وسط رفض غربي واسع.. بوتين يحقق مكاسب كبيرة بضم مناطق أوكرانية لروسيا

12

طباعة

مشاركة

"أؤمن أن معاناة وطني مصدر تعاستي، وازدهاره مصدر سعادتي"، بهذه الكلمات المقتبسة من الفيلسوف الروسي إيفان إيلين، افتتح الرئيس فلاديمير بوتين كلمته بمناسبة حفل توقيعه على "سلخ" أربع مناطق أوكرانية وضمها إلى بلاده.

وبجرة قلم، أعلن بوتين من داخل الكرملين في 30 سبتمبر/ أيلول 2022، انضمام مناطق دونيتسك، ولوغانسك، وخيرسون، وزابوريجيا إلى روسيا، وتشكل جميعها 15 بالمئة من مساحة أوكرانيا.

توقيع السلخ

وضربت روسيا بعرض الحائط "مبادئ القانون الدولي"، بضمها المناطق الأوكرانية المحتلة جزئيا، بعد أن سيطرت عليها بقوة السلاح خلال حرب تواصلها ضد هذا البلد منذ 24 فبراير/ شباط 2022.

وفي خطاب أمام مئات الأشخاص بقاعة سانت جورج بالكرملين، قال بوتين: "هذه هي إرادة الملايين من الناس"، في إشارة لقرار انفصال المناطق عن أوكرانيا التي تعد ثاني أكبر دولة في أوروبا بعد روسيا نفسها.

وجرى وضع طاولتين في القاعة لحفل التوقيع، في إحداهما جلس رؤساء المناطق الانفصالية الأربع، وتناوب كل منهم على التوقيع على الوثيقة، بينما جلس بوتين على الطاولة الأخرى، ووقع على معاهدات الانضمام نيابة عن الاتحاد الروسي.

وعقب التوقيع وقف بوتين في النصف وقبض بكلتا يديه أيدي قادة المناطق الانفصالية المعينين من قبله وهم: فلاديمير سالدو عن خيرسون، ويفغيني باليتسكي عن زابوريجيا، وعن منطقة دونيتسك دنيس بوشلين، وعن لوغانسك ليونيد باشنيك.

ولربط الخطوة الروسية بـ "خيار" الحرب النووية أكد الكرملين، قبل مصادقة بوتين على قرار الضم، أنه سيعد الهجمات ضد أي جزء من أراض أوكرانية توشك موسكو على ضمها "أعمالا عدوانية ضد روسيا نفسها".

ويعني ذلك أن العقيدة العسكرية الروسية تسمح للرئيس الروسي باستخدام "الأسلحة النووية" للدفاع عن أراضي بلاده، ولا سيما أن بوتين لوح بالدفاع عن تلك المناطق الانفصالية بتلك الأسلحة المحرمة دوليا.

وعلى عجل وبصناديق اقتراع، حمل بعضها إلى بيوت الأوكرانيين في المناطق الأربع، نظمت روسيا استفتاءات في الفترة من 23 إلى 27 سبتمبر 2022 وصفها الغرب بأنها "صورية ومزيفة".

لكن رغم ذلك أعلنت روسيا في اليوم الخامس من التصويت أن 96 بالمئة من المشاركين في الاستفتاء في دونيتسك التي يسيطر عليها الجيش الروسي بنسبة 60 بالمئة، وخيرسون وزابوريجيا أيدوا الانضمام إلى روسيا، كما أيده 97 بالمئة في مقاطعة لوغانسك.

وبضم المقاطعات الأربع الجديدة إلى "السيادة الروسية"، مثلما جرى مع شبه جزيرة القرم عام 2014، ارتفع عدد الأقاليم الروسية من 85 إلى 89.

وبذلك تصبح مساحة المناطق التي قطعتها روسيا من أوكرانيا مع شبه جزيرة القرم، نحو 136 كليومترا مربعا، أي أكثر بقليل من 27 بالمئة من المساحة الإجمالية لأوكرانيا.

استفزاز الغرب

ورغم أنه جرى بمراسم مليئة بالأبهة في الكرملين إعلان أكبر ضم في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن بوتين بدا أنه مكترث بالأهمية الإستراتيجية لتلك المناطق، أكثر من العواقب التي سترتد على بلاده.

وخاصة أن كلمة بوتين كانت واحدة من أصعب خطاباته المناهضة للولايات المتحدة منذ صعوده للسلطة قبل عقدين من الزمن، وقال إنه مستعد لمواصلة ما أسماه معركة من أجل "روسيا تاريخية أكبر"، واصفا واشنطن وحلفاءها بأنهم "شيطانيون".

ولعب بوتين البالغ من العمر 69 عاما على وتر الكلمات حينما وجه حديثه للنخبة السياسية في بلاده الذين اجتمعوا في واحدة من أهم قاعات الكرملين لمشاهدته وهو يوقع وثائق الضم.

وقال زاعما عن سكان مناطق الأربع: "لقد اختاروا أن يكونوا مع شعبهم، وطنهم الأم، ليعيشوا مع مصيرهم، وينتصروا معه".

وعلى الفور توعد الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد فرض بلاده رزمة عقوبات جديدة وثقيلة على روسيا، "بحشد المجتمع الدولي للتنديد بهذه التحركات ومحاسبة روسيا" وتعهد بمواصلة تزويد أوكرانيا بالمعدات للدفاع عن نفسها.

بينما تعهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي باستعادة المناطق المحتلة، وطلب من حلف شمال الأطلسي "ناتو" الإسراع في طلب بلاده للانضمام إلى هذا التكتل الأمني.

وإخضاع المناطق الأربع للسيطرة الروسية جزء أساسي من الغزو الذي أمر به بوتين على أوكرانيا، كونها توفر فعليا لموسكو جسرا بريا إلى شبه جزيرة القرم المحتلة.

ورغم عد الغرب أن قرار ضم مناطق أوكرانية لروسيا "غير شرعي"، لكنه تبقى تلك المناطق تشكل خسارة كبيرة من الناحية الاقتصادية لأوكرانيا.

لوغانسك ودونيتسك

وتقع منطقتا لوغانسك ودونيتسك في حوض دونباس الناطق بالروسية في شرق أوكرانيا، وشهدتا احتجاجات مناهضة للسلطة في كييف عام 2014.

وحينئذ طالب الانفصاليون بإقامة نظام فيدرالي خاص، قبل أن يعلنوا في أبريل/ نيسان من عام 2014 تأسيس جمهوريتين شعبيتين.

ولم تقبل السلطات الأوكرانية الجديدة آنذاك بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا عام 2014، بالوضع هناك، وعدت إدارتي لوغانسك ودونيتسك تنظيمين إرهابيين، وأعلنت بدء "عملية لمكافحة الإرهاب" ضدهما.

وبعد أشهر من معارك خلفت أكثر من 40 ألفا بين قتيل وجريح، حسب الأمم المتحدة، ودمارا واسعا، توصل الطرفان بمساعدة روسيا وألمانيا وفرنسا بحلول مطلع 2015 إلى حزمة إجراءات تسوية أطلق عليها "اتفاقيات مينسك" ما أدى إلى انحسار القتال وتجميد الصراع.

وعادت لوغانسك ودونيتسك إلى الواجهة في 21 فبراير/ شباط 2022، حينما اعترف بوتين باستقلالهما عن أوكرانيا.

وكان ذلك بمثابة خطوة تمهيدية لتبرير الغزو في 24 من الشهر نفسه، بزعم أنه ضرورة لإنقاذ الشعوب الناطقة بالروسية من إبادة مزعومة.

وتشكل هاتان المنطقتان حوض دونباس الصناعي في أوكرانيا، وتتمتع بعديد من الموارد الزراعية والطاقية، ولا سيما معدن الفحم.

ويقدر عدد سكان دونيتسك بحوالي 2.2 مليون نسمة، وتصل مساحتها إلى 26500 كيلومتر مربع، بينما لوغانسك 1.5 مليون نسمة، وتبلغ مساحتها 26700 كليومتر مربع.

وحصل نحو 800 ألف من سكان لوغانسك ودونيتسك، منذ عام 2014 على الجنسية الروسية، بعدما وقع بوتين أمرا في أبريل 2019 يسمح للسكان هناك بالتقدم بطلب للحصول على الجنسية بموجب إجراء مستعجل.

كما مولت روسيا بشكل مباشر معاشات التقاعد ورواتب القطاع العام في المنطقتين الانفصاليتين، فضلا عن رفع القيود المفروضة على صادرات وواردات البضائع بين روسيا وأجزاء من دونيتسك ولوغانسك.

خيرسون وزابوريجيا

وتقع خيرسون في شرق أوكرانيا بالقرب من شبه جزيرة القرم، وتبلغ مساحتها 28500 كليومتر مربع، وهي أول مدينة كبرى تسقط في أيدي القوات الروسية منذ بدء الغزو في 24 فبراير.

وتنبع أهمية خيرسون الساحلية من كونها تقع على مصب نهر دنيبر، وتطل على بحر آزوف من الجنوب الشرقي، والبحر الأسود من الجنوب الغربي.

يبلغ عدد سكان مدينة خيرسون 280 ألف نسمة (عام 2021)، ويتحدث نصف سكانها اللغة الروسية.

وتمتلك المدينة أكبر ميناء في أوكرانيا لبناء السفن في البحر الأسود، وهي مركز رئيس للشحن، ونمت المدينة بشكل مطرد خلال القرن التاسع عشر بسبب الشحن وبناء السفن، وظلت مركزا رئيسا لبناء السفن طوال القرن العشرين.

وتعد مركزا اقتصاديا كبيرا تعتمد عليه أوكرانيا، لكونها تحتضن صناعات في الهندسة وتكرير النفط وتصنيع المنسوجات القطنية وغيرها.

علاوة على أنها مدينة سياحية، إذ تعد أهم المدن الأوكرانية التي تستقطب السياح لطبيعتها المميزة وإطلالتها على نهر دنيبر وبحري آزوف والأسود، كما تعد المنطقة الرئيسة للزراعة الأوكرانية.

وكانت أنظار بوتين موجهة نحو المدينة الإستراتيجية منذ عام 2014 حينما تحدث عن أنها أحد أهم مراكز إعادة إحياء مشروع "نوفوروسيا"، أو "روسيا الجديدة" التاريخي.

وتسعى روسيا من المشروع لإقامة جسر بري من أراضيها مرورا بالمناطق الشرقية في إقليم دونباس وما حولها، إلى شبه جزيرة القرم المحتلة، بالإضافة إلى امتداد ذلك نحو مدينة أوديسا ومينائها الإستراتيجي.

أما زابوريجيا فتقع جنوبي أوكرانيا على ضفاف نهر دنيبرو، وتبلغ مساحتها 27000 كليومتر مربع، وكان عدد سكانها قبل الحرب 1,63 مليون نسمة، والآن نحو 72 بالمئة من مساحتها واقعة تحت احتلال موسكو بما فيها أكبر موانئها بيرديانسك.

وتنبع أهمية المنطقة من وجود محطة زابوريجيا للطاقة النووية التي سيطرت عليها القوات الروسية في 4 مارس/ آذار 2022، وتزود المحطة ربع أوكرانيا بالكهرباء، ما يعني أن سلاح الكهرباء سيبقى عاملا مستفزا لكييف.

والمحطة هي الأكبر في أوروبا من حيث السعة الإنتاجية، وهي كذلك الأكبر بين أربع محطات للطاقة النووية في أوكرانيا، والتي توفر معا حوالي نصف الكهرباء في البلاد.

وتعد محطة توليد الكهرباء ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لروسيا لأنها لا تبعد سوى 200 كيلومتر عن شبه جزيرة القرم المحتلة.

لكن رغم ذلك، فإن هناك خشية من التسبب بحادثة نووية، في حين تكثفت الدعوات لجعل المنطقة منزوعة السلاح، وتعطل إمداد الطاقة للمنشأة ما أثار مخاوف من حدوث كارثة إشعاعية.

وفي المناطق التابعة للأقاليم الأربعة جرى قطع الوصول إلى شبكات التلفزيون والهاتف المحمول الأوكرانية، ولا تتوفر سوى القنوات الروسية ومزودي خدمات الاتصالات الروس.

كما استبدلت عملة أوكرانيا الهريفنيا بالكامل تقريبا بالروبل الروسي.

خناق جديد

اللافت كذلك، أن القوات الروسية منيت بانتكاسات شديدة في ساحات القتال في أوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة.

لكن الآن بعد أن ضم بوتين هذه الأراضي بالقوة، يمكن له تعبئة جيشه بشكل أكبر ودعوة المزيد من الناس إلى الخطوط الأمامية، بدعوى أن على الروس حماية أراضيهم.

ولهذا فرض بوتين، "التعبئة الجزئية" الاحتياطية لمواطني بلاده في 21 سبتمبر 2022.

وتطمح روسيا لتجند في "التعبئة" 300 ألف مجند، وفق رقم حددته مبدئيا وزارة الدفاع، ممن تتراوح أعمارهم من 35 إلى 70 عاما، حسب الرتبة والمؤهلات العسكرية.

وعقب ساعات من إعلان بوتين، قرر عشرات الآلاف الفرار خارج البلاد بسرعة هربا من عمليات التجنيد.

وأمام خطوة اقتطاع أراض أوكرانية جديدة، التي وصفها مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي جيك ساليفان، بأنها "إهانة لمبادئ السيادة ووحدة الأراضي"، فإن كثيرا من المراقبين يعدون أن بوتين كان بحاجة إليها ليظهر أنه حقق بعض النتائج للشعب الروسي بعد هزيمة قواته.

كما أن ما قام به بوتين ينهي أي سبل للمفاوضات من الطرف الأوكراني، لأن موسكو لم "تعد تحترم المعاهدات والاتفاقات الدولية".

وقال بيان صادر عن وزراء خارجية كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي: "لن نعترف أبدا بعمليات الضم المعلنة، ولا بـ"الاستفتاءات" الصورية التي أجريت تحت تهديد السلاح".

كما قالت وزارة الخارجية التركية في بيان: "لا يمكننا قبول قرار ضم 4 مناطق أوكرانية، الذي يعد انتهاكا خطيرا لمبادئ القانون الدولي الراسخة".

ويؤكد المحلل السياسي أستاذ الصراعات الدولية محمد الشرقاوي، أن مواجهة الخطوة الروسية بالضم ستكمن في رزم عقوبات جديدة عليها، بمعنى أن بوتين سيدفع الغرب لتضييق الخناق عليه لأبعد حد ممكن.

ولفت الشرقاوي، في تصريحات صحفية بتاريخ 30 سبتمبر، إلى أن ما قام به بوتين سيثير مجددا النقاش حول احتفاظ مجلس الأمن بحق روسيا باستخدام حق النقض "فيتو" داخل أروقته لمنع القرارات الدولية.