"حرب المناطيد" تشتعل بين الصين وأميركا.. هل تصل إلى مواجهة عسكرية؟
ثمة تأهب حول العالم حيال الاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين بشأن مناطيد التجسس وانتهاكات السيادة، وسط مخاوف من فتح أميركا جبهة غربية على غرار ما يحدث في روسيا، لكن هذه المرة ضد التنين الصيني المرشح الأول لاستحداث قطب جديد بالعالم.
ومنذ مطلع فبراير/ شباط 2023، بدأت أميركا والصين الإعلان عن رصد وإسقاط "أجسام مجهولة" طائرة على مسافات عالية تنفذ أعمال تجسس، ما فجر جولة جديدة من الحرب الإعلامية بين القوتين العظميين بالعالم، بعدما نمت آمال أخيرا عن عودة الدبلوماسية لحل الخلافات العالقة بينهما.
فهذه التطورات جاءت عقب لقاء عقده زعيما البلدين جو بايدن وشي جين بينغ على هامش قمة العشرين في مقاطعة بالي الإندونيسية خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، اتفقا فيه على منع تحول المنافسة بينهما إلى صراع.
كما اتفقا على أن يجري وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن زيارة إلى بكين، في 5 و6 فبراير/ شباط 2023، لتكون الأولى من نوعها منذ 2018، لكن التوتر الأخير نسف كل هذه الآمال، وسط تحليلات عن أن الأمر لا يخلو من رسائل محددة يرسلها كل جانب للآخر.
صراع المناطيد
وفي أحدث صور التوتر المتواصل بين الطرفين، نفى البيت الأبيض، في 13 فبراير 2023، اتهامات وجهتها إليه السلطات الصينية بإرسال مناطيد تجسس فوق أراضيها.
وكتبت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، أدريان واتسون، في تغريدة، أن "أي ادعاء بأن الحكومة الأميركية تستخدم مناطيد تجسس فوق جمهورية الصين الشعبية، خاطئ".
وأضافت أن بكين تحاول "الحد من الأضرار التي تسببت بها"، متهمة إياها في المقابل بـ"انتهاك سيادة الولايات المتحدة وأكثر من 40 دولة من خلال برنامجها لمناطيد التجسس".
Any claim that the US government operates surveillance balloons over the PRC is false. It is China that has a high-altitude surveillance balloon program for intelligence collection, that it has used to violate the sovereignty of the US and over 40 countries across 5 continents. https://t.co/VzPceB6JUh
— Adrienne Watson (@NSC_Spox) February 13, 2023
وجاءت تغريدة المسؤولة الأميركية تعليقا على تأكيد وكالة أسوشيتد برس نقلا عن المتحدث باسم الخارجية الصينية وانغ وين بين، أن أميركا تقف وراء تحليق ما يزيد عن 10 بالونات على ارتفاعات عالية في مجالها الجوي منذ يناير/ كانون الثاني 2022، دون الحصول على إذن قانوني من بكين.
وقبل ذلك بيوم واحد، نقلت الوكالة الأميركية عن السلطات الصينية تأكيدها أنها تستعد لإسقاط "جسم مجهول كان يحلق على ارتفاع عالِ بالقرب من ساحلها الشرقي".
وجاءت هذه الإعلانات الصينية بعد رصد الولايات المتحدة وكندا أجساما طائرة مجهولة في مجال البلدين الجوي على مدى عدة أيام، ما تسبب بضجة كبيرة في الأروقة السياسية والإعلامية الأميركية.
وكانت تقارير أميركية قد تحدثت مطلع فبراير عن اختراق منطاد صيني الأجواء الأميركية ووصوله إلى ولاية مونتانا شمال غربي البلاد، ما أثار انتقادات عنيفة من جانب الجمهوريين لإدارة بايدن الديمقراطية، مؤكدة أنه "أداة تجسس صينية متقدمة، وانتهاك واضح للسيادة الأميركية".
وفي 5 فبراير 2023، خرج بايدن إلى وسائل الإعلام معلنا إسقاط المنطاد الصيني الأول، قائلا: "لقد نجحنا في التخلص منه، وأريد أن أثني على طيارينا الذين فعلوا ذلك".
وأشار إلى أنه أصدر أمرا مطلع فبراير بإسقاط المنطاد، لكن وزارة الدفاع (البنتاغون) أوصت بالانتظار "حتى تستطيع القيام بذلك في منطقة مفتوحة فوق المياه، ومعرفة تفاصيل أكثر عنه".
من جانبها، نقلت وكالة "رويترز" عن مسؤول عسكري أميركي كبير، أن العديد من الطائرات المقاتلة شاركت في مهمة الإسقاط، منها طائرة من طراز إف-22، نفذت المهمة بصاروخ واحد من طراز "إيه آي إم 9 إكس".
وأضاف المسؤول أن المنطاد أُسقط على بُعد 6 أميال بحرية قبالة الساحل الأميركي الغربي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ كشف زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، في 12 فبراير، أن بلاده أسقطت جسمين طائرين فوق المجال الجوي للبلاد، يومي 10 و11 فبراير.
وأوضح أن "هذه الأجسام عبارة عن هياكل ثمانية الأضلاع وتتدلى منها أوتار، ولم تكن تمثل تهديدا عسكريا على أي شيء على الأرض".
واستدرك: "لكن كان من المحتمل أن يشكل أحدهما خطرا على الطيران المدني، حيث حلّق على ارتفاع 6 آلاف متر فوق ولاية ميشيغين شمال شرقي البلاد، بينما كان الآخر فوق آلاسكا بأقصى شمال غرب أميركا الشمالية".
وفي 12 فبراير 2023، أعلن رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، في بيان، إسقاط "جسم غير محدد" فوق شمال غربي بلاده، لتكون العملية الرابعة من نوعها بالقارة.
الصين بدورها، ادعت في 10 فبراير، أن "لا علاقة للمنطاد الذي أسقطته أميركا في 5 فبراير بالتجسس، إنما يستخدم للأرصاد الجوية والأغراض العلمية، وأنه ضل طريقه ودخل المجال الجوي الأميركي بالخطأ".
وعبّرت وزارة الخارجية الصينية، في بيان، عن أسفها إزاء تحليق المنطاد فوق أميركا، مؤكدة أنه "كان بسبب قوة قاهرة"، واتهمت الساسة ووسائل الإعلام الأميركية باستغلال الحادث لتشويه سمعة الصين، وترى في الوقت ذاته أن إعلان بلينكن تأجيل زيارته إلى بكين "لا معنى له".
وقبلها نقلت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية شبه الرسمية عن مسؤولين صينيين لم تسمهم، في 4 فبراير قولهم إن "رد الفعل الأميركي ضجة مفتعلة، وهذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة وغير مقبولة".
وتعد المناطيد من أقدم وسائل الرقابة والتجسس بالعالم، واستخدمها الجيش الياباني لأول مرة في إسقاط قنابل حارقة فوق الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
كما جرى استخدامها على نطاق واسع من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة. (1947-1991)
وتحلق المناطيد الحديثة غالبا على ارتفاع يتراوح بين 24 و 37 كم فوق سطح الأرض، وتتميز بانخفاض تكلفتها بصورة كبيرة مقارنة بغيرها من معدات التجسس العابرة للقارات.
مواجهة مغايرة
وفي قراءته لهذه الادعاءات والاتهامات المتبادلة، أكد الباحث في العلاقات الدولية، محمد عابد، أن "حرب المناطيد تعد ارتقاء رسميا للتصعيد بين أميركا والصين إلى مستوى جديد".
وأوضح عابد لـ"الاستقلال"، أنه "على مدار السنوات الأخيرة، بدأت أميركا حربا تجارية ودبلوماسية ضد الصين من طرف واحد، ثم انتقلت إلى تصعيد المشهد العسكري في بحر الصين الجنوبي من خلال استفزاز بكين في تايوان، وتشكيل تحالفات مع مختلف دول المنطقة، ثم اتجهت نحو زيادة إنفاقها العسكري تحت ذريعة (الخوف من التنين الصيني)".
من جانبها، حاولت بكين خلال تلك المرحلة تأجيل لحظة المواجهة، وفق عابد، وهو ما يمنحها بعض الوقت للبحث عن بدائل اقتصادية، من جهة، ولإثبات "سوء نوايا" واشنطن من جهة ثانية ووضعها في خانة المعتدي، وهو ما يدعم سرديتها الدبلوماسية التقليدية.
واستدرك الباحث قائلا: "لكن تلك المرحلة انتهت، وحرب المناطيد الآن هي بمثابة ارتقاء التصعيد إلى مستوى جديد".
ومضى يقول: "صحيح أن الصين حققت بعض الاختراقات الدبلوماسية، مثل تمتين التحالف مع جزر سليمان وكمبوديا وميانمار، لكن خياراتها في محاولة تطمين دول الجوار باتت محدودة، خصوصا بعد أن حسمت الفلبين خيارها وعادت لتشكل قاعدة للوجود العسكري الأميركي في المنطقة".
رغم ذلك، يضيف الباحث بالعلاقات الدولية، "تبقى الصين هادئة وتسير بخطوات مدروسة أغلبها في إطار الرد، وتبقى الولايات المتحدة من يبادر في التصعيد".
ولفت إلى أنه "رغم أن تضخيم حادثة المنطاد قد أضرت بإدارة بايدن، وجعلته محل سخرية في الولايات المتحدة، لكن هذا السلوك يأتي في إطار الصورة الكبيرة لإستراتيجية واشنطن في مواجهة بكين".
وأوضح عابد ذلك بالقول إن "التدخل الحكومي في السوق والصفقات التجارية أمر غير معتاد في أميركا، حيث يوجد تقديس كبير لمبادئ العرض والطلب وحرية السوق، لكن الحوادث الأمنية يتم استغلالها لتبرير التدخل الحكومي وحرمان الشركات الأميركية من الاستفادة من السوق، أو رأس المال، أو التكنولوجيا الصينية".
وهو ما حدث أخيرا مع قرار واشنطن الأخير بحظر التعامل مع عدة شركات صينية مرتبطة بقطاع الطيران، إثر إسقاط المنطاد الأول.
وقررت وزارة التجارة الأميركية، في 10 فبراير، إضافة ست شركات صينية مرتبطة ببرامج الطيران الخاصة بالجيش الصيني إلى قائمة الكيانات الخاصة به، ما يمنعها من الحصول على التكنولوجيا الأميركية دون إذن حكومي.
وأردف عابد بأن "هذه السياسة تلتقي مع التقارير المتعلقة باستخدام بكين لتكنولوجيا شركات مثل (هواوي) و(تيك توك) للتجسس وجمع المعلومات عن الأميركيين، ما يعني إبعاد تقنيات تطورت فيها الصين مثل شبكات الجيل الخامس عن السوق الأميركي بالقانون".
وعن مدى تأثير هذا التوتر على اللقاءات الرسمية بين الجانبين، قال إن "التصريحات المتعلقة بمساعي تجاوز الخلافات، لا تعني أننا لا نعيش حربا باردة بين البلدين".
وأضاف: "قد يكون ما يجري مختلفا عن حرب أميركا والاتحاد السوفييتي، لكنها حرب باردة بمعطيات اليوم، وبطبيعة العلاقات بين بكين وواشنطن، وبحجم الصين وموقعها الكبير في سلاسل التوريد العالمية.
وبالإجمال، أكد عابد أن رسالة الصين من هذه المناطيد أنها "مستعدة للتصعيد"، أما أميركا فهي معنية باستغلال أي حدث حتى ولو يضر بسمعتها وتوجيهه نحو ما يخدم مصالحها، وفي هذه الحالة تسعى إدارة بايدن لحشد الرأي العام وتبرير زيادة سطوتها على الاقتصاد والشركات.
الرسالة وصلت
وفي ضوء هذا التحليل، ربما تحاول بكين إرسال إشارة إلى واشنطن مفادها "رغم أننا نرغب بتحسين العلاقات لكننا على استعداد دائم لخوض مواجهة بكل الوسائل الضرورية، دون التسبب بتوتر شديد بين البلدين"، حسب رأي الخبير الصيني المستقل في مجال القوة الجوية، "هي يوان مينغ".
وقال "هي" لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في 3 فبراير: "لا يوجد شيء أفضل من هذا المنطاد غير العدائي" للقيام بهذا الدور.
وهو ما يتفق معه الخبير في الشأن الصيني، بنجامين هو، بالقول لـ"بي بي سي"، إن "ترسانة الصين تتضمن تكنولوجيا مراقبة أكثر تطوراً.
وأوضح الخبير "هو"، أن "لدى الصين وسائل أخرى للتجسس على البنية التحتية الأميركية، أو لجمع أي معلومات تريد الحصول عليها".
وتابع: "هذا المنطاد يهدف إلى توجيه رسالة إلى الأميركيين وكذلك لمعرفة كيف سيكون رد فعلهم، وربما أرادت الصين أن تكتشف الولايات المتحدة المنطاد".
تجدر الإشارة إلى أن الصين رغم الاستفزازات الأميركية الاقتصادية والعسكرية طوال 2022، تجنبت تصعيد التوتر مع الولايات المتحدة، وذلك حتى تجتاز انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي المصيري نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2022، والذي انتهى بانتخاب الرئيس شي لولاية رئاسية ثالثة، رغم الانتقادات الكثيرة التي طالت حكمه.
أميركيا، لفت أستاذ العلاقات الدولية في كلية "ماكالستر"، أندرو لاثم، إلى أن "الصين في هذه الآونة تحاول تعزيز اقتصادها بعد إنهاء جائحة كورونا رسميا على أراضيها كما تحاول تعزيز جيشها لحماية تايوان".
وأوضح أن هذا يزيد من حدة التنافس بين البلدين الأكبر بالعالم، لكن "لاثم" رغم ذلك أكد في مداخلة تلفزيونية لقناة "الغد" الإماراتية في 5 فبراير، أنه من غير المتوقع أن يصل الأمر إلى حد المواجهة العسكرية في الوقت الراهن.