وأن "السماسرة الذين يبيعون الأوراق المكتوبة حسب الطلب ينتشرون عبر الإنترنت على مواقع التجارة الإلكترونية الصينية"، ومنها موقع "Taobao" الذي يقوم بتحصيل 800 دولار من العملاء مقابل تقديم منشور طبي متوسط.

وأكدت دراسة لموقع " science" في 9 مايو/أيار 2023 أن الأوراق العلمية المزيفة شائعة بشكل مثير للقلق، لكن هناك تقنيات جديدة يجري كشفها بها ما يبشر بالخير في معالجة الأعراض المتزايدة لثقافة "النشر أو الهلاك" في الأوساط الأكاديمية.

وذكرت أن عالم النفس العصبي، بيرنهارد سابيل"، كاشف الأوراق البحثية المزيفة الجديد الخاص به، "صُدم" بما وجده، إذ كشف أن من بين حوالي 5000 ورقة بحثية، كان 34 بالمئة من هذه الأوراق الخاصة بعلم الأعصاب والمنشورة عام 2020 "مختلقة أو مسروقة".

وسبق أن نبه موقع "ذا كونفرزيشن" من أن قيام مواقع الويب العلمية المزيفة بتكييف محتواها بما يظهره كأنه تم التحقق منه وموثوق به "يهز ثقتنا بالخبراء لأنه يجري تضليل المعلومات والتشويش عليها".

شراء التصنيف

وفقا لتصنيف الجامعات الصادر من "QS World University Rankings" لعام 2023، تصدرت جامعة الملك عبد العزيز في السعودية المركز الأول عربيا من بين 200 جامعة، والمركز رقم 106 عالميا.

وحسب الترتيب، جاءت ثلاث جامعات سعودية في مراكز الصدارة، وفق موقع "CNN" العربية، في 24 يناير/ كانون الثاني 2023.

لكن المفاجأة التي نشرت عنها مجلة "نيتشر" البريطانية، مقالاً تحذيريا هو أن بعض الجامعات السعودية، احتالت للحصول على هذا التصنيف العالي.

و"تلاعبت بالتصنيفات الجامعية العالمية من خلال تشجيع كبار الباحثين على تغيير انتماءاتهم الرئيسة من أجل تحسين تصنيف جامعاتها"، وفق مجلة "نيتشر".

وذلك من خلال "تقديم الأموال لباحثين أجانب، لإغرائهم بالمال بتسجيل أسمائهم وتغيير انتماءاتهم الرئيسة من جامعات أخرى إلى "سعودية" لتعزيز وتزوير تصنيف الأخيرة ضمن الجامعات العالمية.

وبينت مجلة "نيتشر" أنه ومنذ أوائل عام 2010، أفاد باحثون بارزون في جميع أنحاء العالم بأن الجامعات السعودية تواصلت معهم، وقدمت لهم عروضا نقدية مقابل تحويل انتماءاتهم.

وقدمت المجلة نموذج الباحثة في المعهد الكتالوني لأبحاث المياه في جيرونا بإسبانيا، ميرا بتروفيتش، والتي أكدت أنها تلقت بعد فترة وجيزة من ظهورها على قائمة تصنيف عالمية عام 2018، بريدا إلكترونيا من جامعة الملك سعود يدعوها للتعاون.

وقالت بتروفيتش: "اعتقدت أنهم يريدون اقتراح تعاون حقيقي، ولكن بعد أن استمررت في التواصل معهم، تلقيت بريدا إلكترونيا يطلب مني بصراحة تغيير انتمائي مقابل المال".

قالوا لها: "إن انتمائك الأساسي يجب أن يكون هو جامعة الملك سعود، وبمجرد عمل ذلك ستتلقين 70 ألف يورو"، وأكدت الباحثة أنها رفضت العرض السعودي مباشرة لأنه كان خاليا من أي محتوى أكاديمي.

وفي وقت سابق، سلطت صحيفة "إلبايس" الإسبانية الضوء على الممارسات الاحتيالية التي يقوم بها النظام السعودي لرفع التصنيف العالمي لجامعاته، بما يكسبها مزيدا من النفوذ العلمي، ومن ثم السياسي.

وذكرت الصحيفة، أن بعض العلماء المشهورين في الصين وإسبانيا هم طريق النظام السعودي لتحقيق هذا النفوذ، وأن إدراجهم في قائمة الانتماء الأساسي لجامعات سعودية ضخم مكانتها في تصنيف شنغهاي بشكل مصطنع.

و"تصنيف شنغهاي"، السنوي المرموق الذي يقيس جودة التعليم والبحث في مختلف الجامعات على مستوى العالم، يعد الصعود في مرتبته أمرا بالغ الأهمية لاكتساب النفوذ السياسي، وهو ما مارسه النظام السعودي الذي قدم لباحثين من الصين وإسبانيا أموالًا لتغيير انتماءاتهم الأكاديمية.

وتشير الصحيفة الإسبانية، في هذا الصدد، إلى أن العروض المالية السعودية بشأن الدراسات المنشورة تستهدف عاملا ثانيا في رفع التصنيف الأكاديمي لجامعات المملكة، وهو "عدد الدراسات المنشورة في المجلات العلمية المرموقة"، مثل "نيتشر" و"ساينس".

وخلصت الصحيفة إلى أن الممارسات الاحتيالية التي ينطوي عليها الانتماءات الأكاديمية الزائفة بين العلماء الإسبان في جامعات النظام السعودي تثير مخاوف بشأن منهجية التصنيف الأكاديمي العالمي، وحثت العلماء والمؤسسات والجامعات على اتخاذ موقف ضد هذه الممارسات.

وبحسب تقرير نشرته أكاديمية "SIRIS Academic" الاستشارية للتعليم العالي والبحث ومقرها برشلونة، فإن العشرات من الباحثين الأكثر شهرة في العالم حولوا انتماءاتهم الأساسية إلى جامعات سعودية خلال العقد الماضي، أي أصبحوا محسوبين على تلك الجامعات، ما يرفع أسهمها عالميا.

وجد التقرير أن عدد الباحثين المصنفين عالميا الذين ينتمون لمؤسسات علمية سعودية ارتفع من 27 إلى 109 بين عامي 2014 و2022، حيث يعمل هؤلاء الباحثون في مجموعة من التخصصات، والعديد منهم لهم ارتباطات ثانوية في بلدان مثل إسبانيا والصين والمملكة المتحدة وألمانيا والهند.

وأشارت الأكاديمية، إلى أن "عمليات الاحتيال، والانتماءات المضللة التي تقوم بها بعض مؤسسات التعليم العالي والبحث في السعودية، تغذي شكوكا حول مصداقية العلم، وتقوض العمل الرائع الذي قام به معظم العلماء في جميع أنحاء العالم".