بعد "رفات المجرمين".. هل تنهي فرنسا أزمة جماجم المجاهدين الجزائريين؟
لغط ملف جماجم المقاومين الجزائريين بالمتاحف الفرنسية لا يخفت إعلاميا إلا ليطفو من جديد في ساحة الجدال والصراع بين البلدين.
هذه المرة تحرك البرلمان الفرنسي في محاولة لإنهاء هذه الأزمة طويلة الأمد التي تعكر باستمرار صفو العلاقات الثنائية التي تحسنت أخيرا، في وقت لا تسعى فيه الجزائر للتصعيد من جديد.
ومنذ سنوات يتفاوض البلدان بشأن استرجاع جماجم وبقايا رفات قادة المقاومة الشعبية (موجودة بمتحف الإنسان بالعاصمة باريس)، وهي شواهد على وحشية الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962).
وهناك 45 جمجمة لمقاومين جزائريين إبان القرن التاسع عشر في متحف الإنسان الفرنسي، كانت معنية بالبحث والمعاينة من قبل لجنة من البلدين، لكن انخفض عددها إلى 37 بعدما تبين أن 3 منها مفقودة و5 خالية من أي معلومات.
وأعادت فرنسا في منتصف 2020، 24 جمجمة إلى الجزائر، في خطوة أحدثت جدلا كبيرا بالبلدين، فيما تبقى 13 جمجمة كانت تتواصل بشأنها المباحثات.
وأعلن الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون فتح صفحة جديدة للعلاقات الثنائية، خلال زيارة الأخير إلى الجزائر نهاية أغسطس/ آب 2022، كما اتفقا على إنشاء "لجنة مؤرخين مشتركة للنظر في حقبة الاستعمار دون محظورات".
تفاصيل المقترح
وفي 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، اقترح نواب فرنسيون بالجمعية الوطنية (البرلمان)، سن قانون جديد يتيح تسليم جميع جماجم المقاومين الجزائريين بالمتاحف الفرنسية للسلطات الجزائرية، في ظرف أقصاه شهر واحد على الأكثر.
المقترح البرلماني الفرنسي، وفق وسائل إعلام فرنسية وجزائرية، بادر به 83 نائبا من تشكيلات سياسية مختلفة.
وجاء في إطار وثيقة مشروع قانون بالجمعية الوطنية الفرنسية، تحت عنوان "مقترح قانون يهدف للترخيص بتسليم جماجم جزائرية من طرف فرنسا".، عبر ثلاث مواد.
نصت المادة الأولى على أنه "عن طريق عدم التقيد بمبدأ عدم التنازل عن المحفوظات العمومية الفرنسية المنصوص عليها في قانون التراث، فإن الجماجم الجزائرية الـ13 المحفوظة في المجموعات الوطنية تحت رعاية المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي )متحف الإنسان( لا تبقى جزءا من هذه المحفوظات."
ونصت الثانية على أن "يكون أمام السلطات الإدارية الفرنسية، بدءا من تاريخ دخول القانون حيز التطبيق، مهلة تقدر بشهر واحد على الأكثر، لتسليم هذه المحفوظات )الجماجم( للسلطات الجزائرية".
أما المادة الأخيرة، فذكرت أن "الجماجم الـ24 التي تمت إعادتها إلى الجزائر في يوليو/تموز 2020، تعد أنها عادت بشكل نهائي إلى هذا البلد".
من جانبه، أكد النائب في البرلمان الفرنسي، كارلوس مارتينز بيلونغو، وهو صاحب المقترح التشريعي، أنه سيواصل الدفاع عن مبادرته "من أجل العدالة ومكافحة العنصرية".
وقال بيلونغو لموقع "العربي الجديد" في 7 نوفمبر 2022 إنه "كان من المهم وجودي في الجزائر (وصل في 6 نوفمبر بعد أيام من تقديم المقترح)، تبعا لمهمتي المتعلقة بإيداع مشروع قانون لإعادة الجماجم الجزائرية المحفوظة في متحف في باريس".
ويهدف مشروع القانون، وفق بيلونغو، إلى السماح بالرد الفوري للجماجم المحفوظة حاليا في "متحف الإنسان" بباريس، ويحث على تجاوز العراقيل القانونية الحالية التي تعيق تسليم باقي الجماجم.
وتنص المبادرة التشريعية على أن "العودة النهائية لهذه الجماجم إلى أرضها الأصلية ستتيح تمكينها من دفن لائق".
كما أن إعادتها لها ما يبررها فيما يتعلق بـ"مبدأ الكرامة الإنسانية والأخلاق، وستكون جزءا من عملية اعتراف فرنسا بالممارسات المؤسفة تجاه مستعمراتها السابقة"، وفق المبادرة.
وتعرقل السلطات الفرنسية تسليم هذه الجماجم، بحجة أنها "ملك وتراث للأمة الفرنسية، ولا يملك أي طرف حق التصرف فيها".
وعن دلالات المقترح البرلماني الفرنسي حول إعادة نهائية لكل الجماجم، قال أستاذ التاريخ في جامعة سطيف، العكروت خميلي، إن "الجانب الفرنسي يريد أن ينهي موضوعا لم تعد له أية أهمية الآن، ويريد تحسين العلاقات بين البلدين وطي الملف نهائيا".
وأكد خميلي لموقع "أصوات مغاربية" (مقره واشنطن) أن "كل ما هو موجود لدى فرنسا من تراث مادي جزائري منقول، هو حق جزائري خالص، وكل القوانين الدولية تقف مع الجزائر في هذا، وعليه يجب تسليم كل شيء لأصحاب الحق".
واستدرك: "لكن الأهم الآن هو الأرشيف والتعويضات النووية، هذه هي الملفات الحقيقية التي يجب فتحها، وهو ما يبدو أن الفرنسيين غير متحمسين لمناقشته".
فيما لم يحدد على الفور موعد للبت في مشروع القانون أو اتخاذ أي إجراء بحقه.
قصص مرعبة
وكشفت وسائل إعلام فرنسية عام 2016 وجود 18 ألف جمجمة في هذا المتحف، تم التعرف مبدئيا على أكثر من 500 منها تعود لجزائريين.
وتخفي الجماجم المحتجزة بالعاصمة الفرنسية "قصصا مرعبة عن وحشية الاستعمار الذي أعدم مقاومين، بينما كان بإمكانه معاملتهم كأسرى حرب، وعلق رؤوسهم بعد قطعهم في مداخل القرى لترهيب باقي السكان حتى لا يأخذوا طريق المقاومة".
وقال المستشار لدى رئاسة الجمهورية المكلف بالأرشيف الوطني والذاكرة الوطنية، عبد المجيد شيخي، إن "فرنسا الاستعمارية كان هدفها من وراء نقل جماجم الجزائريين إثبات تفوق الجنس الأبيض".
وأوضح في تصريحات صحفية قبل سنتين، أن "تلك الجماجم كانت تخضع لدراسات بغرض إبراز خصائص الجنس الأبيض وتفوقه في ذلك الوقت الذي ظهرت فيه النظريات العرقية التي تتحدث عن سمو بعض الأجناس على أجناس أخرى".
وفي 3 يوليو/ تموز 2020، استعادت الجزائر رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي، بعد 170 عاما على احتجازها بـ"متحف الإنسان".
وتقول السلطات الجزائرية بشكل دوري إن المفاوضات متواصلة لاسترجاع جماجم أخرى (لم يحدد عددها)، فيما تؤكد أن باريس وضعت قانونا "يجعل هذا الرفات محميا ضمن التراث الفرنسي".
لكن قضية الجماجم أثارت لغطا كبيرا، بعد التقارير التي أوردتها وسائل إعلام أميركية وفرنسية خلال الأسابيع الأخيرة، حول هوية الجماجم التي استلمتها الجزائر في 3 يوليو، ونظمت لها مراسم رسمية من طرف رئاسة الجزائر والقيادة العسكرية.
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 أن "الجماجم والرفات التي استلمتها الجزائر بمناسبة الذكرى الـ58 لعيد الاستقلال الوطني في يوليو 2020، لا تتضمن إلا ستا فقط لقادة المقاومة، أما البقية فهي لأفراد محكوم عليهم في إطار القانون العام، وهم من فئة اللصوص وقطاع الطرق وجنود متعاونين مع جيش فرنسا".
كما أكدت صحيفة “ليبراسيون” في 18 أكتوبر أن السلطات الجزائرية والفرنسية اتفقتا على أن تكون عملية تسليم الجماجم عبارة عن “إعارة لمدة خمسة أعوام”.
وأرجعت ذلك إلى أنه "ليس هناك إطار قانوني لعملية التسليم. وبالتالي، ظلت هذه البقايا الجنائزية ملكا لفرنسا بعد تسليمها، استنادا إلى وثائق تم الحصول عليها من متحف التاريخ الطبيعي والحكومة الفرنسية".
وبعد صمت رسمي، رد المؤرخ الجزائري علي فريد بلقاضي، إن "كلمات (لصوص) و(سجناء الحق العام) كانت تستخدم لوصف هؤلاء المحاربين من أجل الحرية بطرق غير مألوفة".
Ce que raconte le NYTimes c'est un roman à l'américaine. Un de leurs cadeaux pour notre premier novembre et plus particulièrement le déni de nos insurrections et de notre surhumaine résistance. La réalité c'est 3 supplétifs à El-Alia et l'information verrouillée.
— ALI FARID BELKADI_ (@alifbelkadi) October 20, 2022
وأوضح عبر تغريدة في نهاية 20 أكتوبر 2022، أن "كلمة (لص) هنا مرادفة لذلك المتوحش الذي يعيش على السلب والنهب، وهي نظرة تقزيمية لمن قاوم طيلة 132 سنة".
ذاكرة مؤلمة
وبعد هذه الضجة، زادت وزيرة الثقافة الفرنسية، ريما عبد المالك، الأزمة بمعلومة صادمة، مفادها أن الجماجم المسلمة للجزائر "إعارة وستعود لباريس بعد 5 سنوات".
وقالت عبد المالك في جلسة برلمانية في 5 نوفمبر 2022، إن "لجنة مختصة مشتركة بين البلدين بدأت بالاشتغال على الملف منذ عام 2017".
وأضافت: تم الاتفاق في آخر المطاف، على أن 24 جمجمة من ضمن الـ45 جمجمة ورفات كانت معنية بالبحث والمعاينة، قد تم الاتفاق على أنه يرجح أن تكون لأصول جزائرية، وقد تم ترحيلها إلى الجزائر للبقاء هناك مدة خمس سنوات، لأنها تعد ملكا فرنسيا".
وأوحى جواب الوزيرة الفرنسية ذات الأصول اللبنانية بوجود لبس في تحديد هوية الجماجم المستلمة من طرف الجزائر عام 2020، ما يستوجب تسليط المزيد من الأضواء عليها، خاصة وأن التفاصيل الأخيرة خلفت حالة من الاستياء لدى الجزائريين.
وكان قد أكد "متحف الإنسان" لصحيفة لاكروا الفرنسية، في أكتوبر 2022، أنه تمت دراسة 37 فقط من 45 بقايا جثث بشرية جزائرية تعود إلى القرن التاسع عشر، لأنه تبين أن 3 مفقودة و5 خالية من أي معلومات.
يشار أن المقترح البرلماني الفرنسي في 2 نوفمبر 2022 لم يكن الأول، بل طالبت الجمعية الوطنية الفرنسية في 28 نوفمبر 2017 سلطات باريس باتخاذ "خطوة جريئة" وإعادة جماجم "المقاومين" إلى الجزائر، والتي لا تزال معروضة بمتحف الإنسان بباريس.
وجاءت هذه المطالب عبر مساءلة كتابية للنائب للنائب مجيد الغراب، وجهها لوزير الدولة الفرنسي، وزير الانتقال البيئي نيكولا هولو.
وأشار البرلماني الفرنسي إلى أنه "من أجل المساهمة في تهدئة فيما يخص ملفات الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، وإطلاق تفكير جديد ومبتكر بخصوص التاريخ، يستحسن الشروع في عملية رفع الحفظ عن هذه البقايا وجماجم المقاومين الجزائريين، عبر قانون خاص بهذه العملية".
وقال المحلل السياسي الجزائري، محمد أوكاد، أن "ملف جماجم المجاهدين يجب أن تستجيب فرنسا لمطالب إعادتها وتطوي الجدال بخصوصه، حتى يتم تكريم مجاهدينا ودفنهم بمراسم تليق بهم".
وأوضح أوكاد لـ"الاستقلال" أن "المبادرة الأخيرة سبقتها مبادرات أخرى، لكن دون تفعيل ومصادقة نهائية، حيث يلجأ النظام الفرنسي إلى لف ودوران بإطلاق مبادرات أخرى دون نتيجة".
وعن أسباب الصمت الجزائري الرسمي عن التطورات الأخيرة، قال أوكاد: "السكوت في بعض الأحيان يكون أفضل لحل الملف دبلوماسيا وبشكل هادئ وعقلاني".
وأضاف: ومن حق وسائل الإعلام أن تدخل في تحليل هذه القضية بسرد التاريخ والرد والتعقيب، بيد أن القادة ومن لهم القرار في المفاوضات يملكون سلطة عدم الرد والتفاعل لإيجاد حل لأي أزمة".
وشدد أوكاد على أن "جماجم ورفات مجاهدينا ستعود للبلاد في المستقبل القريب، وهناك إشارات تظهر إيجابية لحل الملف التاريخي الذي يؤرق الشعب الجزائري".