المدينة تحت سيطرة إسرائيل.. ماذا يعني تحويل القدس إلى مركز قيادة عسكري؟

تشمل الاتفاقية إنشاء “برج دفاعي” من 30 طابقاً عند مدخل مدينة القدس
في خطوة تنذر بتحوّل ميداني وسياسي بالغ الخطورة، وقّعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي اتفاقية داخلية تقضي بنقل مشاريع عسكرية ومراكز ثقل أمنية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، في تطور يتجاوز البعد الإداري ليحمل أبعادا إستراتيجية عميقة.
وتأتي هذه الخطوة في سياق تصعيد عسكري متواصل في القدس والضفة الغربية، بالتوازي مع تنامي الخطاب الداعي إلى ضم الضفة داخل أوساط حكومة الاحتلال، وسعي ممنهج لإعادة تكريس القدس عاصمة «سيادية» لإسرائيل، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على المستوى العسكري والأمني أيضا.
وبذلك، لا يمكن النظر إلى الاتفاق الجديد بوصفه إجراء تنظيميا عاديا، بل بصفته خطوة محسوبة تهدف إلى إعادة رسم معادلات القوة والانتشار العسكري في مدينة تُعد جوهر الصراع ومفتاح مستقبله. كما يثير الاتفاق تساؤلات جوهرية حول أهدافه الفعلية، والرسائل السياسية والأمنية التي يسعى الاحتلال إلى توجيهها، فضلا عن التداعيات المحتملة على الواقع الميداني في القدس والضفة الغربية، وعلى مسار الصراع برمّته.

تفاصيل الاتفاق
في 15 ديسمبر/كانون الأول، وقّع وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ورئيس بلدية الاحتلال في القدس موشيه ليون، اتفاقية “تعاون إستراتيجي” تقضي بنقل مشاريع عسكرية وأمنية وُصفت بـ"الدفاعية المهمة" إلى القدس المحتلة، وذلك بحضور المدير العام لوزارة الجيش اللواء (احتياط) أمير بارام، والمديرة العامة لبلدية الاحتلال أرييلا راجوان.
وتندرج هذه الاتفاقية ضمن خطة تطوير أوسع لمنطقة مدخل المدينة المحتلة، والتي شهدت خلال السنوات الأخيرة تقدما ملحوظا، وتسعى سلطات الاحتلال من خلالها إلى إعادة رسم الطابع الوظيفي والعسكري للقدس.
وبحسب صحيفة “يسرائيل هيوم”، تتضمن الاتفاقية إنشاء “برج دفاعي” بارتفاع 30 طابقا عند مدخل المدينة، يضم مكاتب وزير الجيش، ورئيس هيئة الأركان، وأقسام هيئة الأركان العامة إلى جانب هيئات أمنية وعسكرية أخرى. ويهدف المشروع إلى تجميع مكاتب الأجهزة الأمنية المختلفة في موقع واحد، بما يتيح ـ وفق الرؤية الإسرائيلية ـ تعزيز التنسيق بين المؤسسات العسكرية والأمنية.
وبموجب ذلك، ستُنقل هذه المكاتب من مجمع “الكرياه” في تل أبيب إلى القدس المحتلة، في خطوة تحمل دلالات سياسية وأمنية تتجاوز التقديرات التنظيمية.
كما تشمل الاتفاقية إنشاء مجمع إضافي بجوار البرج، مخصص لمديرية البحث والتطوير للأسلحة والبنى التحتية التكنولوجية في وزارة الجيش، وفق ما أورد موقع “إسرائيل ناشيونال نيوز”. وسيضم المشروع بنية تحتية تكنولوجية متقدمة تهدف إلى جذب ما تصفه إسرائيل بـ"الكفاءات» من قطاع التكنولوجيا العالية، وتعزيز مكانة القدس كمركز للابتكار العسكري، فضلا عن تلبية «الاحتياجات الأمنية" ودعم ما يُسمى "اقتصاد المدينة".
وإضافة إلى ذلك، تنص الاتفاقية على إنشاء متحف جديد للجيش الإسرائيلي بالقرب من حديقة القدس النباتية ومعهد ماندل للقيادة، لجمع ما يُطلق عليه "التراث العسكري الإسرائيلي"، مع التأكيد على الحفاظ على المساحات العامة المفتوحة ومواءمة المشروع مع المخطط العمراني للمنطقة.
وتشمل الخطة أيضاً تحديث مركز التجنيد (ميتاف) في القدس لـ«تلبية الاحتياجات المتزايدة للجيش الإسرائيلي»، بما في ذلك دراسة إمكانية نقله من موقعه الحالي في شارع راشي إلى موقع آخر أكثر حيوية داخل المدينة.
ويقع مركز التجنيد الحالي بالقرب من مقرات جماعات دينية متشددة من الحريديم الذين يرفضون الخدمة العسكرية، والذين ينظمون احتجاجات متكررة أمامه، وهو ما أشارت إليه “يسرائيل هيوم”. متسائلة عمّا إذا كانت هذه الاحتجاجات ستتكرر في الموقع الجديد.
وعلاوة على ذلك، تنص الاتفاقية على نقل كليات الجيش الإسرائيلي من معسكر غليلوت في هرتسليا شمال تل أبيب إلى منطقة يسهل الوصول إليها داخل القدس، ومرتبطة بشبكة المواصلات العامة.
كما يجري العمل على إنشاء ودمج مشاريع استيطانية مخصصة للجنود المحترفين، بقيادة بلدية الاحتلال في القدس وبالتعاون مع مديرية الموارد البشرية في الجيش الإسرائيلي، في خطوة تعزز الطابع العسكري والاستيطاني للمدينة المحتلة.

الأهداف والرسائل
ركّزت التصريحات الإسرائيلية التي رافقت توقيع الاتفاقية الجديدة على تكريس سردية “السيادة” على القدس، بوصفها عاصمة مزعومة لإسرائيل، في محاولة واضحة لمنح الخطوة بعدا سياسيا وعقائديا يتجاوز مضمونها العسكري.
وقال وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس: “في كل منصب عام شغلته، حافظت على التزامي العميق تجاه مدينة القدس". مضيفا أن "وزارة الدفاع تعلن اليوم بأوضح صورة أن المدينة ستصبح مركزا لمناطق نشاطنا الرئيسة».
ورأى أن توقيع الاتفاقية ”يأتي في وقت عصيب بعد عامين من الحرب على غزة وجبهات أخرى، ويشكّل بيانا واضحا بأن القدس تُبنى وتُطوّر وتُعزّز بصفتها العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل وللشعب اليهودي".
ومضى كاتس في لهجته التصعيدية بالقول: إن “هذا هو الرد الأمثل على أعدائنا، وعلى من يضمرون لنا الشر، وعلى كل من يجرؤ على التشكيك في ارتباط الشعب اليهودي الأبدي بمدينة القدس”. في تأكيد صريح على البعد الرمزي والأيديولوجي للاتفاق.
من جهته، وصف رئيس بلدية الاحتلال في القدس موشيه ليون الاتفاقية بأنها “لحظة فارقة ستعزز مكانة القدس وتضعها في طليعة الأمن القومي”، ويرى أنها “خطوة إستراتيجية ستخلق مراكز قوة جديدة في المدينة، وتدعم الاقتصاد المحلي، وتعمّق مكانة القدس كمدينة تقود دولة إسرائيل نحو التقدم”. على حد تعبيره.
بدوره، قال المدير العام لوزارة الجيش اللواء (احتياط) أمير بارام: إن “الأمن القومي لا يقتصر على الجبهة العسكرية فحسب، بل يعني أيضا وجود قدس قوية ومتطورة". معلنا أنه “تماشيا مع إستراتيجية وزارة الدفاع، تقرر زيادة انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في القدس بشكل ملحوظ”. مضيفاً: «من هنا نبدأ العمل، وستتحدث أفعالنا عن نفسها”.
في المقابل، قوبلت هذه التصريحات بتحذيرات فلسطينية من خطورة الاتفاق وتداعياته؛ إذ حذّرت حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، في 16 ديسمبر/كانون الأول، من أن مخططات الاحتلال تهدف إلى عسكرة مدينة القدس وتهويدها، "بهدف تكريسها بالقوة كعاصمة مزعومة لإسرائيل".
وقال القيادي في الحركة محمود مرداوي: إن “الاتفاقية تمثل دلالة خطيرة على تحويل القدس إلى مركز عسكري وأمني متقدم، وتعميق الطابع الاحتلالي للمدينة، وفرض وقائع جديدة تستهدف هويتها العربية والإسلامية". وأضاف أن هذه الخطوات «تشكل جزءا من مخطط شامل لتهويد القدس، وتغيير معالمها الديمغرافية، وتشديد الخناق على أهلها الفلسطينيين عبر المصادرة والعزل والتهجير، وربط مستقبل المدينة بالمؤسسة العسكرية للاحتلال»، محذرا من أنها "تنذر بمزيد من التصعيد والمواجهة”.
وبدورها، عدت محافظة القدس الاتفاقية خطوة تصعيدية تمثل أوسع عملية إعادة تموضع عسكري إسرائيلي في المدينة منذ عقود، مؤكدة أنها تأتي "في إطار سياسات الضم والتهويد الممنهجة"، بما يزيد التضييق على المقدسيين، ويهدد النسيج الاجتماعي والهوية العربية والإسلامية والمسيحية للمدينة.

إعادة هندسة
يرى المستشار الإعلامي لمحافظة القدس، معروف الرفاعي، أن الخطوة الإسرائيلية الأخيرة «تشكل تحوّلا إستراتيجيا عميقا في مكانة القدس داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية». ويرى أنها تمثل «مشروعا متكاملا لإعادة هندسة المدينة أمنيا وديمغرافيا».
وأوضح الرفاعي، في حديث لـ"الاستقلال"، أن القدس لم تعد تُقدَّم في هذا السياق بصفتها “عاصمة سياسية مزعومة لإسرائيل فحسب”، بل يجري تكريسها كـ"عاصمة أمنية وعسكرية ومركز قيادة وسيطرة للقرار الأمني"، بما يعني دمج الحيز المدني للمدينة بالمنظومة العسكرية، وإخضاعها عملياً لإدارة أمنية دائمة.
ويرى الرفاعي أن هذه الخطوة تندرج في إطار سياسة فرض السيادة بالقوة، وتكريس ضمّ القدس كأمر واقع غير قابل للتراجع، مشيرا إلى أن وجود مقر وزارة الجيش والكليات العسكرية داخل المدينة المحتلة يحمل رسالة سياسية وأمنية واضحة مفادها أن القدس باتت خارج أي نقاش مستقبلي حول الحل النهائي أو التقسيم، وأنها تتحول تدريجياً إلى قلب الدولة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
ويتوقع الرفاعي أن يسهم نقل مراكز القرار العسكري إلى القدس في تشديد القبضة الأمنية على شرقي المدينة، عبر تقليص زمن اتخاذ القرار، وتسهيل التدخل الفوري في أي تطورات ميدانية، سواء تعلّق الأمر باحتجاجات شعبية أو مناسبات دينية أو أحداث ميدانية طارئة، الأمر الذي يعزز التعامل مع الأحياء الفلسطينية بوصفها «مناطق احتكاك أمني دائم»، لا فضاءات مدنية طبيعية.
كما يرى أن توقيع الاتفاقية مع بلدية الاحتلال يحمل دلالات إضافية؛ إذ يعكس توجها لدمج الأدوار بين الجيش والشرطة والبلدية، بما يحوّل المؤسسات المدنية إلى أذرع مساندة للمنظومة الأمنية، من خلال التخطيط العمراني، وإدارة الطرق، وتوسيع شبكات المراقبة، ما يُنهي عملياً أي فصل بين المدني والأمني في المدينة.
وعلى الصعيد الميداني، يتوقع الرفاعي أن ينعكس هذا التحول الأمني على حياة المقدسيين بزيادة ملحوظة في الانتشار العسكري والتدريبات الأمنية، وفرض الإغلاقات المفاجئة، إلى جانب تشديد الحواجز وتقييد الحركة، وهو ما سيؤثر مباشرة على تنقل السكان ووصولهم إلى أماكن العمل والتعليم والعلاج، ويحوّل الحياة اليومية إلى حالة دائمة من التوتر وعدم الاستقرار.
كما رجّح أن تشهد القدس توسعا غير مسبوق في أدوات المراقبة والسيطرة، بما في ذلك تكثيف استخدام الكاميرات الذكية، وتقنيات التعرف على الوجوه، وتتبع البيانات الرقمية، وربط المعطيات البلدية بالسجلات الأمنية، ما يضع المقدسيين تحت منظومة مراقبة شاملة تتجاوز الأطر الأمنية التقليدية.
ويحذّر الرفاعي من أن هذا الواقع الجديد سيقود إلى تجريم متزايد للحياة اليومية في القدس؛ حيث قد تُفسَّر الأنشطة الاجتماعية أو الطلابية أو الإعلامية، وحتى الدينية، من زاوية أمنية بحتة، ويُتعامل معها بصفتها إخلالا بالنظام، ما يفتح الباب أمام توسّع أوامر الإبعاد والاعتقال والإجراءات العقابية.
ويخلص إلى أن هذه السياسة ستسهم في تسريع ما يُعرف بـ«التهجير الصامت»، عبر خلق بيئة طاردة قائمة على الضغط الأمني والنفسي، وارتفاع كلفة العيش، وتقييد الحركة، الأمر الذي قد يدفع فئات واسعة من المقدسيين، لا سيما الشباب، إلى مغادرة المدينة تدريجياً، في إطار مشروع طويل الأمد يستهدف تقليص الوجود الفلسطيني في القدس من دون اللجوء إلى الترحيل القسري المباشر.
المصادر
- Israel moves defense headquarters to Jerusalem in major strategic shift
- Defense Ministry moves strategic projects to Jerusalem
- Jerusalem, Defense Ministry sign strategic pact
- Defense Ministry, Jerusalem municipality sign deal to establish new defense HQ, relocate military colleges to capital
- محافظة القدس: إعادة التموضع العسكري داخل المدينة تصعيد خطير في عسكرة القدس المحتلة
- حماس تحذر من مخططات إسرائيلية لتحويل القدس إلى مركز عسكري وأمني














