بناها الصحابة وسكنها التابعون.. لماذا تراجع السنة إلى 35 بالمئة في البصرة؟
في محاولة لطمس ما تبقى من هويتها وتاريخها الإسلامي الناصع، تتعرض مراقد أبرز رموز المسلمين في مدينة البصرة العراقية وبطريقة ممنهجة إلى الهدم والتخريب والسرقة، وذلك في ظل صمت وتواطؤ- في بعض الأحيان- من السلطات الحاكمة بعد عام 2003.
وبعدما كانت البصرة مدينة يقيم فيها صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتابعون من بعدهم وانطلقوا منها إلى أصقاع الأرض لنشر دين الإسلام، بات أهل السنة اليوم لا يشكلون سوى 35 بالمئة من سكانها، جرّاء التهجير والقتل والتهديد.
تخريب ممنهج
آخر العمليات ضد الأماكن الرمزية لأهل السنة بالعراق، بل وللمسلمين في العالم، تمثلت بتخريب مبنى مرقدي (قبري) سيد التابعين الإمام الحسن البصري، والمفسر الكبير الإمام أبي بكر محمد بن سيرين، بمدينة البصرة في 3 مايو/أيار 2023.
والبصري إمام وقاضٍ ومحدث من علماء التابعين ومن أكثر الشخصيات البارزة في عصر صدر الإسلام، ولد في المدينة المنورة، ثم سكن البصرة حتى توفي فيها عام 110 للهجرة (728 ميلادية) عن عمر ناهز 89 عاما.
فيما يعد محمد بن سيرين من كبار التابعين وإماما في التفسير، والحديث، والفقه، وتعبير الرؤيا، والذي ولد بالبصرة وتوفي فيها عام 110 للهجرة أيضا، عن عمر 78 عاما، ودفن بجوار الحسن البصري.
واستنكر وجهاء وعلماء دين من البصرة، التعدي على قبري الحسن البصري وابن سيرين وتحطيم الأبواب وتخريب المكان وسرقة محتوياته من أجهزة التبريد والمقتنيات الخاصة بالمبنى الذي يضم المرقدين.
ودعا هؤلاء الحكومة العراقية، لاسيما محافظ البصرة أسعد العيداني وقائد شرطة المدينة قاسم راشد زويد، إلى إعادة النقاط الأمنية والحراس أمام مبنى هذه المراقد والعديد من المساجد، التي جرى سحبها مطلع مايو من دون معرفة الأسباب.
وفي يناير 2023، تداول صحفيون وناشطون عراقيون على "تويتر" مقطعا مصورا يظهر تحول مسجد ومرقد الصحابي وخادم الرسول أنس بن مالك إلى مكان خرب تجمعت فيه النفايات جرّاء الإهمال المتعمد من السلطات في مدينة البصرة.
وكذلك قبر الصحابي طلحة بن عبيد الله، الذي أطلق عليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لقب "طلحة الخير"، تعرض للنسف بشكل كامل في البصرة إبان الحرب الطائفية التي شهدها العراق خلال الأعوام 2006 إلى 2008.
ففي 16 يونيو/حزيران 2007، فجرت المليشيات الشيعية مرقد الصحابي طلحة بن عبيد الله، بعدما ادعوا أنهم يريدون تصويره، لكنهم لغموا أركان المكان بعبوات ناسفة انفجرت فور مغادرتهم ما أسفر عن انهيار جزء منه، لكن بعد دقائق حدث انفجار آخر أدى إلى تدميره بالكامل.
الصحابي طلحة كان قد قتل في معركة "الجمل" عام 36 هجرية (658 ميلادية) وجرى دفنه في المكان ذاته، وعلى مقربة من مرقده يوجد قبر الصحابي الزبير بن العوام.
حال مرقد الصحابي أنس بن مالك في #البصرة pic.twitter.com/iog26ELS9e
— عبدالله النجار - Abdullah Alnajjar (@AbdulaAlnajjar) January 22, 2023
وتقع محافظة البصرة في أقصى جنوب العراق، تحدّها الكويت والمملكة العربية السعودية من الجنوب، وإيران من الشرق وتشترك بحدود محلية مع كل من محافظتي ذي قار وميسان شمالا، ومحافظة المثنى غربا، ومركز المحافظة هو مدينة البصرة.
تعد البصرة ثالث أكبر محافظة بالعراق من حيث عدد السكان (4.9 ملايين نسمة حسب إحصاء عام 2022) وسادس أكبر محافظة بالعراق من حيث المساحة ( 19,070 كلم).
من الناحية الاقتصادية، تشكل محافظة البصرة ميناء العراق الأوحد، ومنفذهُ البحري الرئيس إلى الخليج العربي، كما تضم حقول النفط ومنها حقل الرميلة وحقول الشعيبة.
تدمير طائفي
وعن الغرض من الاستهداف المستمر الذي ينال هذه الأماكن في مدينة البصرة، قال الباحث في شؤون الفرق الإسلامية، فاروق الظفيري إن "المراقد السنية والشيعية لم تشهد أي تعرض للتخريب قبل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، لأنه كان هناك دولة وقانون في البلد".
وأضاف الظفيري لـ"الاستقلال" أنه "بعد الاحتلال الأميركي وخلال حكم الأحزاب الشيعية الطائفية للعراق وإلى اليوم تعرضت لأكثر من مرة المراقد السنية في جميع المحافظات ومنها البصرة إلى تدمير طائفي ممنهج".
وأشار إلى أن "السنة في البصرة تعرضوا لتهديدات ممنهجة وصلت إلى القتل والخطف والتهجير في محاولة لتشييعها كلها بعدما كانت سنية بالكامل حتى بدأ الزحف الشيعي عليها قبل قرنين، لكن حتى اليوم فإن السنة يشكلون أكثر من 35 بالمئة من سكان المدينة رغم كل ما لحق بهم".
وأكد الباحث أن "الاحتلال الأميركي سلم العراق إلى حكومات شيعية طائفية تابعة لإيران، فهو كان سببا رئيسا في نشر التشيع بالبلاد".
وبين أن "البصرة هي عين العراق على الخليج العربي، وأهميتها إستراتيجية، وفيها حقول النفط الهائلة".
ولفت إلى أن "أهمية البصرة أنها كانت حاضرة العالم الإسلامي ومدينة انطلاق جيوش الفتح الإسلامي منذ أن بناها عتبة بن غزوان في عهد الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
من جهته، قال الباحث العراقي حسين السبعاوي إن "أكثر المناطق تضررا من جرائم التغيير الديمغرافي هي مدينة البصرة، وذلك من خلال الاغتيالات للشخصيات العربية السنية وخاصة أئمة المساجد والعلماء وضباط الجيش العراقي السابق".
وأضاف السبعاوي خلال محاضرة نظمها مركز الرافدين للدراسات الإستراتيجية "راسام" في 18 سبتمبر/أيلول 2021 بمدينة إسطنبول التركية أن "من أساليب التغيير الديمغرافي التي عانت منها البصرة، المداهمات اليومية والمضايقات مثل الاعتقالات والتهم الكيدية والمخبر السري".
وأوضح الباحث خلال محاضرته التي نشر "راسام" تفاصيلها على موقعه الإلكتروني أن "المليشيات التي هجرت المواطنين هي جيش المهدي (أسسه مقتدى الصدر عام 2004) وحزب الفضيلة الشيعي (أنشأه رجل الدين محمد اليعقوبي في 1991) بمساعدة إيران والحكومات المحلية في البصرة".
وذكر أن "أبرز المناطق تضررا من جرائم التغيير الديمغرافي في محافظة البصرة، قضاءا أبي الخصيب، والزبير، وحي الجزائر ومنطقة الكواز في مركز المدينة، إضافة للمناطق التي يقطنها العرب السنة في الأحياء والأقضية ذات الأغلبية الشيعية".
قبة الإسلام
تقع البصرة العراقية على الضفة اليمنى من شط العرب عند نهري دجلة والفرات، وسميت بهذا الاسم لأن البصرة تعني "الأرض الغليظة"؛ كونها كانت تحتوي على الحجارة البيضاء الصلبة، كما أن العرب كانوا يطلقون عليها قديما تسمية "أرض الهند".
تأسست البصرة في زمن الخليفة عمر بن الخطاب سنة 16 هجرية (637 ميلادية) وبناها القائد المسلم عتبة بن غزوان، فهي أول مدينة إسلامية بنيت خارج الجزيرة العربية زمن الفتوحات الإسلامية، وكانت تدعى: قبة الإسلام ومقر أهله بالعراق.
كانت البصرة في الجاهلية من ثغور العراق، فيها خليط من أمم شتى: فرس ويونان، وهنود انتشروا في بطائحها، وقد نزلها العرب منذ القديم، كما فيها أنباط غير قليلين.
وكانت هي والأبلة (مدينة عراقية قرب البصرة) مركزين للتجارة الداخلية والخارجية، وكان يرتادها تجار العرب، وتردد عليها أبو بكر الصديق في الجاهلية مرات.
وقد بلغت البصرة، أوج ازدهارها في العصر العباسي الأول من 132 إلى 232 للهجرة (750 إلى 847 ميلادية) فقد كانت مركزا تجاريا مهما.
كما ازدهرت الحياة الفكرية والثقافية إلى جانب تقدمها الاقتصادي، فكانت المساجد والمكتبات ومجالس العلم أسمى ما يتوق إليه الأهالي في حياتهم.
وفي العصر العباسي الثاني الذي امتد من 232 إلى 334 للهجرة (847 إلى 946 ميلادية) أخذ رخاء مدينة البصرة في التقهقر والتراجع لعدة عوامل مؤثرة من بينها الثورات التي تعرضت لها المدينة، أهمها ثورة الزنج عام 257 للهجرة (869 ميلادية) ضد العباسيين، والتي استمرت 14 عاما حتى أخمدت، وألحقت أضرارا كبيرة بالمدينة.
وكذلك تعرضت إلى هجوم القرامطة في 317 للهجرة (908 ميلادية) الذين نهبوا المدينة وفتكوا بأهلها ظلما وعدوانا، ثم غزاها المغول عام 654 للهجرة (1254 ميلادية) وحرقوا كل ما له صلة بتاريخ هذه المدينة، ودمروا مبانيها فكانت أعظم كارثة تحل بالبصرة منذ تأسيسها.
وبعدها انتقلت البصرة إلى الدولة العثمانية بعد أن فتحها السلطان سليمان الأول في عام 941 للهجرة (1535 ميلادية)، ثم أغار عليها الفرس عام 1190 للهجرة (1785 ميلادية) مرات عدة حتى تمكنوا من الاستيلاء عليها والتنكيل بأهلها.
وفي عام 1193 للهجرة (1988 ميلادية) خرج الفرس من البصرة بعد أن طردتهم منها الجيوش العثمانية بمشاركة القبائل العربية الساكنة في المنطقة، وبقيت المدينة في سلطة العثمانيين حتى بداية الحرب العالمية الأولى (1914 إلى 1918م).
ذا بقايا مسجد البصره القديم ، وهو أول مسجد بني خارج الجزيرة العربية ، بناه الصحابي عتبه بن غزوان بأمر عمر الخطاب pic.twitter.com/tRrDjVvyT4
— جمال المستغانمي (@djamelbouaissi) February 19, 2023
وفي أوائل الحرب العالمية الأولى، استولى الإنجليز على البصرة في 1917م، وقد نالت استقلالها ضمن دولة العراق عام 1932م، وذلك في ظل العهد الملكي للبلاد.
ومن أهم أعلام البصرة: أبو الأسود الدؤلي واضع أصول التنقيط في اللغة العربية، والخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب معجم العين وواضع علم العروض، إضافة إلى أبي عثمان عمرو بن بحر المعروف بـ"الجاحظ"، وأحد قامات الأدب العربي صاحب كتاب الحيوان.
ومن أعلامها أيضا، عالم البصريات والفيزياء الحسن بن الهيثم، وإمام أهل الحديث في زمانهِ ومحدث البصرة أبو داود السجستاني، وغيرهم كثير من المعاصرين من أمثال الشاعر بدر شاكر السياب.
المصادر
- وجهاء وعلماء دين في البصرة يستنكرون ما قام به مجهولون بالتعدي على قبر الحسن البصري وطالبه ابن سيرين
- تضم رفات الحسن البصري ورابعة العدوية والفرزدق والسياب.. أقدم مقبرة للمسلمين بالعراق مهددة بالتجريف
- البصرة .. تاريخها وحضارتها
- مسجد وقبر الصحابي أنس بن مالك في محافظة البصرة يشكو الإهمال
- نسف مرقد الصحابي طلحة و« علماء المسلمين» تتهم الحكومة العراقية بالتواطؤ
- مركز راسام ينظّم محاضرة حول التغيير الديموغرافي في العراق
- البصرة ( مدينة العلم والعلماء )
- كأس الخليج سيكون في البصرة؛ فماذا تعرف عن هذه المدينة المُسمّاة بـ “خزانة العرب”؟