عبر يوتيوبرز أجانب.. نظام الأسد يحاول تلميع صورته وإخفاء انهيار سوريا
فتح نظام بشار الأسد بشكل "مقنن" الباب أمام صانعي محتوى (يوتيوبرز) ومشهورين على وسائل التواصل الاجتماعي من جنسيات أجنبية، لزيارة سوريا والترويج للسياحة فيها وتقديم صورة على أنها "بلد آمن".
وبدا جليا أن النظام السوري يدير في الخفاء برنامج رحلة هؤلاء المشاهير في بلدانهم إلى مناطق سيطرته. وحصرت مخابرات الأسد جولات مدوني السفر بمناطق أثرية وحضارية سورية تعود لقرون.
فضلا عن أماكن في العاصمة دمشق مشهورة بجذب السياح، ولا سيما المطاعم القابعة في المناطق القديمة التي تفوح بعبق التاريخ ويسعى النظام لجعلها حاملة اقتصادية جديدة لخزينته الفارغة.
وباتت السياحة في سوريا في الوقت الراهن من أرخص وجهات الدول، نظرا لانهيار الليرة السورية الحاد مقابل الدولار بعد 11 عاما من حرب نظام الأسد على شعبه، إلا أن النظام يضرب عصافير عدة بحجر واحد كما يقول المثل الشعبي.
جذب اليوتيوبرز
فمنذ مطلع عام 2022، ركز النظام السوري ضمن "إستراتيجية تعويم ذاته بذاته" على جذب المواطنين السوريين المقيمين في الخارج للعودة إلى بلدهم تحت عنوان واحد هو السياحة.
وبموازاة ذلك، سهلت مخابرات الأسد بشكل مكثف قدوم صانعي المحتوى الأوربيين وحتى من الولايات المتحدة، إلى مناطقه.
كما سمح لهؤلاء بتوثيق "تجربتهم السياحية" بكاميراتهم وخاصة أن لديهم ملايين المتابعين على حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي يتابعون محتواهم.
لكن مع ذلك، كانت رحلة صناع المحتوى الأجانب مدروسة "بعناية مخابراتية" من لحظة دخولهم الحدود السورية عبر لبنان أو وصولهم لمطار دمشق الدولي.
إذ تبقى زاوية كاميراتهم التوثيقية لرحلتهم محددة ضمن سيناريو مسبق "تدوين متعة السفر" كشرط لحصول "اليوتيوبر" على تأشيرة أمنية لسوريا.
فخلال السنوات الثلاث الماضية زار العشرات من المدونين الأجانب سوريا، وحصل الكثير منهم على ثلاثة أو أربعة ملايين مشاهدة على مقاطع فيديو يعرضون فيه رحلتهم الاستكشافية في البلاد.
غير أنه كما يقول المثل العربي "اتسع الفتق على الراتق"، إذ يوجد 120 ألف معتقل سوري في سجون الأسد، وفق "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" المعارضة.
كما تعاني مناطق النظام من انتشار الفقر والبطالة، وكذلك استقرار راتب الموظف السوري عند 25 دولارا في الشهر، بينما يصل الحد الأدنى لتغطية الاحتياجات الشهرية للأسرة إلى 300 دولار.
لكن مع ذلك، كل ما يهدف له نظام الأسد، هو الترويج أن سوريا بلد آمن وعادت كسابق عهدها كوجهة سياحية مفضلة.
وهذه إستراتيجية تبنتها حكومة الأسد، لتشجيع السياح الأجانب أو المغتربين السوريين، لأن السياحة تمثل شريان حياة تضخ في خزينتها عملة صعبة.
ولا سيما أن جولة أسبوع واحد تكلف السائح 1500 دولار، في وقت تتبع فيه معظم المطاعم والفنادق الشهيرة لأذرع النظام الاقتصادية.
وتلعب وزارة سياحة النظام السوري دورا كبيرا في جذب المدونين الغربيين لزيارة سوريا.
إذ إن مثل هذه التكتيكات الإعلامية من شأنها أن تساهم في تغطية جرائم نظام الأسد، بحق أكثر من نصف مليون قتيل سوري بآلته العسكرية، ونحو 12 مليون مهجر من أصل 24 مليون نسمة.
وتنشر الوزارة بانتظام على صفحتها في فيسبوك معالم قديمة وساحل البحر الأبيض المتوسط مع تسميات توضيحية باللغة الإنجليزية.
سيناريو جاهز
ورغم أن هؤلاء المدونين يصورون مشاهد الدمار الهائل في المناطق التي يمرون بها، فإنهم يتجنبون الحديث عن تلك المباني التي سويت بالأرض جراء قصف قوات نظام الأسد لها، خشية الاعتقال من قبل مخابراته.
وهذا ما اعترف به مدون السفر الإسباني جوان توريس لصحيفة الغارديان في 28 أكتوبر 2022، الذي نفذ رحلات متعددة إلى سوريا منذ عام 2018 بقوله: "لن أقول أي شيء سيئ عن الحكومة، بالطبع، لأنني أخاطر باعتقالي".
وتوريس الذي ينظم رحلات استكشافية إلى سوريا بمبلغ 1600 يورو، أثار غضب السوريين المهجرين في الخارج، وذلك حينما أجرى رحلته الأولى عام 2018.
وقتها وصف مدينة حلب بأنها "تحررت"، في إشارة إلى استعادة قوات الأسد لها من يد المعارضة نهاية 2016، بعد حملة عسكرية شرسة لها بدعم روسي إيراني.
وأسفرت الحملة حينها عن مقتل مئات المدنيين، وتهجير مئات الآلاف من سكان أحياء حلب الشرقية نحو مناطق المعارضة.
ولذلك يدرك نظام الأسد أن السنوات القليلة الماضية شهدت ارتفاعا حادا في "المحتوى السياحي" الذي ترعاه الدولة، وساهم في نشره المؤثرون من صانعي المحتوى وهم غير سياسيين ويعدون محايدين ومستقلين.
وانطلاقا من ذلك، يلعب نظام الأسد على وتر إعادة تصنيف سوريا على أنها آمنة ومنفتحة على الآخر.
في المقابل، يحصل المؤثرون على معاملة كبار الشخصيات من قبل نظام الأسد، وبالنهاية كذلك على "وصول حصري" وبناء علامتهم التجارية الخاصة.
واكتسب صانعو المحتوى على "يوتيوب" مثل درو بينسكي وإيفا زو بيك وتوماس براغ ملايين المشاهدات لتوثيق زياراتهم إلى سوريا.
ودرو بينسكي وهو مدون ومصور رحلات أميركي من مواليد 1991، يؤكد في بطاقته التعريفية على "يوتيوب" أنه زار 197 دولة.
وهو يقوم بعمل مقاطع فيديو للسفر يوميا حول الأشخاص والثقافة ويقول: "هدفي النهائي هو إلهامك للسفر بعيدا".
وإيفا زو بيك مدونة بولندية من مواليد عام 1991، سافرت إلى 60 دولة بما في ذلك باكستان، وعاشت فيها لأكثر من عام وأفغانستان واليمن والعراق.
أما توماس براغ فهو فرنسي ولد عام 1993، أسس قناة على يوتيوب عام 2015 مع مجموعة من أصدقائه، كونه كان ينشئ قصصا فكاهية مع أحد أقربائه.
ترويج ناعم
يركز صناع المحتوى الأجانب على التقاط أكثر المشاهد جمالا في الأماكن الشعبية وذات الأبعاد التاريخية، فضلا عن المطاعم وبعض المواقع التي تضج بالحيوية والأكلات الشعبية.
ويعمد هؤلاء إلى إغراق متابعيهم بتفاصيل الرحلة إلى مناطق داخل سوريا جميعها تخضع لسيطرة قوات الأسد، دون الاقتراب من مناطق المعارضة.
إذ يصف جوان توريس، على حسابه في إنستغرام خلال زيارته لسوريا يونيو/حزيران 2022 بأنه "مسافر خام، ويبتعد حقا عن المسار المطروق".
وروج توريس لخمسة أيام من الجولات الجماعية الصغيرة إلى سوريا، وزيارة مناطق مثل دمشق، وحلب حيث قلعتها التي ترجع إلى العصور الوسطى، وكذلك زيارة بصرى الشام بريف درعا التي يوجد فيها مدرج بصرى العائد إلى الإمبراطورية الرومانية.
في أغسطس/آب 2022، تعرض مدونا الفيديو البريطانيان بنجامين ريتش (المعروف باسم قناته Bald and Bankrupt) وسيمون ويلسون لانتقادات من قبل السكان المحليين لتقديمهم "تغطية إيجابية" للرحلات السورية.
في مقطع فيديو على موقع يوتيوب، أخبر ريتش مشاهدي قناته، أن "سوريا ليس كما تتوقعون تماما"، وراح يقول: "يدعوك الرجال إلى الحانات لشرب الكحول ويطلبون منك باستمرار الذهاب إلى حمص لمعرفة مدى جاذبية النساء هناك".
ومضى يقول: "إنه كان يتوقع أن تكون الرحلة أسبوعا خاليا من الكحول" إذ "يجب ألا ينظر إلى الفتيات".
كما قال ريتش في فيديو آخر التقطه في مدينة حلب: "لم أشعر هنا بأي خطر"، دون أن يذكر أن المدينة تخضع غالبية أحيائها لسيطرة مليشيات إيرانية ومحلية تتبع لطهران.
وأمام تلك المعطيات، فإن نظام الأسد ماض بجهود جر الجميع للتطبيع معه أسوة بدول عربية مثل الإمارات والأردن والبحرين.
ويسير النظام في ملف التطبيع مظهرا للعالم وجود استقرار في البلاد على الرغم من نزوح 4 ملايين مواطن كثير منهم على الحدود التركية، ويعيشون في خيام مهترئة لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء ويعانون من نقص كبير في الاحتياجات الإنسانية.
لكن من الواضح أن نظام الأسد يزج بصانعي المحتوى الغربيين في هذه المعركة ومساعدته في تحقيق أهدافه بإعادة تطبيع الدول معه.
وضمن هذا السياق، تشير صوفي فوليرتون، وهي باحثة في المعلومات المضللة، إلى أن "مدوني الفيديو يذهبون إلى سوريا لأن صناع المحتوى يحتاجون إلى فعل شيء مختلف لإبراز أنفسهم"، وفق صحيفة "الغارديان.
وأضافت فوليرتون قائلة: "هناك نمط من المؤثرين في السفر سيحظون بمزيد من الاهتمام، كان هناك شخص انتقل من حوالي 700 متابع إلى 50000 بعد أن ذهب إلى سوريا".
في الوقت الحالي، يأتي معظم السياح الأجانب إلى سوريا من دول لها علاقات جيدة مع نظام بشار الأسد، وغالبيتهم من إيران حليفة الأسد، بقصد زيارة المواقع الدينية المهمة للشيعة.
أجندة سياسية
وفي هذا السياق، أكد الباحث الاجتماعي السوري حسام عبدالغني لـ "الاستقلال": "لا شك أن الحياة الطبيعية التي يصورها هؤلاء المدونون هي جحيم للمدنيين السوريين الذي فروا بجلدهم من بطش أجهزة نظام الأسد، خاصة أنه بين الفينة والأخرى يجري توثيق مقتل أو اعتقال سوريين عادوا إلى بلدهم عبر المعابر البرية".
وأضاف عبد الغني، أنه "مع فشل كل محاولات النظام السوري ومن ورائه روسيا للترويج لعودة المهجرين إلى حضن الوطن، يجد النظام نفسه مضطرا لتقديم صورة مخادعة للرأي العام الغربي، وأسهل باب يمكن أن يسلكه لتصل رسالته هم صانعو المحتوى".
وبين الباحث، أن "زيارة هؤلاء المؤثرين في مجتمعاتهم الأصلية، إلى سوريا تعد خدمة للأجندة السياسية للنظام السوري بطريقة أو بأخرى، لأنهم ينقلون فقط ما يريد الأسد أن يصدره للغرب الذي يرفض إعادة مياه العلاقات الدبلوماسية إلى مجاريها معه قبل عام 2011".
واستدرك قائلا: "هؤلاء لا يخرقون فقط أخلاقيات صناعة محتوى السفر، بل ينشرون المعلومات المضللة والمغلوطة عن واقع بلد تتحكم به أجهزة المخابرات ولا يستطيع أي سوري اليوم رفع هاتفه الجوال أو كاميراته وتصوير معالم بلده دون موافقة أمنية، هذا عدا عن دخول هؤلاء المشروط حتما لسوريا".
ورأى عبد الغني، أن "نظام الأسد استغل مصالح هؤلاء في الكسب السريع للمتابعين وتحقيق الأرباح، في الترويج على أن سوريا بلد آمن".
وألمح إلى أنه "بالتوازي مع ذلك يعمل إعلام النظام على مواكبة (اليوتيوبرز) ونقل زياراتهم للأماكن السياحية للإيهام محليا أن سوريا عادت كوجهة سياحية".
وأردف قائلا: "كما أن وزارة سياحة الأسد توفر لصانعي المحتوى مرشدين سياحيين محليين جرى تدريبهم لهذا الغرض وهم في الغالب من يوجه (اليوتيوبر) للأماكن التي يريد النظام أن تصل للخارج بكاميراتهم".
وختم عبد الغني بالقول: "هؤلاء المؤثرون ليسوا جميعا على قدر من الوعي والمسؤولية لحجم الضرر على السوريين عبر محاولة غسل صورة النظام وتصويره على أنه قضى على الإرهاب المزعوم".