العشاء الأخير.. ما احتمالات نجاح الغرب وإيران في تغيير النظام اللبناني؟

12

طباعة

مشاركة

في غمرة الاستحقاقات الدستورية، فوجئ اللبنانيون بتسريبات إعلامية تتحدث عن دعوة السفارة السويسرية، الأحزاب والتيارات المختلفة إلى عشاء حواري، للتباحث بالأوضاع السياسية المحلية، والتحضير لعقد مؤتمر دولي بشأن مصير بلدهم. 

دعوة العشاء السويسرية رحبت بها القوى المقربة من محور الممانعة (سوريا وإيران وأذرعها في الوطن العربي)، ورفضتها القوى المناهضة لها، بعد أن أبدت موافقتها على المشاركة. 

وتتمثل الاستحقاقات بانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس الحالي ميشال عون الذي تنتهي ولايته أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2022.

ويحضر أيضا تعثر الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة منذ نهاية الانتخابات التشريعية أواخر مايو/أيار 2022، وصولا إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع الاحتلال الإسرائيلي ومآلاته. 

وتزامنت الدعوة للعشاء مع تحرك لافت للسفير السعودي في بيروت وليد البخاري، الذي سارع إلى رفض المس باتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان عام 1989. 

وتمثل سويسرا المصالح الأميركية في إيران، كما مثلتها سابقا في مصر.

فما هو هدف هذا العشاء؟ ولماذا عارضته السعودية؟ وهل يمكن وصفه مؤشراً لصفقة أميركية– إيرانية بشأن لبنان؟ وما مصيره بعد ردات الفعل المعارضة له؟

عبوة سويسرية

كشف موقع "أساس ميديا" اللبناني، في مقال للصحفية جوزفين ديب في 15 أكتوبر، عن "مساع سويسرية لعقد مؤتمر للصف الثاني من ممثلي بعض الأحزاب السياسية اللبنانية في جنيف خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وكان هذا المؤتمر سيسبقه عشاء في السفارة السويسرية في 18 أكتوبر.

وفي 16 أكتوبر، أورد الموقع الممول من السعودية، أنه أسهم (كونه كان أول من كشف عن عقد هذا اللقاء) في تعطيل عبوة سويسرية كانت تعد لتفجير ضمانة الدستور (اتفاق الطائف)، بدأتها "منظمة مركز الحوار الإنساني"، ومقرها سويسرا، ثم استكملتها الخارجية السويسرية عبر سفارتها في لبنان. 

وبحسب مصادر لبنانية، كان سيصار في جلسة العشاء الحواري إلى البحث عن ثغرات اتفاق الطائف والسعي لتعديله بما يتناسب مع طموح حزب الله وحليفه الرئيس ميشال عون، وهما اللذان عارضا الاتفاق منذ توقيعه عام 1989 لأنهما رأيا أنه أخذ من حصتهم (الشيعية والمارونية) ومنحها لأهل السنة. 

ومن هنا، فهذا الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام المحلية أدى إلى ردة فعل سعودية قوية، إذ سارع سفير المملكة في بيروت وليد البخاري إلى التغريد عبر حسابه على "تويتر" بهذا الشأن.

وقال إن "وثيقة الوفاق الوطني عقد ملزم لإرساء ركائز الكيان اللبناني التعددي، والبديل عنها لن يكون ميثاقاً آخر، بل انفكاكا لعقد العيش المشترك، وزوال الوطن الموحد واستبداله بكيانات لا تشبه لبنان". 

والمقصود بوثيقة الوفاق الوطني هي الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية ويعرف بـ"اتفاق الطائف" حيث عقدت المحادثات في سبتمبر/أيلول 1989. 

هذه الوثيقة جرى إدراج بنودها في الدستور اللبناني بموافقة غالبية النواب وبات يشكل ضمانة للسلم والاستقرار في لبنان حتى اليوم. 

لكنه لم يحظَ باعتراف حزب الله (شيعي) الراغب في تأسيس نظام يشبه نظام ولاية الفقيه في إيران، وكذلك التيار الوطني الحر المسيحي الذي أسسه رئيس الجمهورية ميشال عون.

ويعود ذلك إلى أن التعديلات التي أقرها الاتفاق قلصت من صلاحية منصب رئيس الجمهورية وحولتها إلى الحكومة مجتمعة.

موقف السفير السعودي تبعه ردة فعل عالية اللهجة من كتلة "التغيير" التي خاضت الانتخابات النيابية ضد كل الأحزاب اللبنانية رافعة شعار كلن يعني ملن واستطاعت حصد 13 مقعدا.

وقال النائب عن الكتلة وضاح الصادق في بيان له: "دستور الطائف هو مرجعيتي السياسية، وضد أي مؤتمر دولي أو محلي في ظل سلاح الأمر الواقع".

وأضاف الصادق: "لا أحد يمثلني في أي لقاء في أي سفارة، وأرفض البحث في هذا الموضوع من أساسه. أخذت علما به عبر الإعلام، وهذا بحد ذاته غير مقبول". 

كذلك اعتذر حزب القوات (مسيحي تقليدي قديم يرأسه سمير جعجع المقرب من السعودية) عن تلبية الدعوة، وسط غموض أحاط بلائحة المدعوين. 

وقد أوردت بعض وسائل الإعلام المحلية أن لائحة المدعوين تضمنت ممثلا عن كل من: حزب الله، التيار الوطني الحر (حزب رئيس الجمهورية وحليف حزب الله)، حركة أمل (حزب رئيس المجلس النيابي وحليف حزب الله).

وأيضا وزيرة سابقة ممثلة عن تيار المستقبل السني المعارض لحزب الله، والذي جمد رئيسه سعد الحريري نشاطه السياسي أوائل العام 2022، وأخيرا نائبا سنيا كممثل عن كتلة "التغيير" المنبثقة عن انتفاضة 17 أكتوبر 2019. 

لم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي اليوم التالي لتغريدته، التقى السفير السعودي رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري. 

ثم بعد يومين، في 19 أكتوبر، زار البخاري رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. وكان موضوع الزيارات الثلاث واحدا: 

"تأكيد مرجعية اتفاق الطائف الذي انبثق عنه الدستور اللبناني في رعاية الواقع اللبناني والعلاقات الوطيدة بين مختلف المكونات اللبنانية". 

وهو أيضا ما كان سبق أن تضمنه البيان الثلاثي السعودي – الأميركي – الفرنسي في 22 سبتمبر 2022، تحت ضغط الرياض، غداة اجتماع لوزراء خارجية الدول الثلاث على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.

تغييب السنة

غداة ما حصل من ردات فعل، أعلنت السفارة السويسرية في لبنان وسوريا، في بيان رسمي في 17 أكتوبر 2022، عن "تأجيل العشاء غير الرسمي الذي كان من المفترض أن يقام في منزل السفيرة السويسرية (بيروت)، بهدف تعزيز تبادل الأفكار بين مختلف الجهات الفاعلة السياسية اللبنانية". 

وشددت في بيانها على "احترام تام لاتفاق الطائف والدستور اللبناني". 

وتعقيبا على ذلك، كتب عماد الشدياق في موقع "أساس ميديا" في 19 أكتوبر أن مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان "حسم موقف أهل السنة من عشاء السفارة السويسرية، حين أبلغها أن النائب إبراهيم منيمنة (من كتلة التغيير) لا يمثل السنة".

وبين المفتي أن "على السفارة أن تختار نائبا من الـ24 الذي شاركوا في اجتماع دار الإفتاء". وتابع الشدياق "فهمت السفيرة السويسرية الرسالة وألغي العشاء". 

والنائب المذكور كان قد اعتذر عن تلبية دعوة وجهتها دار الفتوى لكل النواب السنة البالغ عددهم 27، بهدف جمع الصف السني المبعثر تحت سقف موقف وطني غير فئوي، بما يخفف بعض الشيء من وقع غياب الحضور السني عن الساحة السياسية بسبب الانقسامات الهائلة التي تعتري صفوف نواب الطائفة. 

لكن منيمنة رفض الحضور لأنه لا يعد نفسه ممثلاً عن السنة، ورفض أيضا تلبية دعوة السفير السعودي وليد البخاري الى عشاء جامع لكل النواب السنة، لأنه يرفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية. 

بيد أن النائب نفسه لا يمانع تلبية دعوة السفارة السويسرية لمناقشة الشؤون المحلية على طاولتها. وسبق له الاجتماع مع سفراء أميركا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية وكانت المواضيع المطروحة فيها سياسية. 

ويتابع الشدياق في مقالته "تشير المعلومات إلى أن الطرفين السويسري والسعودي تواصلا قبل أيام من أجل تذليل سوء التفاهم الذي نشأ على خلفية الدعوة".

وأظهر الجانب السعودي أن الرسالة لم يقصد بها الجانب السويسري، وإنما الجهات التي قد تستغل حوارا كهذا من أجل تمرير تفاهماتها مع الغرب، وفق قوله. 

بيد أن اللافت كان أن السفارة السويسرية أعلنت تأجيل العشاء وليس إلغاءه، بما يعني أنها ماضية في تنفيذ الفكرة، لكنها ستنتظر هدوء العاصفة الاعتراضية وتبريد الأجواء المحتقنة. 

وهذا ما يعطي مؤشرات على أن الخطوة ليست قرارا فرديا أو آنيا، ولا يمكن عزلها عن سياقات الاصطفافات الدولية الآخذة في التبدل على وقع أزمة الطاقة العالمية، وأنها تحظى بدعم أميركي ولا سيما بعد الصفقة الإيرانية الأميركية في العراق، وصفقة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. 

وكذلك تحظى أيضا بدعم أوروبي ولا سيما فرنسا ذات النفوذ التاريخي في لبنان والتي تدعم بقوة تغيير النظام الحالي. 

وقد سبق لرئيس فرنسا إيمانويل ماكرون أن تحدث عن تغيير العقد السياسي والاجتماعي في لبنان في اجتماعه مع رؤساء الكتل النيابية عقب انفجار ميناء بيروت في أغسطس/آب 2020. 

أضف إلى ذلك العلاقات المميزة بين فرنسا وإيران وأذرعها، إذ تحرص الدبلوماسية الفرنسية على التنسيق المستمر مع حزب الله. 

المشروع مستمر

حزب الله لم يبدِ أي رد فعل مباشر على ما حصل، وهو أمر مألوف في أدبياته، فهو يعتصم بالصمت بشكل شبه دائم، لكنه يفسح المجال لحلفائه وإعلامه أو جمهوره كي يعبروا عن حقيقة موقفه من أي قضية.

وقد شن الحزب حملة شديدة على وليد البخاري، عبر وسائل التواصل الاجتماعي من "تويتر" و"فيسبوك"، تحت وسم "سفير الفتنة"، وعبر مجموعاته على تطبيقات "واتساب" و"تلغرام"، وأيضا بمقالات لصحفيين مقربين منه تتهمه بمنع الحوار بين اللبنانيين.

وفي هذا الإطار كتب الصحفي عماد مرمل في صحيفة "الجمهورية" في 18 أكتوبر 2022، نقلا عن مصادر لم يسمها أن "رفض عدد من الجهات الداخلية والإقليمية فتح المجال أمام أي محاولة لمناقشة تعديل الدستور والطائف هو الذي نسف مشروع العشاء". 

ويضيف "لقد بدا واضحاً أن (السفير السعودي) البخاري تعمد من خلال تلك التغريدة توجيه رسالة واضحة لمن يهمه الأمر، بأن وثيقة الطائف خط أحمر". 

وينقل عن إحدى الشخصيات التي كانت مدعوة للعشاء بأن "رد الفعل السلبي لحزب القوات اللبنانية وبعض النواب التغييريين السنة على الدعوة السويسرية لا يمكن فصله عن التغريدة ودلالاتها". 

أما عن موقف حزب الله فيقول مرمل إنه "تجاوب مع الدعوة انطلاقا من الانفتاح المبدئي على أي حوار وطني". 

كما ينقل عن مقربين من حزب الله بأن السفارة السويسرية تواصلت مع أحد نوابه الذي كان سيمثله "وأبلغته بأن العشاء أرجئ، إلا أنها شددت على أن مشروع الحوار لم يلغ، بل لا يزال مستمرا".

وعلى خط مواز، أبدت بعض الأطراف المسيحية حماستها الكبيرة لطرح اتفاق الطائف على الطاولة تمهيدا للتخلص منه. 

ولهذا الاتفاق مكانة خاصة عند المسيحيين، إذ يراه أغلبهم رمزا لهزيمتهم في الحرب الأهلية، بسبب التعديلات التي قلصت من هيمنة الموارنة على الحكم، ومنحت الأفضلية للسنة، حسب وجهة نظرهم. 

في حين أن الاتفاق قلص من صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، وجعلها في مجلس الوزراء مجتمعا، على اعتبار أنه يمثل كل الطوائف والمذاهب في لبنان، وبهذا يكون الجميع مشاركاً في القرار. 

ورأت الصحفية كلير شكر، أنه "لا حاجة لمن يبلغ السعودية أو فرنسا أو الولايات المتحدة الأميركية، بأن اتفاق الطائف معتل".

وأردفت في حديث لـ"الاستقلال": "لا داعي للإنكار أن الاتفاق بعد أكثر من ثلاثة عقود على وضعه، بات يحتاج إلى مراجعة نقدية، تطوره، تحسنه وتعيد إليه الروح الإنقاذية، بعدما صار تقالة (عبأ) على المؤسسات الدستورية". 

ولفتت إلى أنه "لا بد من جلوس اللبنانيين الى طاولة مستديرة يلقون عليها، دفعة واحدة، كل هواجسهم ومخاوفهم وتطلعاتهم. وبالتالي لكل مشروع خطوة أولى". 

وتضيف شكر "تبدي السعودية، ومعها بعض الأطراف اللبنانية، حرصاً شديداً على الاتفاق، لتحيل تمسكها به، شرطاً أساسياً لعودتها السياسية إلى لبنان من باب إبقاء التوازنات الداخلية على حالها ولا سيما فيما يخص السلطة التنفيذية". 

وذكرت أن "منظمة مركز الحوار الإنساني" كانت "بدأت الإعداد لهذا المشروع (أي حوار المائدة) منذ أكثر من سنتين، بعدما أجرت جولة موسعة من الاجتماعات شملت مختلف الأطراف اللبنانية، الرسمية وغير الرسمية، بلغت شخصيات من المجتمع المدني وعاملين في الشأن العام". 

وتخلص إلى أن "المشروع لا يزال قائماً، لم يتعطل، وإنما تأجل لبعض الوقت الى حين استكمال النقاشات وتوضيح الالتباسات التي أثارها سواء بالنسبة الى بعض القوى المحلية أو الإقليمية".