بينما التركيز على الدين الخارجي.. أزمة قروض مصر قد تنفجر من الداخل
عبر تقارير عن أزمة مصر الاقتصادية المتفاقمة، تتواصل الأحاديث عن حجم ومخاطر الدين الخارجي لمصر في بيانات مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية ونشرات المواقع الإخبارية العالمية والعربية والمحلية.
إلا أن الكثير من وسائل الإعلام تلك بل وحتى الخبراء والمحللون الأجانب والمصريون يتركون الحديث عن دين مصر الداخلي، وحجمه، وتأثيراته، رغم خطورة مآلاته على الشعب.
وينشأ الدين الداخلي العام نتيجة لتمويل عجز الموازنة الحكومية بالديون، إذ تقترض الحكومة من السوق المحلية، وذلك عبر المصارف التجارية أو المصرف المركزي أو المؤسسات المالية وغير المالية الأخرى.
لا شفافية
أرقام الدين الخارجي، يجرى رصدها بدقة مؤسسات دولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، لكن للدين الداخلي، لا يوجد رقم موحد، وسط غياب الشفافية التي يتميز بها نظام عبدالفتاح السيسي في مصر، بحسب متحدثين لـ"الاستقلال".
وأكدوا أنه يصعب على الخبراء الاقتصاديين والأكاديميين المصريين رصد حقيقة حجم الدين العام المحلي، خاصة أنه موزع بين مستحقات على الحكومة وأخرى على هيئاتها الاقتصادية وبنك الاستثمار القومي.
ووفق نشرة إحصائية صادرة عن البنك المركزي المصري أواخر تموز/ يوليو 2022، فإن إجمالي الدين العام المحلي بلغ 4.7 تريليونات جنيه، (247 مليار دولار) بأسعار الصرف حينها (نحو 18 جنيها).
المركزي المصري أوضح حينها أن الدين المحلي وحده يمثل أكثر من 81 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وكانت قد أكدت بيانات البنك المركزي المصري في مايو/ آيار 2019، وصول إجمالي الدين العام المحلي للبلاد إلى 4.1 تريليونات جنيه، (241.9 مليار دولار)، وذلك بنهاية ديسمبر/ كانون الأول 2018.
وفي مايو/ أيار 2022، قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، إن حجم الدين العام الحكومي وصل إلى نحو 86 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، موضحا أنه يعد في الشريحة المرتفعة.
ودائما ما يجمع حديث المسؤولين المصريين بين أرقام الدين الداخلي والخارجي، أو يجرى الحديث عن الدين الخارجي منفردا.
وفي أبريل/ نيسان 2022، قال النائب بمجلس النواب المصري إيهاب منصور خلال مناقشة الحساب الختامي لموازنة العام 2020 – 2021، إن الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي، بلغ 5.5 تريليونات جنيه (الدولار حينها عادل 18.59 جنيه).
وبحسب، ما نقلته وكالة "شينخوا" الصينية في 24 أبريل 2022، عن عضو مجلس النواب سناء السعيد، فإن سداد فوائد وأقساط هذه الديون استهلك 51.4 بالمئة من الموازنة العامة.
وتواصل الحكومة المصرية سياساتها في الاقتراض الخارجي، ليتعدى حجم الدين 150 مليار دولار، فيما وافق صندوق النقد الدولي في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2022، على تمديد ترتيب لمصر بقيمة 3 مليارات دولار لمدة 46 شهرا.
وبهذا يصل إجمالي ما اقترضته مصر من الصندوق 20 مليار دولار في عدة سنوات، لكنه ووفق توقعات وكالة "رويترز" فإن المؤسسة الدولية ستقوم بتحفيز تمويل إضافي بحوالي 14 مليار دولار من شركاء مصر الدوليين والإقليميين، ما يرفع الدين الخارجي لمعدلات تاريخية.
وفي المقابل تواصل الحكومة الاقتراض الداخلي بشكل دوري من البنوك المحلية لتسيير أمورها اليومية وترقيع ميزانيتها وتمويل العجز المالي لديها ومواصلة الإنفاق العام، عبر طرح أذون خزانة وبيع سندات حكومية كإحدى أدوات الدين الداخلي.
وهو الأمر الذي فاقمه تأخر منح صندوق النقد القرض الأخير لمصر رغم قلته، وتفجر أزمات ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، وفقدان مصر نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة، وحاجتها لتوفير السلع الإستراتيجية، خاصة القمح.
وضع متأزم
ولكن مع تأزم الوضع المالي للبلاد، ومواصلة الحكومة الاقتراض من البنوك فإن المصارف المحلية عجزت أخيرا عن توفير متطلبات الدولة من التمويل المالي ولم تستجب لكامل مطالبها.
وفشلت حكومة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في 18 ديسمبر 2022، في الحصول على تمويل من البنوك المحلية يكفي لتمويل الميزانية الحكومية.
وفي الأسبوع الثاني من ديسمبر، باعت الحكومة المصرية أذون خزانة بالعملة المحلية، بلغت قيمتها 26.5 مليار جنيه، ووصل العائد عليها إلى 18.9 بالمئة، للمرة الأولى منذ سنوات.
الحكومة المصرية، طلبت 53.5 مليار جنيه من البنوك المحلية لكنها حصلت على نصف ذلك المبلغ تقريبا، حيث جمعت نحو 26.8 مليار جنيه فقط.
المثير أن ذلك التمويل تم بأسعار فائدة وصلت إلى 18.9بالمئة، فيما يتجاوز عائد تلك الأذون عائد أعلى شهادة استثمار متاحة لدى البنوك المصرية حاليا 18 بالمئة، ما يفاقم حجم الدين الداخلي.
كما أن 87 بالمئة من ذلك التمويل الذي حصلت عليه الحكومة من البنوك والمقدر بـ23.2 مليار جنيه مستحق السداد بعد 91 يوما، ما يعني اضطرار الحكومة للاقتراض مجددا.
الأمر الذي يفاقم أزمة البلاد وليس حلها وتكرار لسياسات الاقتراض التي أثبتت فشلها، وفق وصف الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار.
وقال نور عبر "فيسبوك"، إن "الحكومة في حاجة إلى طاقم صادق النصيحة ، مخلص للبلد، قوي الإرادة، يعمل للإصلاح ولا يزيف الحقائق"، مؤكدا أن "تكرار الفشل كارثة".
وتوجه الحكومة المصرية نحو الاقتراض من البنوك لم يكن كافيا لحل أزماتها المالية، فكان توجهها الذي وصفه مراقبون بـ"الخطير"، نحو بيع حصصها في شركات رابحة وأصول سيادية لصناديق سيادية إماراتية وسعودية.
ورغم أن حكومة السيسي، جمعت أكثر من 4 مليارات دولار من حصيلة البيع تلك، إلا أنها لم تتمكن من سد عجز متواصل في الحساب الجاري، خاصة مع انهيار قيمة العملة المصرية أمام العملات الأخرى، ورفع معدلات الفائدة عليها، فكان الاقتراض المحلي هو الحل الدائم لترقيع هذا الرتق.
وتراجعت قيمة العملة المحلية بشكل مفرط خلال العام 2022، إذ ارتفع الدولار أمام الجنيه بأكثر من 55 بالمئة منذ مارس/ آذار 2022، ليصل إلى حوالي 24.60 جنيها رسميا، ونحو 35 جنيها بالسوق السوداء.
ولأن وضع الدين الخارجي خطير للغاية فإن وضع الدين الداخلي يبدو أخطر مع غياب الشفافية والأرقام وكذلك قلة الحديث عنه ورصده ومتابعة نتائجه السلبية.
لذا طرحت "الاستقلال"، التساؤل عن خطورة وضع الدين الداخلي لمصر، وتأثيراته على الاقتصاد وشعب يقبع نحو ثلثيه تحت خط الفقر.
خزانة خاوية
الخبير الاقتصادي الدكتور إبراهيم نوار، قال لـ"الاستقلال"، إن "موضوع الدين الداخلي محل تساؤل كبير"، مشيرا إلى أن "طلبات تمويل عجز الميزانية بالاقتراض هي محرك أساسي من محركات التضخم".
وأوضح أنه "عندما تعجز الحكومة عن الحصول على التمويل المطلوب من البنوك فهذا معناه أن خزانتها قد لا يكون فيها ما يكفي لدفع مرتبات العاملين؛ لكن لم يحدث أن توقفت الحكومة عن دفع المرتبات".
"وهو ما يطرح أسئلة كثيرة عن كيفية تمويل العجز إذا كانت مصادر التمويل الخارجي متوقفة تقريبا، وكانت البنوك المحلية متوقفة هي الأخرى بسبب فرق أسعار الفائدة بين ما تطلبه وما تقبل به الحكومة"، بحسب نوار.
وقال إن "خطورة الدين الداخلي هو أن الحكومة قد تلجأ لطبع النقود، ورغم أن طبع النقود له قواعد وأصول، فالحكومة تستطيع أن تصدر نقودا بلا غطاء، أي بلا قيمة".
"هذه النقود عديمة القيمة تزاحم غيرها في السوق، وتخلق قوة شرائية مضاعفة تقود لجموح معدل التضخم".
وقال الخبير المصري: "لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف تمول الحكومة العجز عندما تفشل في الحصول على تمويل كاف من البنوك".
ولفت إلى أن "مخاطر زيادة قيمة الدين الخارجي تتضمن أيضا ارتفاع أسعار الفائدة، لأن الحكومة عندما تطلب سيولة من السوق المحلية فإنها يجب أن تدفع (ثمن السيولة) الذي هو أسعار الفائدة".
وأوضح أنه "حتى تحصل على أموال أكثر من البنوك فإنها تدفع أسعارا أعلى"، مبينا أنه "في هذه الحالة تقوم البنوك بابتكار أدوات ادخار لجمع نقود من عملائها".
وأشار إلى أنه "كلما زاد ثمن السيولة بمقدار نقطة مئوية واحدة ترتفع تكلفة الدين المحلي بحوالي 30 مليار جنيه".
وأكد أنه "في الوقت الحالي يزيد ثمن السيولة أو تكلفة الاقتراض على الأوراق المالية الحكومية بأكثر من 4 نقاط مئوية عن المتوسط المستهدف، ما يعني زيادة عبء الدين بسبب ارتفاع أسعار الفائدة بنحو 120 مليار جنيه على الأقل".
وأضاف: "أيضا، تمويل العجز المالي للحكومة يؤدي عمليا إلى نقص السيولة المتاحة لتمويل القطاع الخاص، وارتفاع تكلفتها، ما يفسر الركود الحالي لكل أنشطة القطاع الخاص غير النفطي، ويقلل الأمل بفرص حدوث استثمار حقيقي".
وعاود الخبير المصري التساؤل: "عندما لا تحصل الحكومة على السيولة المطلوبة أسبوعا وراء أسبوع، سواء بأذون الخزانة أو السندات، كيف تتصرف؟ كيف تمول الإنفاق العام؟"، مؤكدا أنه "موضوع الناس مشغولة عنه بالدين الخارجي ومشاكله".
وختم بالقول إن "من خطورة الدين المحلي أن الرقابة عليه محدودة جدا، ودرجة الشفافية فيه شديدة الضعف، ويمكن أن يتم التلاعب فيه بسهولة، لأن (الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا)"، في إشارة إلى مشهد بفيلم "الزوجة الثانية" يبرر الأعمال غير القانونية.
7 تريليونات
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي، الأكاديمي المصري الدكتور علي عبدالعزيز، إن "الأزمة أصبحت واضحة للجميع حيث ارتفعت فاتورة الدين العام بشكل كبير وقد يكون تجاوز السبعة تريليونات جنيه (2.84 تريليون دولار)".
وقطع عبدالعزيز لـ"الاستقلال"، بحتمية تجاوز الدين الداخلي لمصر هذا الرقم "مع انهيار الجنيه القادم، والذي ستصل قيمته إلى 2 سنت أميركي فقط، انخفاضا من 4 سنت حاليا".
وأشار إلى أن "تمويل عجز الموازنة المصرية يواجه صعوبات تمويلية بسبب انخفاض الفائدة على أدوات الدين الحكومية مقارنة بنسب انخفاض الجنيه ومعدلات التضخم الأساسي التي وصلت 21.5 بالمئة خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2022".
الخبير المصري وصف الأمر بـ"الخطير على من يريد الاستثمار في أدوات الدين الحكومي، وليست البنوك فقط التي تعيش حالة اضطراب بل جميع الأسواق، تحسبا للقرار المركزي المنتظر بتنفيذ سياسة مرنة لسعر الصرف وفقا لشروط صندوق النقد".
ولفت إلى أن "موافقة الصندوق على قرض الثلاثة مليارات دولار وسماحه فورا بشريحة 347 مليون دولار على عكس المعلن من وزير المالية أن الشريحة الأولى 750 مليون دولار يمثل ضغطا على النظام لتنفيذ سياسات مرونة السعر وتغطية احتياجات المستوردين والسماح بدخول البضائع والمواد الخام المحتجزة بالموانئ".
وقال عبدالعزيز، إن "أزمة الدين المحلي العام كبيرة، وتمثل عبئا كبيرا على الموازنة العامة، وعلى القدرة على التنمية الحقيقة بالقطاع الخاص أو بمجالات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية".
ويرى أن "السبب هو إفراط النظام في الاقتراض"، موضحا أنه "وبحسب صندوق النقد فإن نسبة الدين الإجمالي للناتج المحلي ستبلغ هذا العام نحو 89 بالمئة تقريبا، انخفاضا من 94 بالمئة كتقدير سابق".
وأفاد بأنه "معدل يمثل خطورة كبيرة، إذا ترافق معه صعوبات بتوفير العملة الصعبة، إذ سينعكس ذلك مستقبلا على الجنيه المصري بمزيد من الانخفاض وضرورة رفع الفائدة لتكون معبرة عن هذا الانخفاض وعن ارتفاع التضخم".
الرقم الحقيقي
أكاديمي مصري آخر تحدث لـ"الاستقلال"، شريطة عدم ذكر اسمه ومنصبه العلمي، مؤكدا أنه لا يعلم وغيره من الأكاديميين الرقم الحقيقي للدين العام المحلي "نتيجة اختلافه من مصدر لآخر".
وقال إنه "ما تقترضه الجهات العامة بالدولة من الأفراد والبنوك والهيئات المحلية والدولية لتمويل خطتها نظرا لعجز مواردها (الإيرادات أقل من النفقات)".
وأكد أن الدين العام المحلي المصري يتكون من "الدين المحلي المستحق على الحكومة، والمستحق على الهيئات الاقتصادية العامة، المستحق على بنك الاستثمار القومي".
وينصح بـ"عدم اللجوء إلى القروض إلا في حالة الضرورة القصوى، كحالة معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية التي تمر بها الدولة أو بهدف زيادة النشاط الاقتصادي، وذلك لما يسببه من آثار سيئة على الاقتصاد، وأن عبء الدين سيتحمله الجيل القادم".
وأفاد بأن "الدين العام ظاهرة عالمية ولكن وفق ضوابط معينة، وعدم الالتزام بهذه الضوابط يُحدث آثار سيئة ومخاطر على الأفراد والمجتمع والاقتصاد القومي".
وقال إن "الفساد المالي والإداري بالقطاع العام والحكومة والذي تتعدد مظاهره من الرشوة إلى التربح غير المشروع والتهرب الضريبي، يتسبب في فجوة الموارد المحلية وبالتالي اللجوء للدين المحلي وما يترتب عليه من مشاكل".
وأكد أنه "أزمة تؤرق الفرد والمجتمع والدولة، لأنه وراء تأخر وبطء معدلات النمو، ويؤدي لضعف أداء الاقتصاد القومي، بجانب أعبائه التي تمثل أرقاما تجاوزت حجم الديون الأصلية".
وأكد أن "تزايد حجم الدين المحلي أدى لتحويل أموال القطاع الخاص من مشروعات إنتاجية إلى الحكومة، حيث تم تبديدها في نفقات عامة غير منتجة، وترتب على ذلك تدهور الإنتاج القومي".
وحذر من أن عدم توجيه "الدين العام المحلى لمشروعات ذات عائد مجز، يحمًل الدولة بأعباء خدمة الدين، وعلى الأجيال اللاحقة أن تسدد ذلك من مدخراتها، نتيجة أخطاء لا يُحاسب المسؤولون عنها".