“جهاز مستقبل مصر”.. إمبراطورية عسكر السيسي من العقارات إلى الألبان

استمرار هذه الكيانات الهجينة يهدد في النهاية بنية الدولة نفسها
يمثل صعود جهاز “مستقبل مصر” نموذجا متقدما من "الدولة داخل الدولة"؛ حيث يعاد بناء الاقتصاد المصري وفق هندسة أمنية بحتة، ويدار كمزرعة مغلقة بيد الأجهزة العسكرية.
هذه المنظومة لا تهدد فقط فرص الإصلاح الاقتصادي بل تخلق بيئة شديدة الهشاشة اقتصاديا واجتماعيا؛ إذ ترتبط استمراريتها بالكامل ببقاء النظام السياسي، وتبني نموذج اقتصاد ريعي مغلق محكوم بالتوجيه العسكري لا قواعد السوق.
وفي صيف 2025، كان جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة"، وهو الذراع الاقتصادية الجديدة للقوات الجوية المصرية، على موعد مع محطة بارزة من تمدده المتسارع في مفاصل الاقتصاد الوطني.
فخلال أيام، أعلن الجهاز عن إطلاق مشروعين ضخمين، جسدا بدقة طبيعة تحولاته الأخيرة، كان أولهما في مطلع يونيو/ حزيران.
ووقع الجهاز عقد شراكة مع ثلاثة من كبار مطوري القطاع الخاص لتدشين مدينة جديدة باسم "جريان" على ضفاف التفريعة الجديدة لنهر النيل بمحور الشيخ زايد، بمساحة تتجاوز 1600 فدان وتكلفة متوقعة تقارب 1.5 تريليون جنيه مصري (نحو 31 مليار دولار أميركي).
المشروع العقاري الضخم، يجمع بين السكن الفاخر، والمسطحات المائية الاصطناعية، والفنادق العالمية، والجامعات الدولية.
وفي اليوم نفسه، أعلنت وزارة الصحة عن بدء تشغيل أول مصنع محلي لإنتاج ألبان الأطفال في مصر بالشراكة مع جهاز "مستقبل مصر" أيضا، في محاولة للتخفيف من أزمة نقص ألبان الأطفال المستوردة.
وهو مصنع تشرف عليه المؤسسة العسكرية لأول مرة بهذا الشكل المباشر في ملف بالغ الحساسية اجتماعيا واقتصاديا.
هذان المشروعان ليسا سوى وجهين حديثين لشبكة معقدة من الأنشطة الاقتصادية التي يديرها الجهاز منذ سنوات، مستندا إلى مظلة قانونية أُسِّست خصيصا عام 2022 بقرار جمهوري رقم 591، لكنها فعليا غطاء لعمليات توسع بدأت منذ 2020 بإشراف مباشر من ضباط القوات الجوية.
البداية والتطور
وفي تقرير موسع نشره موقع "مدى مصر" المحلي، في 5 يونيو/حزيران 2025، جرى تفكيك خريطة الصعود المتسارع لجهاز "مستقبل مصر"، الذي بدأ كذراع فرعي محدود ضمن مشروع "المليون ونصف فدان" الذي أطلقته الدولة عام 2015.
وذلك قبل أن يتحول خلال سنوات قليلة إلى مركز ثقل كامل في إدارة الأمن الغذائي والسيطرة على الموارد الزراعية في البلاد.
وبحسب التقرير، حصل جهاز "مستقبل مصر" منذ عام 2017 على 200 ألف فدان فقط من أراضي المشروع تحت إشراف شركة "تنمية الريف المصري الجديد"، إلى جوار أراض مخصصة لجهات عسكرية أخرى مثل قوات الدفاع الجوي وجهاز الخدمة الوطنية ووزارة الزراعة.
لكن في غضون أقل من ثلاث سنوات نجح الجهاز في استصلاح هذه المساحة بالكامل، عبر زراعة محاصيل أساسية للسوق المحلي مثل القمح والشعير والذرة والبنجر، إلى جانب محاصيل تصديرية كالبطاطا والبصل والموالح.
هذا الأداء السريع، مقارنة بتعثر مشروعات مماثلة، أكسب الجهاز زخما سياسيا مباشرا، دفع رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي إلى تكليف قائده التنفيذي العقيد طيار بهاء الغنام، في عام 2021، بإدارة أراضٍ إضافية تتجاوز المليون فدان.
وتحديدا في نطاق مشروع "الدلتا الجديدة" البالغ مساحته 2.2 مليون فدان غرب البلاد.
وفي العام التالي، صدر قرار جمهوري بتحويل المشروع إلى جهاز مستقل، دون أن يتم نشره في الجريدة الرسمية حتى الآن، وفق ما أكَّده تقرير "مدى مصر".
وترافق هذا التحول المؤسسي مع موجة ضخمة من تخصيصات الأراضي والمشروعات؛ حيث توسعت سيطرة الجهاز لتشمل مساحات واسعة تمتد من الصحراء الغربية قرب الضبعة، إلى أسوان والعوينات جنوبا، وصولا إلى شمال ووسط سيناء شرقا.
وذلك بالتوازي مع خطة طموحة تستهدف زراعة 4.5 ملايين فدان بحلول 2027، بما يعادل نحو نصف الأراضي الزراعية في مصر، وتوفير مليوني فرصة عمل خلال الفترة ذاتها؛ إذ يستحوذ الجهاز على نصيب كبير من قرارات السيسي الخاصة بمنح أراضٍ للقوات المسلحة، وأجهزتها النافذة.

تحولات عميقة
وإلى جانب التوسع الأفقي في الزراعة، أطلق الجهاز سلسلة مشروعات تصنيعية مرتبطة بها، شملت تجفيف المحاصيل وتخزينها، وإنتاج السكر من البنجر، وتصنيع العسل الأسود والأعلاف الحيوانية، وبناء مبردات ضخمة للبطاطا وصوامع تخزين للحبوب.
لكن التحول الأعمق والأكثر دلالة جاء مع اتساع صلاحيات الجهاز إلى ملفات سيادية كانت تاريخيا حصرية لوزارات مدنية؛ ففي عام 2024، أسندت له مهمة استيراد القمح والسلع الإستراتيجية التي ظلت على مدى خمسة عقود من اختصاص هيئة السلع التموينية، كما تولى إصدار موافقات استيراد الماشية بديلا عن وزارة الزراعة.
وامتد نشاطه إلى مشاريع الثروة الحيوانية وتربية الماشية والدواجن وإنتاج الألبان، وفق مصادر نقل عنها التقرير.
وفي موازاة هذا النفوذ المتزايد، سيطر الجهاز على إدارة أربع من أكبر البحيرات الطبيعية بالبلاد: ناصر جنوبا، وبحيرات المنزلة والبرلس والبردويل شمالا.
وذلك بعد أن نزعت تبعيتها من جهاز حماية وتنمية البحيرات الذي تأسس قبل أعوام فقط بديلا لهيئة الثروة السمكية التي كانت تتبع رئاسة الوزراء.
كذلك استحوذ "مستقبل مصر" مطلع عام 2025 على الحصة الأكبر في بورصة السلع المصرية.
وجاء الاستحواذ بعد سنوات قليلة من تأسيسها عام 2020 بموجب قرار من مجلس الوزراء، وباتت البورصة اليوم تحت إشرافه المباشر.
كما جاء ذلك مع خطط موسعة لضم منتجات إستراتيجية تشمل المحاصيل الأساسية والأعلاف والأسمدة والمبيدات الزراعية، لتصبح أداة مركزية بين يديه لتنظيم السوق بالكامل.
ورافق هذا التوسع حملات دعائية واسعة النطاق شملت بيانات حكومية رسمية، تغطيات إعلامية متواترة، دعم برلماني في مجلسي الشيوخ والنواب، وصفحة إلكترونية نشطة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت اسم “محبي العقيد بهاء الغنام”، يشارك فيها كوادر الجهاز والعاملون فيه.
وتُوِّج هذا الظهور المتزايد للجهاز بمشهد افتتاح السيسي مقرَّه الجديد في مطلع مايو/أيار 2025؛ حيث قدم رئيس جهاز مستقبل مصر بهاء الغنام عرضا موسعا حول خطط الزراعة والغذاء في مصر.
وفي اليوم ذاته، أعلن المتحدث باسم الجهاز خالد صلاح عن بدء محادثات مع القطاع الخاص لإنشاء أول مصنع محلي لإنتاج ألبان الأطفال، باستثمارات مقدرة بـ 500 مليون دولار تتطلب استيراد 40 ألف بقرة وزراعة 50 ألف فدان برسيم، دون تقديم دراسات جدوى معلنة حتى الآن.

ملامح الخلل
لكنَّ التحدي الجوهري الذي يواجه صعود جهاز "مستقبل مصر" لا يتوقف عند اتساع صلاحياته، بل يبدأ فعليا من بنية الإدارة التي يعتمدها، والتي تحوّله تدريجيا إلى كيان اقتصادي مغلق يشبه الشركة القابضة.
فمع تزايد المهام الموكلة إليه وتراكم الملفات الحساسة تحت سلطته، لم يعد غياب الرقابة مقتصرا على الجوانب المالية المتعلقة بميزانية الجهاز وأرباحه، بل امتد إلى غياب أية آليات مؤسسية منظمة للمحاسبة والمراجعة.
فالجهاز بات ينتج نوعا من البيروقراطية الموازية التي جاءت أصلا بدعوى تجاوز البيروقراطية التقليدية المعطلة، وفق تحقيق نشره موقع "زاوية 3" المحلي، في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024،
وفي الوقت ذاته، يلزم موظفي الجهاز، وفق ما نقل التقرير عن عدد منهم، بالخضوع للقضاء العسكري في حال ارتكاب أي مخالفات وظيفية، ما يغلق عمليا أي باب لمحاسبة داخلية أو شفافية إدارية.
وبرزت ملامح هذا الخلل بوضوح مع انتقال ملف استيراد القمح من هيئة السلع التموينية إلى "مستقبل مصر".
ورغم استعانته بكوادر من وزارة التموين وبعض مستوردي الحبوب السابقين، اصطدم الجهاز بعقبة رئيسة، وهي رفض كبار الموردين العالميين مثل روسيا وأوكرانيا والأرجنتين التعامل معه بصفته جهة غير مألوفة ولا تملك سابقة تعامل مع الأسواق الدولية.
وحاولت وزارة التموين آنذاك تدارك الأزمة بإرسال خطابات رسمية إلى حكومات مثل روسيا تؤكد أن "مستقبل مصر" أصبح المشتري الرسمي للقمح المصري، لكن ذلك لم يُغيّر موقف الموردين لفترة طويلة.
ومع تعطل عمليات الاستيراد، اضطر الجهاز إلى تغيير تكتيكه، فلجأ إلى شراء شحنات القمح المستوردة من التجار المحليين بعد وصولها فعليا إلى الموانئ المصرية.
ونقل التقرير عن أحد كبار مستوردي الحبوب قوله: “مع بداية تسلمهم للملف، لم يتمكنوا من الشراء مباشرة من الخارج، فظلوا شهورا يرسلون ضباطا برتبة عقيد إلى الموانئ”.
وأردف: "كلما وصلت سفينة قمح كانوا يستدعون صاحب الشحنة لمقابلتهم في مطار ألماظة، وهناك يطلبون منه بيع الشحنة أو جزء منها بالجنيه المصري، تحت مبرر حاجة الدولة".
ونتيجة لهذه الإجراءات الارتجالية، تعرض سوق القمح المحلي لاضطرابات متكررة وارتفاع في الأسعار.

نزاع طريق أسيوط
في موازاة ذلك، اتسع نفوذ الجهاز ليشمل أراضي زراعية قائمة منذ عقود، وهو ما كشف عنه نزاع ظهر في طريق أسيوط الغربي قرب محافظتي الجيزة والفيوم، في 27 مايو 2025.
إذ تقدم أعضاء جمعية "الفيوم الجديدة الزراعية" بشكاوى رسمية إلى مجلس الوزراء والقوات المسلحة ضد محاولات الجهاز طردهم من أراضٍ يمتلكونها منذ الثمانينيات.
وبحسب وثائق تقدموا بها، يمتلك هؤلاء المزارعون عقود تقنين رسمية من وزارة الزراعة، وأذون زراعة صادرة من القوات المسلحة، إضافة إلى عقود قروض بنكية رسمية.
لكن رغم ذلك، أجبر المزارعون على توقيع عقود إيجار جديدة بأسعار مرتفعة تتراوح بين 13 و18 ألف جنيه للفدان سنويا.
كما منعوا من إخراج محاصيلهم بعد أن أغلقت نقاط أمنية الطرق المؤدية إلى أراضيهم.
وكان السبب الأعمق لهذا النزاع يرتبط برغبة جهاز "مستقبل مصر" في الاستحواذ على أراضٍ جاهزة للاستصلاح بدلا من البدء من الصفر، بعد أن استعادت الدولة مساحات واسعة في المنطقة نفسها كانت تملكها شركات كويتية.
كل هذه الممارسات، تعكس طبيعة الخلل الهيكلي في الجهاز الذي لا يملك بنية قانونية شفافة ولا إطارا تنظيميا معلنا.
فرغم صدور قرار جمهوري بإنشائه، لم ينشر القرار حتى الآن في الجريدة الرسمية أو الوقائع المصرية.
ومع عدم نشر القرار يبقى اختصاص الجهاز في حالة غموض قانوني، ويجعله عرضة للطعن بعدم الدستورية مستقبلا.

الكيانات الهجينة
وفي تفسير ديناميكيات صعود الجهاز في ظل غياب البنية القانونية الواضحة، أوضح الباحث في مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط، يزيد صايغ، أن عهد السيسي يقوم على منح صلاحيات استثنائية للأفراد الذين ينجحون في إقناع الرئيس بأدائهم الفوري.
وذلك، كما حدث مع شخصيات مثل وزير النقل كامل الوزير أو رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، وفق ما قال صايغ خلال حلقة "بودكاست" في 28 مايو 2025، مع الإعلامي المصري حافظ الميرازي.
وأضاف أنّ “السيسي يميل إلى تكثير نسخ النماذج التي يراها ناجحة في عينه”.
ورأى أن "مشروع مستقبل مصر يمثل نموذجا مصغرا لسياسة أوسع ينتهجها النظام: تفكيك الدولة التقليدية وإنشاء كيانات بديلة خارجة عن الرقابة التشريعية والإدارية".
وأكمل: "ما يجرى ليس إصلاحا للبيروقراطية، بل تجاوز لها بالكامل عبر إنشاء هياكل لا تخضع لأي منظومة قانونية أو مساءلة رقابية".
وطرح صايغ تساؤلا جوهريا: “إذا كان الهدف إنشاء كيان ربحي يدير أموالا عامة، فلماذا لا يدار ضمن شركات قطاع الأعمال التي تخضع لقوانين المحاسبة والإفصاح؟”
وأشار إلى أن استمرار هذه الكيانات الهجينة يهدد في النهاية بنية الدولة المصرية نفسها.