شعب نظارات البجا في السودان.. ماذا يعني إعلانه "حق تقرير المصير"؟

12

طباعة

مشاركة

لا تهدأ الاضطرابات والنزاعات في السودان إلا اشتعلت مجددا، كلما خبت منطقة ازدادت أخرى سعيرا، من الشرق الساعي للانفصال، إلى دارفور وأزماتها المعقدة. 

وضمن احتجاجات متواصلة، أغلق أنصار مجلس نظارات البجا بشرق السودان موانئ حيوية، وطرقا على ساحل البحر الأحمر تربط الولاية بباقي أجزاء البلاد.

لكنهم لم يكتفوا بذلك، واتخذوا خطوات تصعيدية صادمة، تحت مسمى "حق تقرير المصير" وإعلان حكومة إقليمية مؤقتة. 

وأعلنوا في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أن "الحقوق تنتزع، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". 

وشددوا على رفضهم مماطلة الخرطوم أو المجلس العسكري في تنفيذ مطالبهم وإصراره على عملية إقصائهم.

ومن ثم اتخذوا خطوات شبه انفصالية، قد تؤدي إلى صدام شرس مع نظام الحكم المركزي في العاصمة ومع الجيش وقوات الدعم السريع في آن واحد. 

وهو الأمر الذي لو حدث قد يكرر سيناريو دارفور الدموي الذي جرى قبل عقدين من الزمن، عندما اجتاحها الجيش وأعمل فيها القتل والتنكيل. 

دولة البجا 

وأعلنت الأمانة السياسية للمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، في بيانهم، تكوين ما يسمى بـ "اللجنة السيادية لتقرير مصير البجا".

وحددت مهمة اللجنة في خطوة واحدة متمثلة في استخدام وتفعيل حق تقرير المصير المكفول دوليا، بحسب بيانهم.

وأضافوا أن "الهيئة العليا لمجلس البجا أصبحت هي البرلمان التشريعي العرفي للإقليم، وأن اللجنة السيادية لتقرير المصير بلجانها المتخصصة هي الحكومة الوزارية التنفيذية المؤقتة للإقليم".

وشددوا على عدم اعترافهم بحكومة الخرطوم ولا بأي سلطة أو مؤسسة أو إدارة مركزية أخرى.

وقالوا: "لن نسمح لقوة أن تضع يدها على مواردنا وثرواتنا وحرياتنا الطبيعية قبل التوصل إلى اتفاق بين سلطة الإقليم وحكومة السودان".

لكن النقطة الأخطر التي أثارت حفيظة العديد من أطراف العملية السياسية السودانية، ضمن بيان مجلس نظارات البجا، إعطاء نفسه حق إقامة مؤسسات حكم ذاتي متعددة للحكم والإدارة وتصريف الأمور.

وتحديدا بناء قوات عسكرية نظامية للدفاع عن الشعب وعن الحقوق وأداء الدور الأمني والشرطي بالإقليم. 

سبب الأزمة 

وأرجع مجلس نظارات البجا السبب الرئيس في الأزمة، وعدم مشاركته في أي تسوية أو حكومة، إلى تمسكه الكامل بإلغاء مسار الشرق، في اتفاق سلام جوبا، وذلك قبل توقيع أي اتفاق مع حكومة السودان. إذ قرر المجلس عدم المشاركة في أي تحالف مركزي لا يتناول قضيتهم المصيرية.

ومسار الشرق هو اتفاق موقع بين الحكومة وفصيلين شرقي السودان، وهما مؤتمر البجا المعارض والجبهة الشعبية للسلام والتحرير والعدالة، جرى في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020.

ونص الاتفاق على تمثيل الفصيلين بـ 30 بالمئة في السلطة التنفيذية والتشريعية في الإقليم، لكنه لم ينفذ أبدا حتى الآن. وما كان الاتفاق في الأساس إلا شرارة لاشتعال الأوضاع، إذ رفضته بعض جماعات الشرق.

وقالوا إن الفصيلين اللذين شاركا في هذا التوقيع لا يمثلان القوى السياسية على الأرض، خاصة وأنه جاء دون مشاركة بعض الحركات والفصائل المسلحة في مناطق مختلفة متنازع عليها داخل القطر السوداني.

ومنها على سبيل المثال النظارات (النظارة مجموعة من القبائل لها مكان يجمعها) المستقلة في شرق السودان، بقيادة ناظر (ممثل) قبيلة الهدندوة محمد الأمين ترك، والتي تقود التصعيد في المنطقة اعتراضا على المسار.

وفي 4 أكتوبر 2020، أغلق محتجون ميناء "بورتسودان الجنوبي" على البحر الأحمر، احتجاجا على "مسار الشرق" المضمن في اتفاق السلام.

ثم بدأ التصعيد ضد الاتفاق بإغلاق "العقبة" بالطريق القومي المؤدي إلى الموانئ الرئيسة بالبحر الأحمر، وبلغ ذروته بإغلاق ميناء سواكن والجنوبي "بورتسودان" الخاص بنقل وتفريغ البضائع بمدينة بورتسودان.

بعدها قررت اللجنة الأمنية بولاية البحر الأحمر إيقاف حركة الباصات من وإلى بورتسودان نتيجة لإغلاق الطريق الرابط بين مدن "سنكات -هيا".

وكانت التحركات تحت بند أن اتفاق السلام أغفل المظالم التاريخية لأهل شرق السودان، المتعلقة بتقاسم السلطة والثروة، وجعلهم رهن الإخفاقات الحكومية، والأطماع الخارجية، وذلك وفق قطاع من المجلس الأعلى لنظارات البجا، الذي سيطر على كل الأمور بعدها.

وكان قد هدأ حين تلقى وعودا من رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، عقب تنفيذه إجراءات 25 أكتوبر 2021، عندما أطاح بالحكومة، ووعد بحل مشكلة مسار شرق، نظارات الجا. 

لكن ذلك أيضا لم يحدث، واستمر الوضع على ما هو عليه، حتى انفجر حاليا على نحو متزايد، وأكثر شراسة. 

 

شعب البجا 

شعب "البجا" الذي يبشر بدولته ويسعى إلى حكم ذاتي، يعيش منذ قديم الأزل في إقليم شرق السودان بالغ الأهمية.

ويضم ثلاث ولايات هي البحر الأحمر وكسلا والقضارف، ويعد إستراتيجيا، كونه يحد إريتريا ومصر وإثيوبيا.

ويمتد فيه ساحل على البحر الأحمر طوله نحو 500 كلم، وتوجد عليه مرافئ نفطية.

كما يضم الإقليم 5 أنهار، وأكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون هكتار من الأراضي الزراعية.

هذه الموارد تشكل عناصر مهمة للسودان الذي يعاني من اقتصاد متداع؛ نتيجة سوء الإدارة والعقوبات الاقتصادية في عهد رئيس النظام الأسبق عمر البشير. 

وبحسب دراسة أعدها الباحث السوداني إدريس نور محمد، فإن حدود الإقليم الشرقي هي البحر الأحمر شرقا، وإريتريا وإثيوبيا جنوبا، والنيل غربا، حتى حدود النيل الأزرق في الجنوب الغربي، ومصر شمالا. 

ويمتد من المنحدرات الشمالية للهضبة الإثيوبية في الجنوب إلى الحدود السودانية المصرية شمالا، وتبلغ مساحته 110 آلاف ميل مربع.

ويمتاز الإقليم من الناحية التاريخية باحتضانه أقدم الحضارات الإنسانية، كما كان من أهم البوابات التي دخلت من خلالها العروبة والإسلام إلى السودان.

وتقدر ثروات قاع ما تحت البحر الأحمر في تلك المنطقة بمليارات الدولارات، يضاف إليها المعادن من الأحجار الكريمة.

كما توجد معادن أخرى بالإقليم، مثل الحديد والنحاس والتنجستن والرخام والحجر الجيري.

 

جذور عريقة

ويصل تعداد "البجا" في السودان وحده إلى أكثر من مليونين ونصف المليون. وبحسب إجماع المؤرخين فإنهم قوم ذوو جذور عريقة، يعود تاريخهم في المنطقة إلى 5 آلاف سنة.

وتضم القبيلة مكونات رئيسة، على رأسهم "الهدندوة، البني عامر، والحلنقة، والبشاريين، الأشراف، الأرتيقة، الشياياب، العبابدة، الكميلاب، الملهيتنكناب"، وهم عصارة أمم متنوعة، دمجتهم اللغة والثقافة والأرض.

والسمة التي تغلب على قبائل البجا الطابع البدوي، وما يمتاز به من بساطة وكرم، كما أنهم يعرفون بالشجاعة والميل المستمر إلى القتال، بينما تلتزم نساؤهم بغطاء الوجه، ولا يذهبن للتسوق. 

تحدث المؤرخ الإسلامي، تقي الدين المقريزي، في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".

وقال "بعد الإسلام تدفقت سيول من الهجرات العربية والقرشية والأموية والجهنية والرفاعية والبلوية إلى ساحل البجا، واختلطت بهم وتزاوجت معهم".

ولكن اللهجة البجاوية والطابع البجاوي هو الشيء الوحيد الذي بقي حتى الآن، وورثته كل القبائل المهاجرة لأرض البجا. 

وأوضح المقريزي أن "أغلب قبائل البجا اليوم عربية محضة، وبعضها الآخر مختلط بالعرب، فالبجا لها عربية من جهينة ورفاعة وهوازن وكاهل، وثلاثة من بطونها قرشية شريفة". 

ولطالما اشتكت قبائل البجا من التهميش السياسي والتنموي، وقادت حروبا ضارية ضد الحكومة المركزية في الخرطوم خلال حقبة تسعينيات القرن الماضي.

وفي الوقت الراهن تبدأ العصيان من جديد، واحتمالية الدخول في طور يؤدي إلى تفكك الشرق بأكمله عن الوطن الأم.

 

انقسام واقع 

السياسي السوداني إبراهيم عبد العاطي، قال في حديثه لـ "الاستقلال"، "إن ضعف الدولة ومركزية الحكم، وغياب حكومة قوية، يولد كثيرا من المشكلات والأزمات".

لكن أخطر ما ينتجه هو تفكك الدولة نفسها، وتحولها إلى مراكز قوى متفرقة، تعتمد على العصبيات والقبليات، وتسعى إلى الانفصال. 

وأضاف: "قبائل البجا تشعر بغبن تاريخي، وأنهم خسروا الكثير، نتيجة التهميش والفساد عبر عقود".

وبين أن التهميش استنزف مواردهم ومقدراتهم، وألبسهم ثوب الفقر، رغم أن أراضيهم من أهم البقاع في السودان.

ففيها الموانىء الإستراتيجية، والموارد النفطية، عدا عن المعادن، والثروة الحيوانية الكبيرة، وفق قوله. 

واستطرد: "القبائل هناك وعلى رأسها قبيلة (الهدندوة) رأت أن هذه لحظة تاريخية لتحقيق مطالبهم، وانتزاع حقوقهم، ربما لن تتكرر مرة أخرى".

خاصة أن النظام منشغل في صراعاته وأزماته مع قوى الحرية والتغيير والشيوعيين، وفي ظل خضوعه لضغوطات دولية، فلا بأس إذا من تمرير مطالبهم التاريخية. 

وشدد عبد العاطي: "أن إمكانية حدوث صدام مسلح واردة، ولو كنا في لحظة أخرى لكان حتميا، وكنا سنرى في الشرق دارفور أخرى".

لكن الصدام حاليا سيكون بمثابة انتحار فعلي للسودان بأكمله، فالدخول في حرب أهلية، ونحن في هذا الحال السياسي والاقتصادي، سيكون النهاية.

وأردف: "حينها سنصل إلى أوضاع أسوأ كثيرا من دول عربية أخرى، لا تزال تعاني توابع الانقسام والصراع".