"مستقبل ضائع".. كيف أضرت الحرب الأوكرانية بقطاع التعليم في روسيا؟

12

طباعة

مشاركة

تنبه أساتذة الجامعات في روسيا مبكرا لضرورة الفرار من بلدهم عقب قرار الرئيس فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا، الأمر الذي أخذ منحى تصاعديا في الأسابيع الأخيرة.

وشجع غموض المستقبل ومضي بوتين في الحرب وإصراره على مجابهة الغرب، وسط تزايد حملة قمع حرية التعبير في روسيا، الأكاديميين على النجاة وترك سنوات من إنجازاتهم في الحقل التعليمي وراء ظهورهم.

كانت الموجة الأولى من هجرة الروس عقب بدء الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، تشمل عددا محدودا من أساتذة الجامعات الذين تسربوا وعوائلهم عبر الحدود نحو الدول المحيطة والغرب.

لكن الضربة التي قصمت ظهر الأساتذة الروس، هي حينما جرم البرلمان الروسي فعليا في 4 مارس/آذار 2022، حرية التعبير حول حرب أوكرانيا.

وبات أولئك الذين يعبرون عن آراء تتعارض مع الخط الحكومي الرسمي يواجهون عقوبة بالسجن تصل إلى 15 عاما.

كارثة تعليمية

ومما زاد الطين بلة بالنسبة للأكاديميين، هو تعرضهم للضغط من جميع الجهات، لا سيما مع قطع العلاقات الدولية مع موسكو.

وكان العامل الأبرز قطع العديد من الجامعات الغربية العلاقات مع المؤسسات التعليمية الروسية، ولم تعد بعض المجلات تقبل الطلبات المقدمة من العلماء الروس.

وقال دينيس سكوبين، الأستاذ الروسي في جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية، معلقا على تأثير الحرب الروسية ضد أوكرانيا: "إن نظام البحث والتعليم الروسي ينهار بالفعل".

وأوضح سكوبين في لقاء مع شبكة "بي بي سي" البريطانية في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 قائلا: "على حد علمي في بعض جامعات سانت بطرسبرغ وموسكو الجيدة هناك الكثير من وظائف التدريس الشاغرة الآن فقط لأن الناس غادروا".

وسكوبين هو أستاذ مساعد يدرس الفلسفة طرد من الجامعة في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2022 لمعارضته غزو بلاده لأوكرانيا.

كما احتجز لمدة عشرة أيام عقب احتجاجه في كلية الآداب والعلوم الليبرالية، على "التعبئة الجزئية" لقوات الاحتياط الروسية التي طلبت ضم 300 ألف جندي للقتال في أوكرانيا.

وبعد إلقاء سلطات الأمن القبض عليه، تلقى سكوبين أمرا بالفصل من الجامعة جاء فيه أن "الفعل الذي يرتكبه الموظف غير أخلاقي ويتعارض مع تنفيذ الوظائف التعليمية واستمرار هذا العمل".

ومع ذلك فقد أشاد الطلاب بالبروفيسور في آخر يوم عمل له، وفقا لهيئة الإذاعة البريطانية.

وقبل ذلك تداولت وسائل الإعلام الدولية طرد رومان ميلنيشنكو، الأستاذ المساعد في جامعة ولاية فولغوغراد، في 19 أبريل/نيسان 2022 بسبب "جريمة تأديبية" "انتهكت المعايير الأخلاقية" وفق زعم موسكو.

والحقيقة أن ميلنيشنكو أعاد نشر رسالة مناهضة للحرب على أوكرانيا على شبكة "VKontakte" الاجتماعية الروسية الشهيرة.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، ففي بعض الجامعات الروسية بدؤوا يطلبون من طلاب الماجستير التدريس بدلا من الأساتذة.

وفي هذا الصدد يقول سكوبين: "يمكنك أن تتخيل كيف سيؤثر ذلك على التعليم الروسي، ونظام الجامعات، إنها كارثة".

ويرى البروفيسور، أن بلدا ليس له علماء مشهورون دوليا ليس له مستقبل، مضيفا أن "العلم الروسي مات بعد 24 فبراير".

خط الكرملين

ومبكرا عمد الرئيس بوتين إلى ضبط المشهد الأكاديمي على إيقاع غزو أوكرانيا الذي قال إنه يشبه الحرب ضد النازية في الحرب العالمية الثانية.

وأكد في 8 مايو/أيار 2022 أن "النصر في أوكرانيا لنا كما كان في عام 1945".

وأصدر الاتحاد الروسي لرؤساء الجامعات إعلانا وقعه حوالي 180 عميدا من أفضل الجامعات في روسيا ينص على أنهم يوافقون على قرار رئيسهم، وأنهم يدعمون الغزو العسكري.

وعلى الفور علقت الجامعات البريطانية الدولية مذكرة تفاهم مع الجامعات الروسية، كما قطع الاتحاد الأوروبي علاقاته مع روسيا في التبادل الأكاديمي والبحث والعلمي.

وأيضا، ألغت الجامعات الأميركية والأوروبية برامج التبادل مع نظيرتها الروسية، كما طلبوا من طلابهم مغادرة روسيا، وجرى وقف الكثير من العلاقات الأكاديمية.

وأنهى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بريطانيا تعاونه البحثي والتدريس عالي التقنية مع معهد سكولكوفو للعلوم والتكنولوجيا بموسكو في 25 فبراير 2022 أي في اليوم الثاني مباشرة من الغزو على أوكرانيا.

ومنذ نهاية الحرب الباردة في عام 1991، شكلت مؤسسات التعليم العالي الغربية والروسية مئات الشراكات وتعاونت في مبادرات مختلفة، وتضمنت هذه الأنشطة التبادل الأكاديمي وتطوير المناهج والدورات المشتركة عبر الإنترنت ومشاريع البحث التعاونية.

وعملت روسيا خلال العقدين الماضيين على جعل جامعاتها أكثر شهرة، ولا سيما حينما دولت الحكومة الروسية وحدثت نظام التعليم العالي الخاص بها، وابتعدت عن التقاليد السوفيتية، واعتمدت معايير التعليم العالي الأوروبية.

وعقب حرب أوكرانيا بدأ الأكاديميون الروس يشعرون بشكل متزايد بالانفصال عن الغرب والإحباط بشأن مستقبل العلوم الروسية والجامعات.

ولا سيما أن الحكومة الروسية أعلنت في 22 مارس 2022 أنها ستمنع باحثيها من المشاركة في المؤتمرات الدولية.

إنذار مبكر

لكن محاولات النخبة الأكاديمية الروسية لدق ناقوس الخطر من أبعاد الحرب على أوكرانيا على التعليم العالي في بلدهم، لم تجد آذانا صاغية من السلطات الحاكمة بروسيا.

فقد أعرب ما يقرب من 8000 باحث روسي فور بدء الغزو على أوكرانيا، عن معارضتهم في خطاب مفتوح للحرب.

وجاء في الخطاب: "بعد أن أطلقت روسيا العنان للحرب، حكمت على نفسها بالعزلة الدولية في موقف دولة منبوذة".

ومضى الخطاب يقول: "هذا يعني أننا العلماء لن نكون قادرين على القيام بعملنا بشكل طبيعي، وإجراء البحث العلمي الذي لا يمكن تصوره دون التعاون الكامل مع الزملاء من البلدان الأخرى".

وأمام بدء هجرة العقول العلمية بشكل ملحوظ من روسيا، نحو دول الجوار والغرب، انتشرت جهود شعبية في الغرب لمساعدة الباحثين على الفرار من أوكرانيا حتى أن البعض قدم أيضا المساعدة للباحثين الروس المعرضين للخطر.

وتقدم إحدى هذه المبادرات التي دشنها علماء غربيون بعرض السير الذاتية في شكلها الصحيح لهؤلاء الأساتذة الروس، وجعلهم على اتصال بالمختبرات ذات الصلة في أوروبا، وتقديم المشورة بشأن الموضوعات المتعلقة بالأوساط الأكاديمية هناك.

لكن رغم ذلك، رصدت بعض العيوب في عمليات البحث عن عمل في الدول الأوروبية للأساتذة الروس، وهو تفضيل الأوكران عليهم في سرعة التوظيف والتجاوب.

ويخشى أساتذة الجامعات الروسية تحولهم لـ "أداة لغسل أدمغة الطلاب"، عبر ترويج دعاية الكرملين حول الحرب على أوكرانيا ومسوغاتها، مما يجعل هؤلاء أول المتضررين من سياسات التقشف الحكومي وسحق العقوبات الغربية للاقتصاد الروسي.

وخاصة أن المدراس الروسية بدأت بتعليم الطلاب أن ما يجري في أوكرانيا "ليست حربا، ولكنها عملية حفظ سلام خاصة"، تهدف إلى حماية سكان "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين".

وهما جمهوريتان انفصلتا عن أوكرانيا بعدما وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمهما إلى جانب خيرسون وزابوريجيا بشكل رسمي إلى بلاده في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2022.

وطردت روسيا أساتذة جامعيين بينهم مدرسون لأكثر من عقدين من الزمن في الجامعات؛ بسبب تحدثهم علنا ضد العمل العسكري الروسي في أوكرانيا، حسب وكالة الأنباء الفرنسية.

ضرب النخبة

وصرح المحاضر الكبير السابق في جامعة فولغوغراد للوكالة في 13 مايو 2022 بالقول: إن "النخبة المثقفة لديها القدرة على جعل النخبة الحاكمة تفقد أسس قوتها، ولهذا السبب هناك رد فعل قاس ضد الجامعات".

من جهتها قالت منظمة العفو الدولية خلال تقرير لها نشرته في 6 مايو 2022، إنه يتعين على السلطات الروسية أن تضع حدا فوريا لاعتدائها على الحرية الأكاديمية والحق في حرية التعبير، في الوقت الذي تتصاعد فيه حملة لتطهير المدارس والجامعات من الآراء المعارضة حول العدوان على أوكرانيا.

ويجبر المعلمون على نشر الدعاية المعادية لأوكرانيا وتمجيد "العملية الخاصة لروسيا في أوكرانيا"، وإلا فقدوا وظائفهم"، كما يؤكد مدير قسم أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى بالإنابة في منظمة العفو الدولية بروس ميلار.

ومضى ميلار يقول: "إن حرية تبادل الأفكار والمعلومات من جميع الأنواع بين المعلمين والطلاب هي جزء لا يتجزأ من التنمية الصحية للأجيال القادمة وخلق مجتمعات متنوعة وحيوية".

ونوه تقرير المنظمة، إلى أن المحاضرين الجامعيين تعرضوا لعمليات انتقامية قاسية لتحدثهم علانية ضد الحرب في أوكرانيا، ووضع بعضهم وراء القضبان لقضاء ما يسمى بالاعتقال الإداري.

كما اضطر البعض لدفع غرامات باهظة لمجرد التعبير عن آرائهم إما علنا أو في الفصول الدراسية، في وقت جرى فيه فصل العديد منهم أو توبيخهم، وفق المنظمة.

لكن الكرملين، ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية عقب حرب أوكرانيا، أصبح متخوفا من جهود "تثقيف الشباب بطريقة موالية للغرب، وتشكيل جمهور احتجاجي وغرس أيديولوجية معادية لموسكو"، وفق مراقبين.

ولهذا يرى المؤيدون لوقف التعامل مع الجامعات الروسية، بأن الأمر "موقف أخلاقي ضد بوتين".

ويقولون أيضا إنهم يهدفون إلى "محاربة الفساد وتقليل مخاطر التجسس وعرقلة آلة الدعاية لبوتين".

وفي هذا السياق، يقول كريس فيلب وزير التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي في المملكة المتحدة، إنه لا يرى كيف "يمكن لأي شخص يتمتع بضمير جيد أن يتعاون مع الجامعات الروسية"، وفق وصفه.