"صمام الغاز الروسي".. هكذا تفسد تركيا خطط أوروبا وإسرائيل ومصر

12

طباعة

مشاركة

ينظر إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أنه لاعب دبلوماسي "ماهر" في الحرب الروسية الأوكرانية، فقد امتنع عن تطبيق العقوبات الغربية على موسكو، لكنه رفض ضمها أربع مناطق أوكرانية، ووصف ذلك بأنه "انتهاك خطير" للقانون الدولي.

كما سعى أردوغان للتوسط بين موسكو وكييف منذ بدء الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط 2022، وحقق انفراجة نادرة مع الأمم المتحدة في اتفاق 22 يوليو/تموز 2022 الذي سمح باستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود التي أغلقتها موسكو.

وفي الوقت نفسه، سعى لاستضافة محادثات سلام بين روسيا وأوكرانيا يشارك فيها الغرب، وتهدئة توتر كبير بين الغرب وحلف شمال الأطلسي "الناتو" من جهة وروسيا من جهة أخرة قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة نووية ذات طابع ديني.

وفي الوقت الراهن تحتاج روسيا لتركيا العضو في "الناتو"، بعدما استهدفها الغرب بموجات من العقوبات الاقتصادية، كما يحتاج الغرب أنقرة أيضا للتوسط بين الطرفين لعدم الوصول إلى فوهة الحرب.

مايسترو الغاز

الجديد في السياق أنه بعد أن نجحت تركيا في حل أزمة الحبوب في العالم عبر "اتفاقية إسطنبول" لنقل قمح أوكرانيا إلى الدول المحتاجة له عبر موانئها، تتجه للعب دور أهم وأخطر في توفير الغاز الروسي لأوروبا بعيدا عن المقاطعة.

يأتي ذلك في وقت تعاني فيه القارة العجوز عجزا في الطاقة مع دخول الشتاء، ما سيؤهل تركيا لتصبح "مايسترو" توزيع الغاز في المنطقة، رغم أنها دولة مستوردة له.

الفكرة سبق أن اقترحتها تركيا، لكن طرحها من الرئيس بوتين رسميا على أردوغان في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2022.

وأكد أن موسكو ستنشئ "مركزا للغاز" في تركيا لتصديره إلى أوروبا، بعدما أثبتت أنقرة أنها "الطريق الأكثر موثوقية لتزويد الاتحاد الأوروبي بالغاز".

هذا الطرح الرسمي الذي جاء على هامش لقائهما خلال الدورة السادسة لمؤتمر التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا "سيكا" بكازاخستان في 13 أكتوبر 2022، كان بمثابة تدشين لهذا الدور التركي لتصبح مركزا إقليميا وعالميا لتصدير الغاز إلى دول أخرى.

وتسعى موسكو، عبر هذا الخط التركي، إلى تدشين ممر جديد للغاز الروسي إلى أوروبا بعد الأضرار التي لحقت بخطوط أنابيب البلطيق (نورد ستريم)، وإعادة توجيه الإمدادات بعيدا عن هذه الخطوط التي تضررت في انفجارات 26 سبتمبر/أيلول 2022، بحسب وكالة "رويترز" في 13 أكتوبر 2022.

وعوضت الحكومات الأوروبية الكثير من نقص الغاز الروسي عن طريق شراء إمدادات من الغاز الطبيعي المسال التي تأتي عن طريق السفن من دول مثل الولايات المتحدة وقطر، ومن خلال الحصول على إمدادات متزايدة من خطوط أنابيب من النرويج وأذربيجان، لكن بأسعار باهظة الثمن عما لو استوردته من الخط التركي.

وقالت وكالة الطاقة الدولية، إن أوروبا تواجه "مخاطر غير مسبوقة" بشأن إمداداتها من الغاز الطبيعي هذا الشتاء، بعدما قطعت روسيا معظم الشحنات عن القارة العجوز.

وتوقعت الوكالة الدولية أن تتنافس أوروبا مع آسيا على "الغاز السائل النادر والمكلف"، الذي يأتي عن طريق السفن، وفقا لوكالة "أسوشيتد برس" في 3 أكتوبر 2022.

رقبة أوروبا

ومنذ فرض الدول الغربية حصارا اقتصاديا على روسيا جراء غزو أوكرانيا، ثم ضغوط أميركا على دول أوروبا للتوقف عن استيراد الغاز الروسي، والقارة العجوز تعاني من مشاكل في إمدادات الطاقة.

وتوقفت غالبية الدول الأوروبية عن شراء الغاز الروسي، ثم تعرض خطا غاز "نورد ستريم1" و"نورد ستريم2"، اللذان ينقلان الغاز من روسيا إلى أوروبا، أسفل سطح بحر البلطيق، لأعمال تخريب أدت إلى حدوث تسرب في سبتمبر 2022، خلق أزمة طاقة في أوروبا مع قدوم الشتاء.

وسيستغرق إصلاح الخطين "أكثر من عام"، حسبما قال الرئيس التنفيذي لشركة "غازبروم" الروسية، أليكسي ميلر، وفق موقع "الشرق بلومبرغ" في 14 أكتوبر 2022. 

زاد الأزمة اتهام الاتحاد الأوروبي لأميركا أنها "تتاجر بأزمة أوروبا" بعدما رفعت أسعار الغاز الذي تبيعه لدول الاتحاد التي قاطعت الغاز الروسي، بأربعة أضعاف سعر بيعه في السوق الأميركية.

وتعالت الانتقادات الأوروبية للإدارة الأميركية وعدوا ذلك "استغلالا مرفوضا للأزمة"، بحسب موقع "إنفستينج" الاقتصادي 10 أكتوبر 2022.

وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف: "سيتعين على أوروبا شراء الغاز الروسي"، مؤكدا أن خط "السيل التركي" هو المسار الوحيد الموثوق به.

واقتراح إنشاء مركز غاز في تركيا سيغري دولا أوروبية بالشراء من أنقرة، رغم أنه "غاز روسي"، وفق متخصصين.

وبموجب الاتفاق، ستنفذ شركة "غازبروم" مرافق في البحر الأسود على أن يتداول الاتحاد الأوروبي الغاز من تركيا.

وفي حال تنفيذ الاتفاق الذي ترعاه تركيا لتوفير الغاز الروسي إلى أوروبا سيعني هذا أنها لن تكون فقط "أكبر المستفيدين" من تحويل مسار إمدادات الغاز الروسي عبر البحر الأسود، ولكنها ستتحكم في الغاز الذي ستتغذى به أوروبا التي سبق أن رفضت انضمام أنقرة لها.

وسيصبح بيد تركيا فتح وغلق صمام نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر هذا الخط الروسي التركي، والذي سيكون منافسا وأرخص من الخط المصري اليوناني القادم لأوروبا (عبر حاويات غاز مسيل أغلى ثمنا) والذي ينقل غازا إسرائيليا.

لذا عد عضو حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، يوسف كاتب أوغلو، أن تركيا "انتصرت دبلوماسيا واقتصاديا، وستكون أول دولة في حلف الناتو تنقل الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية".

وقال كاتب أوغلو لموقع "العربي" في 14 أكتوبر 2022، إن ما يؤهل تركيا لإنقاذ أوروبا قبل قسوة فصل الشتاء أن البنى التحتية للتخزين في بلاده "شبه جاهزة"، حيث توجد مراكز تخزين غاز ضخمة في منطقة سيلفري غربي إسطنبول، كما أمر الرئيس أردوغان ببناء أخرى سريعا في منطقة تراقيا.

وأمر أردوغان وزير الطاقة فاتح دونماز في 14 أكتوبر 2022 بالعمل على إنشاء "مركز دولي" لتخزين الغاز الطبيعي في تركيا "المركز الدولي لتوزيع الغاز" بشكل عاجل عقب اقتراح بوتين تحويل تركيا إلى مركز إمداد جديد.

وقال أردوغان إن أنقرة وموسكو "ستعملان فورا على تنفيذ مقترح بوتين لنقل الغاز عبر بلاده إلى القارة الأوروبية"، مضيفا في تصريحات نقلتها قناة "إن تي في" ووسائل إعلام تركية، أن تركيا "ستتحول إلى مركز لتصدير الغاز".

منافسة إقليمية

وقال كاتب أوغلو لـ"العربي" (مقره الدوحة) إن بلاده ستحدد سعر الغاز كمركز للتوزيع، بحيث تستأجر الغاز الروسي بالروبل وفق "اتفاقية سواب" وتبيعه باليورو أو الدولار، ما سينعكس على زيادة الاحتياطي الأجنبي في المصرف المركزي التركي.

وسيساهم ذلك أيضا في تحسين سعر صرف الليرة التركية التي تهاوت إلى ما دون 18.5 ليرة مقابل الدولار.

وفي 5 أغسطس/آب 2022 توصل الرئيسان التركي والروسي، إلى اتفاق يقضي بدفع أنقرة جزءا من ثمن الغاز الطبيعي لموسكو بـ"الروبل"، وهو ما عدته بعض الدول الغربية تحديا للعقوبات الصارمة المفروضة على موسكو.

ويقصد بـ "سواب/swap" اتفاقيات مبادلة العملة، أو دفع جزء من المبادلات التجارية بين بلدين بالعملات المحلية لهما، دون استخدام أية عملة ثالثة، مثل الدولار، وسبق توقيع مثلها بين تركيا وقطر عام 2018 ومع الإمارات أوائل 2022.

وسيؤثر ذلك أيضا على انخفاض سعر الغاز الذي ستحصل عليه أوروبا من تركيا ما سيغريها بالشراء، خاصة أنها كانت تستورد نحو 40 بالمئة من حاجتها للغاز من روسيا، ستحصل عليه عبر تركيا، وبسعر أرخص من الغاز الأميركي.

وقال موقع "بلومبرغ" الأميركي في 14 أكتوبر 2022، أن هذه الفكرة ستسهم في تدفق المزيد من الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أنابيب السيل التركي، وستفيد أنقرة في طلب خصومات على مدفوعات الغاز من شركة "غازبروم".

ودشن خط أنابيب "تورك ستريم" في يناير/كانون الثاني 2020 لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا، مرورا بالبحر الأسود إلى البر التركي، لينتهي عند الحدود التركية اليونانية، حيث تقام مستودعات ضخمة للغاز، ومن ثم يصدر إلى المستهلكين في شرق أوروبا ووسطها.

وأسعدت أزمة الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على موسكو إسرائيل، وبدأت تفرك يديها سعيدة تحسبا لمكاسب ذلك عليها، متوقعة أن تلجأ الدول الأوروبية لشراء غاز شرق المتوسط الذي يأتي أغلبه من إسرائيل بدل غاز روسيا.

ولأن الغاز الإسرائيلي يصل أوروبا بعد تسييله في مصر، وقعت إسرائيل ومصر في يونيو/حزيران 2022 اتفاقية وصفت بـ"التاريخية" لزيادة تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر بنسبة 50 بالمئة لينقل منها لاحقا إلى الاتحاد الأوروبي.

كما وقع الاتحاد الأوروبي وإسرائيل ومصر، مذكرة تفاهم في 15 يونيو 2022، تهدف إلى زيادة كميات الغاز الإسرائيلي المار عبر مصر إلى أوروبا ضمن خطة أوروبية للتخلص من الغاز الطبيعي الروسي والاعتماد على مصادر أخرى بينها إسرائيل.

وأوضحت قناة "كان" العبرية في نفس اليوم أن هذه الصفقة مدتها ثلاث سنوات، وستسد حاجة أوروبا بالحصول على الغاز الإسرائيلي، بعد إسالته عبر المنشآت المصرية التي تفتقر إليها إسرائيل.

ومكنت الاتفاقية إسرائيل من إرسال المزيد من الغاز إلى منشآت الغاز الطبيعي المصرية بهدف تسييله ثم إعادة تصديره إلى أوروبا، ما جعل القاهرة تعد نفسها مركزا إقليميا للغاز.

لكن لا يزال الغاز من مصر وإسرائيل مجتمعين قليلا، مقارنة بروسيا، حيث تخطط إسرائيل لزيادة الإنتاج في حقل "ليفياثان" إلى 24 مليار متر مكعب سنويا، وهو ما لا يقارن بروسيا، التي صدرت عام 2021 فقط 155 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا.

مركز عبور

وفي 13 أكتوبر 2022، قالت مجلة "إيكونوميست: "حتى لو شغلت مصر مصنعي الإسالة بكامل طاقتهما وشغلتهما بالغاز الإسرائيلي، فلا يمكنها أن تصدر أكثر من 2 بالمئة من إجمالي طلب أوروبا على الغاز و6 بالمئة من إجمالي استيراد أوروبا للغاز الروسي قبل الحرب".

بالمقابل، قال نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، لوكالة "الأناضول" الرسمية التركية في 14 أكتوبر 2022، إنه "يمكن تصدير 63 مليار متر مكعب من غازنا إلى أوروبا عبر تركيا، أي قرابة نصف ما كانت تستورده أوروبا من روسيا قبل الحرب".

وستشتعل المنافسة بين أنقرة والقاهرة كمركز إقليمي لتوزيع وبيع الغاز، وقد يحسم ذلك الموقف الأميركي والأوروبي بقبول شراء غاز روسي "رخيص" عبر تركيا، أو التوجه للخط الشرق أوسطي عبر مصر وإسرائيل، الأغلى ثمنا.

وربما لهذا قال أردوغان لبوتين عقب اتفاقهما إن الخطوات المشتركة لتركيا وروسيا في مجال الغاز "ستزعج بعض الدول لكننا مصممون"، في إشارة ربما إلى القاهرة، وربما للغرب الذي يقاطع موسكو وقد يرفض الخطط التركية الروسية، وفق مراقبين.

وعارضت فرنسا رسميا مقترح بوتين بإنشاء مركز غاز في تركيا لتصديره إلى أوروبا، وعدت الرئاسة في بيان 12 أكتوبر 2022 أنه "اقتراح لا معنى له" لأن الأوروبيين يريدون تقليص اعتمادهم على الغاز الروسي وتقليص ارتهانهم لموسكو.

وقبل سنوات أعلنت تركيا طموحها للتحول إلى "مركز عبور" لإمدادات الطاقة إلى أوروبا، وترتبط حاليا مع موسكو بخط أنابيب "تورك ستريم" (السيل التركي).

وحصل أردوغان على هدية ثمينة من الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد أن رفضت إدارته دعم خط "إيست ميد" الذي كان من المفترض أن يربط إسرائيل بقبرص واليونان، ثم بأوروبا، وتم التوافق بشأنه في فترة التوتر القصوى بين تركيا ودول متوسطية بينها مصر وقبرص واليونان مع برود في العلاقة مع إسرائيل.

ومنح رفض واشنطن خط "إيست ميد"، بسبب تكلفة الخط العالية وطوله، أردوغان فرصة التحرك لعرض فكرة أن تكون بلاده معبرا لغاز المتوسط أيضا، خاصة مع تحسن علاقته مع إسرائيل، وهو أمر قد يتحقق خاصة في ظل حاجة أوروبا إلى بدائل عاجلة لمقاومة ضغوط روسيا راهنا ومستقبلا، لكنه سيضر مصر.

ولو تحقق هذا الاتفاق التركي لتوصيل الغاز الروسي إلى أوروبا، بعدما رعت توصيل القمح الأوكراني للعالم، ستتحول أنقرة إلى مقر إقليمي قوي وحقيقي للغاز والطعام معا.

وتنافس بذلك مصر وإسرائيل واليونان، الذين استبعدوها من اتفاقات غاز إقليمية سابقة، لكنهم قد يحتاجون لها مستقبلا بدل احتياجها لهم.

وأشار التلفزيون الروسي الرسمي ضمنا لذلك، حيث أكد في 12 أكتوبر 2022 أنه "بفضل الغاز الروسي يمكن لتركيا أن تتحول إلى أكبر مركز لتوزيع الغاز في أوروبا".