السوداني يفتح ملف التعذيب بسجون العراق.. انتصار للضحية أم الجاني؟
في سابقة منذ عام 2003، فتح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ملف التعذيب بالسجون وانتزاع الاعترافات قسرا خلال التحقيقات القضائية، والتي زج بسببها آلاف العراقيين داخل المعتقلات خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي.
وأهاب مكتب السوداني في بيان بتاريخ 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، "بمن تعرض لأي صورة من صور التعذيب، أو الانتزاع القسري للاعترافات، بتقديم شكواه إلى مستشار رئيس مجلس الوزراء لحقوق الإنسان، معززة بالأدلة الثبوتية".
وخصص السوداني، الذي تولى رئاسة الحكومة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، بريدا إلكترونيا لمستشار حقوق الإنسان، وبريدا آخر للسكرتير الشخصي للقائد العام للقوات المسلحة لاستقبال الشكاوى، مؤكدا أن "ذلك يأتي من أجل تعزيز وحماية حقوق الإنسان في العراق".
غياب الضمانات
وبخصوص مدى جدية حكومة السوداني في إنهاء التعذيب بالعراق، أكد الباحث في الشأن السياسي العراقي علي المساري إن "اتخاذ خطوة مثل هذه من رئيس وزراء تعد سابقة لم تحصل من قبل".
واستدرك المساري، خلال حديثه لـ"الاستقلال": "لكن ما يعنينا هو التطبيق الحقيقي عبر إجراءات حقيقية تنهي التعذيب في مراكز التوقيف والسجون، والتي لن ينجو منها أحد إذا دخلها لأي قضية".
وأضاف أن "العراقيين لا يثقون بإرسال شكوى عبر بريد إلكتروني مدعمة بوثائق تثبت تعرضهم للتعذيب، لأن المنظومة التي تحيط بالسوداني تنتمي لذات الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ عام 2003، ومتهمة بتثبيت أساليب التعذيب في العراق".
وتساءل: "من يضمن للشخص الذي خضع للتعذيب أن حياته ستكون في مأمن من إعادة اعتقاله من الضباط الذين يشتكي عليهم، لأننا لم نشهد محاكمة أي ضابط سابقا اتهم بالعذيب، وهناك كثيرون ممن شخصتهم بالاسم مؤسسات حقوقية محلية ودولية، لكن لم تتخذ بحقهم أي محاسبة، بل ازدادوا بطشا".
ولفت إلى أن "خطوة السوداني مجرد تخدير لمطالب إصدار عفو عن المعتقلين الأبرياء الذين صدرت بحقهم أحكام قاسية جراء اعترافات انتزعت منهم تحت وطأة التعذيب، وهذا جرى تضمينه في برنامج الحكومة بضغط من القوى السنية، على اعتبار أن 98 بالمئة من السجناء من المكون السني".
وفي 27 أكتوبر 2022، تعهد السوداني أمام البرلمان خلال عرض برنامجه الحكومي بـ"المتابعة المستمرة للمؤسسات الأمنية لمدى التزامها بمبادئ حقوق الإنسان وحماية المواطنين من أي انتهاكات أو تجاوزات ومحاسبة المقصرين".
وتبنت القوى السنية في حملاتها الانتخابية الأخيرة مراجعة ملفات عشرات آلاف المعتقلين، خصوصا ممن أدينوا وفقا لوشايات المخبر السري، أو بانتزاع الاعترافات منهم بالقوة، وهي الفترة المحصورة بين عامي 2006 و2014، خلال تولي نوري المالكي رئاسة الحكومة.
ولم ينته ملف السجناء في حكومة حيدر العبادي (2014 – 2018) رغم محاولة حسمه، من خلال تسريع عرضهم على المحاكم والإفراج عن كل من لم تثبت التهم الموجهة إليه، وتم بالفعل الإفراج عن آلاف السجناء الذين زجوا في السجون إبان ولايتي المالكي، وفق قانون 4 إرهاب وغيرها من التهم.
وتضاعف عدد السجون في العراق بعد عام 2003، إذ أنشأت سلطة الاحتلال الأميركي المؤقتة ثلاثة سجون في السليمانية والبصرة وبغداد.
قبل أن توسع الحكومات المتعاقبة خطة السجون ليرتفع العدد إلى 13 سجنا رئيسا تنتشر في مدن وسط وجنوبي البلاد، وإقليم كردستان، عدا عما يعرف بسجون مؤقتة تتبع وزارتي الداخلية والدفاع.
"خطوة استباقية"
من جهته، رأى العضو السابق في مفوضية حقوق الإنسان، علي البياتي، أن "خطوة السوداني جيدة، كونه اعترف بوجود التعذيب داخل سجون مؤسسات الدولة"، مؤكدا أن "قضية التعذيب تتعلق بثقافة وسلوك الأجهزة الأمنية الموجودة من قبل عام 2003".
وأوضح البياتي خلال حديث لصحيفة "المدى" في 12 نوفمبر 2022، أن "الخلل يكمن بالتشريع وغياب القوانين التي بإمكانها معالجة تلك القضايا، سواء على مستوى المحاسبة أو جبر الضرر أو منع حصوله إضافة إلى عدم وجود رقابة حقيقية لتلك الأجهزة".
ولفت إلى أن "أغلب قضايا التعذيب في السجون مخالفة للقوانين، وأن معالجة تلك القضايا لا يمكن حلها من خلال مكتب رئيس وزراء وبريد إلكتروني أو مستشار حقوقي، إذ إن القضية أكبر بكثير من ذلك".
وشدد البياتي على ضرورة "وجود معالجات حقيقية، وأن يعمل السوداني جاهدا لتفعيل المؤسسات الرقابية المتمثلة بمفوضية حقوق الإنسان وجهاز الادعاء العام بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية".
وتابع: "على رئيس الوزراء تسهيل عمل اللجان الدولية المعنية بمراقبة التزامات العراق وتنفيذ القوانين، لا سيما ما يتعلق بوضع حد للتداخل في عمل تلك المؤسسات"، مشيرا إلى "إصدار مذكرات إلقاء القبض حصرا من المحاكم لا من داخل المؤسسات الأمنية".
ودعا البياتي، رئيس الوزراء إلى "إيقاف العمل بفقرة الاعتراف سيد الأدلة، والاعتماد على أدلة ثبوتية ملموسة"، لافتا إلى "ضرورة إعداد مسودات قوانين تخص مناهضة التعذيب وإرسالها إلى البرلمان بالسرعة الممكنة".
وأردف: إضافة إلى تفعيل التحقيق بقضايا التعذيب والتغييب. والإسراع في تشكيل مجلس المفوضين لحقوق الإنسان وإنهاء فترة جمود وشل هذه المؤسسة المهمة المهنية بمراقبة جميع الانتهاكات".
وكان قد كشف البياتي لشبكة رووداو الإعلامية العراقية، في 16 يوليو/ تموز 2021، أن "عدد الموقوفين والمحكومين في مواقف الاحتجاز وسجون دائرة الإصلاح بالعراق يبلغ نحو 76 ألف شخص، منهم 49 ألف محكوم، و3 آلاف امرأة، فضلا عن 2000 حدث".
وأوضح أن في العراق "نحو 15 قسم إصلاح، تابع لوزارة العدل في بغداد وباقي المحافظات، إضافة إلى 13 موقفا تابعا لوزارة الدفاع و14 موقفا في بغداد كمراكز احتجاز".
في المقابل، أكد رئيس مركز "جرائم الحرب" العراقي عمر الفرحان خلال حديث لصحيفة "العربي الجديد" في 12 نوفمبر، إن "عمليات إثبات التعذيب ليست بالمستحيلة، ولا سيما التعذيب النفسي وأثره على سلوك المعتقلين.
وقال الفرحان: "هناك العديد من الإجراءات التي تثبت وجود تعذيب بحق المعتقلين، فضلا عن عملية مراجعة الشكوى وطرق التحقيق التي مر بها المعتقل، وهذا سيثبت بالحد الأدنى طرق التعذيب التي مر بها المعتقل".
وأضاف أن "مصادر حقوقية سابقة أشارت إلى أن 90 بالمئة من المعتقلين في العراق خضعوا للتعذيب الممنهج وقضوا في السجون بسبب وشاية المخبر السري الكاذبة. وهذا ما يستدعي أن تكون هناك عمليات تحقيق عالية المستوى بشأن هذه الاعتقالات وحالات التعذيب".
وعد أن "خطوة السوداني بشأن ملف التعذيب في العراق خطوة مهمة، لكنها متأخرة جدا، وقد تكون خطوة استباقية لزيارة الأمم المتحدة المرتقبة للسجون العراقية لمعرفة أسباب التعذيب".
وأيضا هناك زيارة أخرى للجنة الإخفاء القسري، وقد يستعمل السوداني هذه الخطوة لإضفاء نوع من الشفافية لحكومته أمام الأمم المتحدة، وقد طالبنا في أوقات سابقة عندما كان هو وزيرا للعدل بإعادة ملف المعتقلين والتعذيب، يضيف الفرحان.
وأشار إلى أن "أمام السوداني وحكومته حلين لا ثالث لهما، الأول وهو الذي ندعمه بشدة هو العفو العام لكل معتقل أكره على الاعتراف تحت التعذيب وبوشاية المخبر السري".
أما الحل الثاني فهو أن "يقوم بتشكيل لجان محلية وبإشراف أممي للنظر في هذه الملفات وتعويض كل من ثبت بحقه التعذيب بالرعاية الصحية الكاملة وتعويضه عن السنين التي خلت في السجون"، يوضح الحقوقي العراقي.
مطالبات حقوقية
وعلى صعيد المنظمات الحقوقية، أكد المرصد العراقي لحقوق الإنسان، خلال بيان في 13 نوفمبر، أن قرار السوداني يعزز حماية حقوق الإنسان، داعيا إياه إلى إشراك المجتمع المدني في اللجنة الخاصة التي أعلن عنها لاستقبال شكاوى الأشخاص الذين تعرضوا للتعذيب.
وأشار إلى أن "عمليات التعذيب لا تقتصر على مراحل التحقيق فحسب، بل في مراحل الحبس والسجن أيضا، إذ إن اعترافات سجناء أفرج عنهم أو ذوي بعضهم الذين ما زالوا في السجون تؤكد أن التعذيب ما زال مستمرا".
وبين المرصد العراقي أن "الدعوة إلى التحقيق في عمليات التعذيب، هي الأولى التي تطلقها حكومة عراقية، وعلى هذا الأساس يجب أن تتوسع وتشمل كل انتهاكات حقوق الإنسان، وألا يقتصر ذلك على التعذيب خلال مراحل التحقيق أو السجن فحسب".
ودعا السوداني إلى "عدم استخدام هذه اللجنة لأغراض سياسية وأن تنظر إلى الملفات على أنها حقوقية وتشمل جميع الذين انتهكت حقوقهم على مدى العقدين الماضيين، رغم صعوبة التحقيق في جميع الملفات والخروج بنتائج واضحة نظرا للظروف المعقدة في البلاد".
وفي السياق، دعا مرصد "أفاد" المعني بمتابعة قضايا حقوق الإنسان في العراق إلى إعادة التحقيقات مع المعتقلين، لا سيما الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية تحت التعذيب أو الذين اعتقلوا بناء على وشاية المخبر السري، حسب بيان صدر عنه في 13 نوفمبر.
ورهن المرصد استقبال الحكومة الحالية شكاوى الذين انتزعت الاعترافات منهم بالقوة في السجون وخلال التحقيقات بالنتائج الأخيرة لتلك الخطوة، وحذر من استغلال هذا الأمر ليكون مخرجا لشخصيات أدينت في زمن حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، أو المتهمين باغتيال الناشطين والمتظاهرين.
ودعا المرصد الحقوقي المنظمات الحقوقية والإنسانية ونواب البرلمان في المدن الشمالية والغربية إلى فتح مكاتبهم واستقبال ذوي الضحايا وتمكينهم من تقديم شكاوى عبر المحامين أو المتمكنين في صياغة تفاصيل الشكوى.
وطوال عام 2021، أعلن الكاظمي في أكثر من مناسبة، اعتقال أفراد بما أسماها "عصابات الموت" المسؤولة عن قتل ناشطين وصحفيين بمحافظات البلاد.
وطالب "أفاد" الحكومة العراقية بإيضاحات حول كيفية تقديم ذوي الضحايا أدلتهم، أو السجناء الذين حكم عليهم زورا بسبب الاعترافات المنتزعة بالتعذيب، كما دعا لتولي لجنة مستقلة ملف تلقي الشكاوى.
كما طالب بأن تشارك بعثة الأمم المتحدة على وجه التحديد في الإشراف على اللجنة التي ستتولى النظر بالشكاوى، وكذلك توضيح مصير ضحايا التعذيب بالصعق الكهربائي والخنق والابتزاز بالعرض والأهل، ومصير من لا يملكون أدلة مادية مثل ندوب أو جروح جراء التعذيب.
وأضاف: أن "القول إن 90 بالمئة نسبة الذين تم انتزاع اعترافات منهم تحت تعذيب شديد قد تكون أقل بالواقع في كثير، إذ بات التعذيب أسلوب ونهج مراكز الشرطة ومقرات الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية".
ومضى يقول: لذا فإن العدل يقتضي تبني الحكومة مشروعا بإعادة محاكمة السجناء في ظروف عادلة وإنسانية وقانونية، وهو ما يوجب أن يتولى البرلمان حراكا حقيقيا منذ الآن لإنقاذ حياة عشرات آلاف المعتقلين الذين يقضون أحكاما غير عادلة بسبب التعذيب أو ما يعرف بـ"المخبر السري".
وفي أغسطس/ آب 2018، أكدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الدولية في تقرير لها إنها وثقت "شهادات مرعبة" بشأن تعذيب معتقلين عراقيين وموتهم تحت التعذيب أو من جرائه في السجون الحكومية المعلنة.
وأشارت إلى أن هذه الشهادات لا تعكس المعاملة الوحشية لمحتجزي وزارة الداخلية في العراق فحسب، بل أيضا عدم إحقاق العدالة من السلطات الأمنية والقضائية عند وجود دليل على التعذيب.
وأكدت أن تقاعس الحكومة عن التحقيق في التعذيب والوفيات في الاحتجاز هو ضوء أخضر لقوات الأمن لممارسة التعذيب دون أي عواقب.
ولفتت المنظمة إلى أنها في كل مرة وفرت معلومات كافية للتحقيق في ادعاءات التعذيب والموت أثناء الاعتقال، بما فيها مدد الاحتجاز وأماكنه والمتورطين فيه، وقدمتها إلى مكتب رئيس الوزراء والمفتش العام بوزارة الداخلية، لكن لم يجر تحقيق شفاف في ممارسات التعذيب والوفيات بالسجون.
المصادر
- مرصد حقوقي يوجه دعوة للسوداني بشأن تقارير "التعذيب" المتعلّقة بلجنة أبو رغيف
- التعذيب خلال التحقيقات.. "أفاد" يحذر من استغلال قرار السوداني بتبرئة قتلة المتظاهرين
- رئيس الوزراء العراقي يفتح ملف التعذيب داخل السجون: تحرك جاد أم إجراء شكلي؟
- السوداني يفتح ملفاً خطيراً ويتوعد المتورطين بتعذيب السجناء
- العراق: شهادات مرعبة حول تعذيب معتقلين وموتهم
- أبرزُها "إنهاء السلاح المتفلّت"... وعود حكومة السوداني تحت الاختبار بعد نيلها ثقة البرلمان العراقي